بسم الله الرحمن الرحيم
بقلم: زكريا بركات
هناك تصور خاطئ يحاول البعض نشره بين الناس، وخلاصة هذا التصور: أن جميع ما وصلنا من أحاديث تُروى عن أهل البيت عليهم السلام، هي أحاديث صحيحة، وأن تقسيمها إلى صحيح وضعيف هي بدعة اخترعها التيار الأصولي في الشيعة بعد أن تم استيراد علوم الحديث في القرن السابع من فكر البعداء عن أهل البيت عليهم السلام.
ويمكننا التعرف على خطأ هذا التصور من خلال التدبر في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) . [الحجرات: 6] .
فالله تعالى يأمرنا بالتوقف عند أخبار غير أهل الاستقامة، فالخبر الذي ينقله إلينا الفاسق؛ يتوجب علينا أن نتحقق من صحته.
وهذا يعني عدم التسوية بين خبر الفاسق وخبر العادل.
وفي كتب الحديث نفسها نجد العديد من الشواهد على أن للتصحيح والتضعيف جذوراً قديمة في التراث الأصيل الذي ينتمي إلى عصور سبقت ظهور الانقسام إلى الأخبارية والأصولية.
ومن تلك الشواهد ما عرف من أن الأجلاء الثلاثة لم يكونوا يروون إلا عن الثقات، أقصد صفوان بن يحيى وابن أبي عمير وأحمد بن محمد بن أبي نصر، فقد قال الشيخ الطوسي في كتاب العُدّة 1 : 154 : “سوت الطائفة بين ما يرويه محمد بن أبي عمير، وصفوان بن يحيى، وأحمد بن محمد بن أبي نصر وغيرهم من الثقات، الذين عرفوا بأنهم لا يروون ولا يرسلون إلا عمن يوثق به، وبين ما أسنده غيرهم، ولذلك عملوا بمراسيلهم إذا انفردوا عن رواية غيرهم”.
وهذه يعني أن الرواية عن الثقات ليست كالرواية عن غير الثقات، وإلا لكان اقتصار هؤلاء الثلاثة الأجلاء على الرواية عن الثقات هو عمل بغير موجب، ولكان تركهم للرواية عن غير الثقات تضييعاً لتراث أهل البيت عليهم السلام كما يحاول أصحاب الشبهة أن يُصوِّروا الموضوع.
وقد توفي صفوان سنة 210 هـ ، وتوفي ابن أبي عمير سنة 217 هـ ، وتوفي أحمد بن محمد بن أبي نصر سنة 221 هـ ، رحمة الله عليهم، فانظر إلى قِدَمِ هذا المنهج وأصالته في عمل سلفنا الصالح.
ومن الشواهد: نقد الحديث عند الفضل بن شاذان رحمة الله عليه (ت 260 هـ) ، وهو من أصحاب الرضا والجواد والهادي والعسكري عليهم السلام.
ففي رجال الكشي 1 : 507 برقم 979 ، عن الفضل بن شاذان أنه قال: “لا أستحل أن أروي أحاديث محمد بن سنان. وذكر الفضل في بعض كتبه: أن من الكاذبين المشهورين ابن سنان…”.
وفي رجال الكشي أيضاً 1 : 507 برقم 980 ، عن الفضل بن شاذان أنه قال: “ردوا أحاديث محمد بن سنان”.
وهذان النقلان يدلان على أن الفضل بن شاذان كان لا يقبل الحديث المروي عن الأئمة عليهم السلام إذا وقع في طريقه محمد بن سنان بسبب أنه متهم بالكذب.. علماً أن أحاديث محمد بن سنان في الكافي تبلغ 479 رواية.
ومن الشواهد ما رواه الكليني (ت 329 هـ) رحمه الله في الكافي 1 : 62 ـ 64 برقم 1 ، بسنده عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال ـ ضمن حديث طويل ـ : “إِنَّمَا أَتَاكُمُ الْحَدِيثُ مِنْ أَرْبَعَةٍ لَيْسَ لَهُمْ خَامِسٌ: رَجُلٍ مُنَافِقٍ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ مُتَصَنِّعٍ بِالْإِسْلَامِ لَا يَتَأَثَّمُ وَلَا يَتَحَرَّجُ أَنْ يَكْذِبَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله مُتَعَمِّداً، فَلَوْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ كَذَّابٌ لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ وَلَمْ يُصَدِّقُوهُ…”.
