نص الشبهة:
كيف يمكن تقييم حركة المختار الثقفي وشخصيته ؟ فإننا نلاحظ في الروايات مدحا له وذما ؟
الجواب:
تعرض المختار بن أبي عبيدة الثقفي رحمه الله إلى حملة تشويه لحركته ولشخصيته على السواء من قبل فئتين في التاريخ الإسلامي : الأمويين الذين حاربهم في البداية واستأصل شوكتهم ، وانتقم لآل محمد منهم ، وسيأتي في الملحقات ذكر بعض من أقام عليهم جزاء جناياتهم من قادة الأمويين وأتباعهم الذين كان لهم دور سيء في كربلاء . ومن الزبيريين الذين حاربهم وهزمهم في البداية ومع أنهم قد انتصروا عليه في نهاية الأمر لفترة قصيرة لكي ينهزموا بعدها أمام الأمويين ، إلا أن المختار كان قد عبأ الجو الكوفي الذي كانوا يحاولون استمالته إلى جانبهم ، عبأه ضدهم فلم ينتفعوا به إلى الأخير . فكان أن شنوا عليه الحرب الإعلامية ـ أثناء المعركة ـ وبعدها .. وإذا علمنا أن من الزبيريين من كان شغله التأريخ وذكر الأنساب ، فغذوا المصادر التاريخية بعدهم بالمعلومات المشوهة لحركة المختار وشخصيته بما يصل في بعضها إلى التناقض أو التضاد ولكن ذلك لا يهم إذا كان الغرض عندهم يتحقق .
وربما وصلت تأثيرات تلك الحرب الإعلامية إلى الوسط الذي كان يؤيد حركة المختار مما يشير إليه النهي الصادر عن الإمام بأن لا يسبوا المختار ولا يتكلموا ضده .
فعن أبي جعفر الباقر عليه السلام : لا تسبوا المختار فإنه قتل قتلتنا وطلب بثأرنا وزوج أراملنا وقسم فينا المال على العسرة وقد رواه الكشي بسنده عن حمدويه عن يعقوب عن ابن ابي عمير وهم ثقات عن هشام بن المثنى وهو وإن لم يوثق توثيقا خاصا إلا أنه ممن روى عنه المشايخ الثقات عن سدير والد حنان وهو ممدوح وممن روى عنه المشايخ الثقات ، وقد استحسن هذا الطريق في الخلاصة وكذا السيد بن طاووس .
وعن الصادق عليه السلام بسند حسن : ما امتشطت فينا هاشمية ولا اختضبت حتى بعث إلينا المختار برؤوس الذين قتلوا الحسين عليه السلام رواه الكشي عن ابراهيم بن محمد بن العباس الختلي ( وهو ممدوح ) عن أحمد ابن ادريس عن محمد ابن احمد عن الحسن بن علي ( بن عبد الله بن المغيرة ) عن العباس بن عامر عن سيف بن عميرة عن جارود بن المنذر ( هؤلاء ثقات اماميون ) .
والغريب أن هذه الحملة المضادة للمختار اشترك فيها ( المتخاصمان ) من الأمويين الذين انتقم منهم ومن أنصارهم ، ومن الزبيريين الذين ثار على واليهم في الكوفة وهم الذين تحالفوا فيما بعد مع من استطاع الهرب من قتلة الحسين عليه السلام .. وعملوا على تلك الحملة بشكل دقيق ومستمر مما جعل أثرها يبقى إلى الآن في كتب التاريخ والأدب . فتارة يصورونه بأنه ادعى النبوة وأن الوحي ينزل عليه وأخرى يتهمونه بأنه من الكيسانية أتباع محمد بن الحنفية ، ولا أدري ( ولا المنجم يدري ) كيف يجتمع ادعاء النبوة مع اتّباع محمد بن الحنفية ؟ والمشكلة التي ساعدت على انتشار مثل هذه التهم أن الظرف الذي كان يمر به الإمام زين العابدين لم يكن ليسمح له بإظهار علاقة المختار به ..
وربما يلاحظ أن في كتب الرجال روايات يستفاد منها ذم المختار بن ابي عبيدة وهذه إما أن تكون غير نقية السند ، وإما أنه يمكن توجيهها ببعض الجهات ، فإن من أفضل أصحاب الإمامين الباقر والصادق وهو زرارة لو لم يكن أفضلهم ، ومع ذلك قد وردت روايات ـ وبعضها تام السند ـ فيها ذم ظاهري له ، وذلك للحفاظ عليه مثلما خرق الخضر السفينة لكي تنجو من الملك الغاصب . فمنها ما رواه جبرئيل بن احمد عن العنبري عن محمد بن عمرو عن يونس بن يعقوب عن أبي جعفر عليه السلام : كتب المختار بن أبي عبيدة إلى علي بن الحسين وبعث إليه بهدايا من العراق فلما وقفوا على باب علي بن الحسين دخل الآذن يستأذن لهم فخرج إليه رسوله فقال : أميطوا عن بابي فإني لا أقبل هدايا الكذابين ولا أقرأ كتبهم .
وفيه أن جبرئيل بن أحمد وهو الفاريابي لم يوثق ، والعنبري لا ذكر له في الرجال ويحتمل أن يكون العبيدي محمد بن عيسى وهو ثقة ، والمشكلة أيضا في رواية يونس بن يعقوب وهو من أصحاب الصادق و الكاظم و الرضا عليهم السلام وتوفي في زمن الإمام الرضا ولم يرو عن الباقر عليه السلام أصلا ، وإنما رواياته عن الباقر إما بالواسطة كما يلحظ المتتبع في الكافي والتهذيب أو مرفوعة عن الإمام الباقر كما في أصول الكافي ، ولم ترد ولا رواية واحدة عنه عن الإمام الباقر ، وأن يكون ( أبو جعفر ) في الرواية مقصودا به الجواد غير محتمل لوفاة يونس في زمن الرضا . فهذه الرواية مرفوعة للإمام الباقر ولا يمكن الاعتماد عليها .
وهناك روايات أخرى حتى لو سلمت من المناقشة السندية ، فإنه يمكن توجيهها بالتقية حيث أن سلطنة المختار لم تكن شاملة ، وكان الإمام السجاد عليه السلام يعلم ـ حتى بالمقاييس الطبيعية للحكم على الأشياء ـ فضلا عن علم الإمامة أن أمر المختار لا يتم ، فلم يكن من الصالح إظهار التأييد العلني له ، أو بيان علاقته به .
كما يمكن الجمع بين الروايات التي تشير إلى رفض الإمام استقباله وبين الروايات المادحة له بما ذكره ابن نما ، من أن أنصار المختار جاؤوا لمحمد بن الحنفية طالبين منه النصر والتأييد ، فجاء بهم إلى الإمام زين العابدين وعرض عليه أمرهم ، فقال عليه السلام : يا عم لو أن عبدا اسود تعصب لنا أهل البيت لوجب على الناس مؤازرته وقد وليتك هذا الأمر فاصنع ما شئت .. وقد لا يحتمل وضع الكتاب هذا مزيدا من التحقيق في الروايات ، فيمكن لمن أراد المزيد من التفصيل مراجعة تنقيح المقال للعلامة المامقاني ، وتنزيه المختار للمحقق السيد المقرم وهو مطبوع في آخر كتابه زيد الشهيد 1 .
1. من قضايا النهضة الحسينية ( أسئلة وحوارات ) : الجزء الأول .