نص الشبهة:
فإن قيل فما تأويل قوله تعالى:﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ … ﴾ أو ليس هذا عتابا له صلى الله عليه وآله من حيث اضمر ما كان ينبغي أن يظهره وراقب من لا يجب أن يراقبه فما الوجه في ذلك؟.
الجواب:
قلنا: وجه هذه الآية معروف وهو ان الله تعالى لما أراد نسخ ما كان عليه الجاهلية من تحريم نكاح زوجة الدعي، والدعي هو الذي كان احدهم يجتبيه ويربيه ويضيفه إلى نفسه على طريق البنوة، وكان من عادتهم أن يحرموا على أنفسهم نكاح أزواج أدعيائهم كما يحرمون نكاح أزواج أبنائهم، فأوحى الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وآله ان زيد بن حارثة وهو دعي رسول الله صلى الله عليه وآله سيأتيه مطلقا زوجته، وأمره ان يتزوجها بعد فراق زيد لها ليكون ذلك ناسخا لسنة الجاهلية التي تقدم ذكرها، فلما حضر زيد مخاصما زوجته عازما على طلاقها، أشفق الرسول من أن يمسك عن وعظه وتذكيره لا سيما وقد كان يتصرف على أمره وتدبيره، فرجف المنافقون به إذا تزوج المرأة يقذفونه بما قد نزهه الله تعالى عنه فقال له﴿ … أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ … ﴾ 1تبرؤا مما ذكرناه وتنزهشا، وأخفى في نفسه عزمه على نكاحها بعد طلاقه لها لينتهي إلى أمر الله تعالى فيها.
ويشهد بصحة هذا التأويل قوله تعالى:﴿ … فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴾ 1فدل على ان العلة في أمره في نكاحها ما ذكرناه من نسخ السنة المتقدمة.
فإن قيل العتاب باق على كل حال لأنه قد كان ينبغي أن يظهر ما أظهره ويخشى الله ولا يخشى الناس.
قلنا: أكثر ما في الآية إذا سلمنا نهاية الاقتراح فيها أن يكون صلى الله عليه وآله فعل ما غيره أولى منه، وليس أن يكون صلى الله عليه وآله بترك الأولى عاصيا. وليس يمتنع على هذا الوجه أن يكون صبره على قذف المنافقين اهانته بقولهم أفضل وأكثر ثوابا، فيكون أبداء ما في نفسه أولى من إخفائه على انه ليس في ظاهر الآية ما يقتضي العتاب، ولا ترك الأولى.
وأما إخباره بأنه (اخفى ما الله مبديه) فلا شئ فيه من الشبهة، وانما هو خير محض.
وأما قوله﴿ … وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ … ﴾ 1ففيه أدنى شبهة، وإن كان الظاهر لا يقتضي عند التحقيق ترك الأفضل، لأنه اخبر أنه يخشى الناس وان الله أحق بالخشية، ولم يخبر انك لم تفعل إلا حق وعدلت إلى الادون، ولو كان في الظاهر بعض الشبهة لوجب ان نتركه ونعدل عنه للقاطع من الأدلة.
وقد قيل ان زيد بن حارثة لما خاصم زوجته زينب بنت جحش وهي ابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وأشرف على طلاقها اضمر رسول الله صلى الله عليه وآله انه إن طلقها زيد تزوجها من حيث كانت ابنة عمته. وكان يجب ضمها إلى نفسه كما يجب احدنا ضم قراباته إليه، حتى لا ينالهم بؤس ولا ضرر. فاخبر الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وآله والناس بما كان يضمره من إيثار ضمها إلى نفسه ليكون ظاهر الأنبياء صلى الله عليه وآله وباطنهم سواء.
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله للأنصار يوم فتح مكة وقد جاء عثمان بعبد الله بن أبي سرح وسأله أن يرضى عنه، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله قبل ذلك قد هدر دمه فأمر بقتله، فلما رأى عثمان استحي من رده ونكس طويلا ليقتله بعض المؤمنين فلم يفعل المؤمنون ذلك انتظارا منهم لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله مجددا، فقال للأنصار: أما كان فيكم رجل يقوم إليه فيقتله ؟ فقال له عباد بن بشر: يا رسول الله صلى الله عليه وآله ان عيني ما زالت في عينك انتظارا ان تومئ إلي فاقتله. فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: الأنبياء (صلى الله عليه وآله) لا يكون لهم خائنة أعين. وهذا الوجه يقارب الأول في المعنى.
فان قيل: فما المانع مما وردت به الرواية من ان رسول الله صلى الله عليه وآله رأى في بعض الأحوال زينب بنت جحش فهواها فلما أن حضر زيد لطلاقها أخفى في نفسه عزمه على نكاحها بعده وهواه لها، أو ليس الشهوة عندكم التي قد تكون عشقا على بعض الوجوه من فعل الله تعالى وأن العباد يقدرون عليها ؟ وعلى هذا الوجه يمكنكم إنكار ما تضمنه السؤال.
قلنا: لم ننكر ما وردت به هذه الرواية الخبيثة من جهة أن فعل الشهوة يتعلق بفعل العباد وأنها معصية قبيحة، بل من جهة أن عشق الأنبياء عليهم السلام لمن ليس يحل لهم من النساء منفر عنهم وحاط من مرتبتهم ومنزلتهم، وهذا مما لا شبهة فيه، وليس كل شئ يجب أن يجتنبه الأنبياء صلى الله عليه وآله مقصورا على أفعالهم.
ألا ترى ان الله تعالى قد جنبهم الفظاظة والغلظة والعجلة، وكل ذلك ليس من فعلهم، وأوجبنا أيضا أن يجتنبوا الأمراض المنفرة والخلق المشينة كالجذام والبرص وتفاوت الصور واضطرابها، وكل ذلك ليس من مقدورهم ولا فعلهم.
وكيف يذهب على عاقل ان عشق الرجل زوجة غيره منفر عنه معدود في جملة معائبه ومثالبه، ونحن نعلم انه لو عرف بهذه الحال بعض الأمناء والشهود لكان ذلك قادحا في عدالته وخافضا في منزلته، وما يؤثر في منزلة احدنا أولى من ان يؤثر في منازل من طهره الله وعصمه وأكمله وأعلى منزلته. وهذا بين لمن تدبره 2.
- 1. a. b. c. القران الكريم: سورة الأحزاب (33)، الآية: 37، الصفحة: 423.
- 2. تنزيه الأنبياء عليهم السلام للسيد مرتضى علم الهدى، دار الأضواء: 155 ـ 157.