وبناء على القول بأن الكليني رحمه الله يعتقد بصحة كل ما ضمنه كتابه الكافي، تكون هذه الرواية شاهدةً على أن الكليني يعتقد بأن الطعن في الرواي بالكذب ـ مثلاً ـ موجبٌ لترك روايته وعدم قبول ما يرويه عن المعصوم.
ومن الشواهد أن الكليني رحمه الله روى في الكافي 1 : 49 ـ 50 برقم 8 ، بسنده عن الإمام الباقر عليه السلام في قول اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) [عبس: 24] قَالَ: قُلْتُ: مَا طَعَامُهُ؟ قَالَ: عِلْمُهُ الَّذِي يَأْخُذُهُ عَمَّنْ يَأْخُذُهُ.
فهذه الرواية تؤيد أهمية الفحص عن السند ونقده؛ وإلا فيكون من يقبل بالحديث من غير تمييز لصلاح رواته أو فسادهم، مخالفاً لهذه الرواية.
ومن الشواهد ما رواه الكليني رحمه الله في الكافي 1 : 330 بسنده عن أحمد بن إسحاق عن الإمام الهادي عليه السلام أنه سأله: مَنْ أُعَامِلُ أَوْ عَمَّنْ آخُذُ وَقَوْلَ مَنْ أَقْبَلُ؟ فَقَالَ لَهُ الْعَمْرِيُّ ثِقَتِي فَمَا أَدَّى إِلَيْكَ عَنِّي فَعَنِّي يُؤَدِّي وَمَا قَالَ لَكَ عَنِّي فَعَنِّي يَقُولُ فَاسْمَعْ لَهُ وَ أَطِعْ فَإِنَّهُ الثِّقَةُ الْمَأْمُونُ… الحديث.
أقول: لو كان كل راوي يُقبل نقلُه، لما كان ثمة موجبٌ لطرح هذا السؤال على الإمام الهادي عليه السلام.. ولو كان الثقة وغيره يستويان في الحكم وصحة الاعتماد والأخذ لما صح تفريع لزوم الطاعة على الوثاقة والأمانة في كلام الإمام الهادي عليه السلام.
ومن الشواهد ما في رجال الكشي (ص490) بسنده عن عبد العزيز بن المهتدي والحسن بن علي بن يقطين أن كلاً منهما قال للإمام الرضا (ع) : “جعلت فداك إني لا أكاد أصل إليك أسألك عن كل ما أحتاج إليه من معالم ديني، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ فقال: نعم” . انتهى.
أقول : فلو كان معاصرو الأئمة يأخذون الرواية عن كل أحد من غير تمييز بين الثقة وغير الثقة، لما كان لهذا السؤال من داع. ولو كان اشتراط الثقة لقبول الرواية والعمل بها أمراً غير معتبر شرعاً لنبه المعصوم عليه السلام على خطئه.
ومن الشواهد ما في رجال الكشي (ص595) ، بسنده عن علي بن المسيب قال قلت للرضا (ع) شقتي بعيدة ولست أصل إليك في كل وقت فممَّن آخذ معالم ديني؟ فقال: من زكريا بن آدم القمي المأمون على الدين والدنيا… الحديث.
أقول: الرواية ظاهرة في تفريع حجية زكريا بن آدم ومقبوليته على أمانته، فدل على أنه لا بد من معايير لقبول الراوي.
ومن الشواهد أن محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد (ت 343 هـ) ، وهو شيخ الصدوق، كان أيضاً يحكم على الرواية بالضعف بسب ضعف الراوي، فمن ذلك قول النجاشي في رجاله (ص334) في ترجمة محمد بن عيسى بن عبيد: “ذكر أبو جعفر بن بابويه عن ابن الوليد أنه قال: ما تفرد به محمد بن عيسى من كتب يونس وحديثه لا يعتمد عليه”.
أقول: ولو تتبعت روايات محمد بن عيسى عن يونس بن عبد الرحمن في الكافي الشريف لوجدتها 479 رواية، بينما لا تجد رواية واحدة لمحمد بن عيسى عن يونس في من لا يحضره الفقيه، مما ينبئك عن أن الشيخ الصدوق ملتزم بالتضعيف السندي الذي صدر من ابن الوليد، مع أن الأصوليين لم يقبلوا هذا التضعيف واعتبروه من أخطاء ابن الوليد وأتباعه.
وسيأتي دليل آخر على تبني ابن الوليد لمنهج النقد السندي قريباً ضمن الشاهد التالي.
ومن الشواهد أن الشيخ الصدوق رحمه الله (ت 381 هـ) قال في مقدمة كتابه من لا يحضره الفقيه: “وَلَمْ أَقْصِدْ فِيهِ قَصْدَ الْمُصَنِّفِينَ فِي إِيرَادِ جَمِيعِ مَا رَوَوْهُ بَلْ قَصَدْتُ إِلَى إِيرَادِ مَا أُفْتِي بِهِ وَأَحْكُمُ بِصِحَّتِهِ وَأَعْتَقِدُ فِيهِ أَنَّهُ حُجَّةٌ فِيمَا بَيْنِي وَ بَيْنَ رَبِّي تَقَدَّسَ ذِكْرُهُ وَتَعَالَتْ قُدْرَتُهُ”. انتهى.
أقول: فكلام الشيخ الصدوق واضح في أنه يعتقد أن المحدثين والمصنفين يوردون في كتبهم كل ما وصلهم من غير تمييز بين الصحيح والضعيف.. وهذا يعني أن الشيخ الصدوق يعتقد أن جزءاً من الروايات التي في كتب الحديث هي روايات ضعيفة لا يصح الاحتجاج بها والإفتاء في ضوئها..
وقد قال الصدوق رحمه الله في المقدمة نفسها: ” وَجَمِيعُ مَا فِيهِ مُسْتَخْرَجٌ مِنْ كُتُبٍ مَشْهُورَةٍ عَلَيْهَا الْمُعَوَّلُ وَإِلَيْهَا الْمَرْجِعُ…”، ثم ذكر بعض تلك الكتب التي أخذ منها.. وسنضرب بعض الأمثلة على أن الشيخ الصدوق يرد الروايات ويضعفها بسبب الضعف في رواتها، فيتحصل من ذلك أن مجرد الرواية في الكتب المعتبرة، ليس سبباً كافياً لصحتها في نظر الشيخ الصدوق، بل هو يهتم بالسند ويسقط الرواية من الحجية بسبب الضعف السندي.
وقال الشيخ الصدوق في الفقيه 2 : 90 ـ 91 : وروى الحسن بن راشد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: “قلت: جعلت فداك للمسلمين عيد غير العيدين؟ قال: نعم يا حسن وأعظمهما وأشرفهما، قال: قلت له: فأي يوم هو؟ قال: هو يوم نصب أمير المؤمنين عليه السلام علماً للناس، قلت: جعلت فداك وأي يوم هو؟ قال: إن الأيام تدور وهو يوم ثمانية عشر من ذي الحجة قال: قلت: جعلت فداك وما ينبغي لنا أن نصنع فيه؟ قال: تصومه يا حسن وتكثر فيه الصلاة على محمد وأهل بيته عليهم السلام، وتبرأ إلى الله عز وجل ممن ظلمهم حقهم، فإن الأنبياء عليهم السلام كانت تأمر الأوصياء باليوم الذي كان يقام فيه الوصي أن يتخذ عيداً، قال: قلت: ما لمن صامه منا؟ قال: صيام ستين شهراً، ولا تدع صيام يوم سبعة وعشرين من رجب فإنه هو اليوم الذي أنزلت فيه النبوة على محمد صلى الله عليه وآله وثوابه مثل ستين شهرا لكم” .
ثم ذكر الصدوق خبراً آخر، ثم قال معلقاً على الخبر أعلاه:
“وأما خبر صلاة يوم غدير خم والثواب المذكور فيه لمن صامه فإن شيخنا محمد بن الحسن رضي الله عنه كان لا يصححه ويقول: إنه من طريق محمد بن موسى الهمداني وكان كذاباً غير ثقة وكل ما لم يصححه ذلك الشيخ قدس الله روحه ولم يحكم بصحته من الأخبار فهو عندنا متروك غير صحيح”.
وهذا الكلام صريح في أن الشيخ الصدوق يعتمد التضعيف السندي لرد الرواية وترك الاعتماد عليها.
إلاَّ أنَّ الشيخ الصدوق روى الخبر نفسه والذي اختار تركه وعدمَ صحته في كتابه ثواب الأعمال ص74 ، من غير تعليق عليه بالتضعيف، بل روى بجانبه خبراً آخر مؤيِّداً له من طريق شيخه محمد بن الحسن وهو ينتهي أيضاً إلى الحسن بن راشد، وفي الباب من ثواب الأعمال ثلاث روايات.
وهذا يعني أن الشيخ الصدوق كان كغيره من المصنفين في غير كتابه من لا يحضره الفقيه، فهو أيضاً في كتبه الأخرى يمكن أن يروى خبراً وهو يعتقد أنه غير صحيح.
وقال الشيخ الصدوق في كتاب الفقيه 2 : 121 : “وَلَا أُفْتِي بِالْخَبَرِ الَّذِي أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ؛ لِأَنَّهُ رِوَايَةُ سَمَاعَةَ بْنِ مِهْرَانَ وَ كَانَ وَاقِفِيّاً”.
فدل ذلك أن الطعن بالمعتقد من موجبات ضعف السند عند الشيخ الصدوق.
ولم يرو الشيخ الصدوق ولا رواية واحد في الفقيه من طريق محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس بن عبد الرحمن، مما ينبئك عن أن الشيخ الصدوق ملتزم بالتضعيف السندي الذي صدر من ابن الوليد الذي ضعف كل الروايات التي ينفرد بروايتها محمد بن عيسى عن يونس، مع أن الأصوليين لم يقبلوا هذا التضعيف واعتبروه من أخطاء ابن الوليد وأتباعه.
وبدراسة أسانيد كتب شيخ الصدوق الأخرى، يتبين أن الشيخ الصدوق روى الكثير من الروايات من طريق محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس بن عبد الرحمن، وهذا يؤيد أن الشيخ الصدوق يعتمد منهج النقد السني في كتابه من لا يحضره الفقيه، فلا يورد فيه الأحاديث التي يعتقد أنها ضعيفة سنداً، بينما يوردها في كتبه الأخرى التي لم يؤلفها لغرض الفتوى والاحتجاج.
ومن الشواهد: نقد الحديث عند النجاشي رحمة الله عليه (ت 463 هـ أو بعدها) ، فقد قال النجاشي ـ رحمه الله ـ في ترجمة “الحسن بن العباس بن الحريش الرازي” : “أبو علي روى عن أبي جعفر الثاني عليه السلام ضعيف جداً. له كتاب: إنا أنزلناه في ليلة القدر، وهو كتاب ردي الحديث، مضطرب الألفاظ. أخبرنا إجازة محمد بن علي القزويني قال: حدثني أحمد بن محمد بن يحيى، عن الحميري، عن أحمد بن محمد بن عيسى عنه”.
أقول: إن الحسن بن العباس هذا من أصحاب الإمام الجواد عليه السلام، ويروي في كتابه هذا عنه عليه السلام، يشهد بذلك تتبع رواياته، من قبيل ما رواه الصدوق ـ رحمه الله ـ في كمال الدين 1 : 304 ـ 305 ، قال: حدثنا محمد بن الحسن رضي الله عنه، قال حدثنا محمد بن يحيى العطار، عن سهل بن زياد الأدمي، وأحمد بن محمد بن عيسى، قالا: حدثنا الحسن بن العباس بن الحريش الرازي، عن أبي جعفر محمد بن علي الثاني، عن آبائه عليهم السلام، عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه، قال لابن عباس: إن ليلة القدر في كل سنة، وإنه ينزل في تلك الليلة أمر السنة، و لذلك الأمر ولاة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله. فقال ابن عباس: من هم؟ قال: أنا وأحد عشر من صلبي أئمة محدثون.
وقد أورد الشيخ الكليني ثماني روايات من طريقه في الكافي 1 : 242 ـ 243 تحت عنوان “بَابٌ فِي شَأْنِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَتَفْسِيرِهَا” ، ولم يورد في ذلك الباب رواية غير هذه الثمان روايات، فاعتماده على الكتاب المذكور في ذلك الباب.
فنتيجة كلام النجاشي أنه لا يقبل روايات الحسن بن العباس، وبناء عليه تكون روايات الكافي في هذا الباب كلها ضعيفة عنده.
وقال النجاشي 1 : 421 في ترجمة منخل بن جميل الأسدي:
“ضعيف، فاسد الرواية، روى عن أبي عبد الله عليه السلام. له كتاب التفسير”.
فحصيلة نقد النجاشي أنه يصف ما رواه منخل بن جميل عن الإمام الصادق بالفساد، ومعنى ذلك أنه لا يقبل بروايته ولا يحتج بها.
نكتفي بهذا القدر، وفيه كفاية إن شاء الله، والحمد لله رب العالمين.