نص الشبهة:
يعتقد الشيعة عقيدة (البداء) ، ثم يدعون أن أئمتهم يعلمون الغيب ! فهل الأئمة أعظم من الله ؟! ومهما حاولوا أن يتأولوا هذه العقيدة التي تنسب الجهل إلى الله ـ تعالى ـ ؛ فإن أخبارهم الكثيرة تخالف تأويلاتهم (انظرها في « أصول مذهب الشيعة الإمامية » للشيخ القفاري ( 2 / 1131 ـ 1151 ) .) .
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
وله الحمد ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين . .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . . وبعد . .
فإننا نذكر هنا ما ورد في كتاب « طريق الحق » حول موضوع البداء ، فنقول :
1 ـ إن البداء إن كان بمعنى أن الله تعالى قد غير رأيه بسبب اكتشافه الخطأ في الرأي الأول ، فهذا باطل ، ومحال على الله تعالى ، العالم بكل شيء ، والآيات القرآنية والأدلَّة العقلية صريحة في ذلك .
ولا يعتقد أحد من شيعة أهل البيت « عليهم السلام » بهذا الأمر البديهي البطلان . بل هم يحرصون على اقتلاع أمثال هذه الأباطيل والأضاليل من أذهان جميع الناس . .
2 ـ إن البداء الذي نعتقد به : هو أن ترد الأخبار عن الله تعالى ورسوله « صلى الله عليه وآله » عن الآجال والأرزاق ، والخلق ، والصحة ، والمرض ، وما إلى ذلك وفق ما تقتضيه الحكمة فيما يرتبط بالسنن الإلهية فيها ، وإجراء الأمور على طبيعتها . . كالإخبار عن أن عُمْر فلان من الناس ـ بحسب تركيبة جسده ، وطبيعة مكوناته ، والمحيط الذي يعيش فيه ، والهواء الذي يتنشقه ، والمسلك الذي ينتهجه و . . و . . الخ . . هو مئة سنة مثلاً . . ثم لنفترض أن ذلك قد كتب في لوح المحو والإثبات ، وتطلع عليه الملائكة . . وأخبر تعالى به نبيه و . . و . .
ولكنه تعالى لا يكتب في اللوح ، أو لا يخبر نبيه ، أو يخبره ويأمره بعدم البوح : بأن هذا الشخص سوف يقتل ظلماً ، أو عقوبة ، أو يستشهد في ساحات الجهاد . . أو أنه سيشرب السم ، أو سيخرج من محيطه السليم إلى محيط آخر موبوء مثلاً ، أو سيقع من شاهق ، أو سيتعرض لحادث سير ، أو زلزال أو . . أو . .
فإذا حصل ذلك ، وقتل هذا الرجل وهو في سن العشرين بسبب ما ذكرناه ، ورأى الناس أو الملائكة أو النبي ذلك ، فسيقولون : إن هذا بداء . أي ظهور بعد خفاء . .
وهكذا الحال فيما لو أخبر بمقدار عمر فلان ، ولم يخبر عن أنه يعلم بأنه سيقطع رحمه ، فيموت قبل ذلك التاريخ بثلاثين سنة . أو سيصل رحمه فيزاد في عمره ثلاثون سنة . .
على أن من الممكن أن يطلع الله نبيه على ما في اللوح المحفوظ . . ولكنه يأمره بأن يخبر الناس عما في لوح المحو والإثبات ، الذي تكتب فيه مقتضيات السنن ، من دون نظر إلى ما يعرض لها من موانع ، أو ما يفقد من موانع ، أو ما يَعْرُض من تغيرات ، بسبب نشوء مقتضيات جديدة ، نتيجة عوامل أخرى فرضتها إرادات آخرين تكون هي الأخرى في جملة السنن التي وضعها الله تعالى .
3 ـ ولو لم يكن العمر الذي نقص أو زاد هو ذلك المقدار الذي اقتضته السنن ، لم يكن معنى للحكم بزيادة العمر ، أو بنقيصته ، فإن وجود الحد المعين هو الذي يصحح القول بالزيادة عليه ، والنقيصة عنه .
4 ـ فظهر : أن البداء هو ظهور شيء بعد خفائه ، أو تجسده على صفحة الواقع بعد كمونه . . فإن أضيف البداء إلى غير الله تعالى قُصِد به الظهور بعد الخفاء ، كقوله تعالى : ﴿ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا … ﴾ 1.
وإن أضيف إلى الله تعالى أريد به التجسد والتحقق على صفحة الوجود لأمر يعلم الله تعالى منذ الأزل أنه يستحقه في حينه بعد تحقق مقتضياته ، وشرائطه ، وانتفاء موانعه .
وهذا كتجسد المنْطَبَق للعلم على صفحة الواقع في قوله تعالى : ﴿ … وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ … ﴾ 2.
وقوله سبحانه : ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ 3. وهناك آيات أخرى تدخل في هذا السياق .
وهكذا يقال بالنسبة للأرزاق وغيرها ، مما يكتب تقديره في اللوح ـ أعني لوح المحو والإثبات ـ ثم تظهر الموانع التي لم يخبر عنها ، أو تفقد الشرائط . فيمحى ما اقتضته السنة الإلهية ، ويكتب ما تحقق على صفحة الوجود بالفعل بالإستناد إلى المقتضيات بحسب ما توفر لها ، أو فقد منها من شرائط وموانع . . ومن موارد البداء في القرآن الكريم قصة يونس وقومه ، وقصة ذبح اسماعيل ، ثم فداؤه بذبح عظيم ، وربما تكون قصة نوح وابنه أيضاً من هذا القبيل .
5 ـ لو أن الأمر لم يكن على هذا النحو لم يكن هناك لوح محو وإثبات ، ولوح محفوظ « وهو أم الكتاب » ، واللوح المحفوظ أو « أم الكتاب » هو العلم المخزون المكنون الذي يختص به الله تعالى لنفسه ، فلا يُطلع عليه سائر الملائكة ، وقد يُطلع عليه بعض أنبيائه وأوليائه ، ومن خلال مطابقة ما في لوح المحو والإثبات له . . يأتي ، أو فقل : يتبلور معنى البداء . .
6 ـ من الواضح : أن السنن الإلهية هي مجموعة نظم وقوانين تنتظم في دائرة قانون العلية ، أراد الله تعالى أن يُخضِعَ مسيرة الكون والحياة لها . .
واختيار وإرادة الإنسان من جملة هذه السنن والمؤثرات .
فإذا كان الله تعالى قد جعل نظاماً يرتبط بالأعمار من خلال عناصر مختلفة داخلة في تكوين البشر ، فهو يستطيع أيضاً إخضاع هذه الأعمار نفسها لشرائط مختلفة قد تتوفر وقد لا تتوفر له في محيطه ، وفي الهواء والغذاء ، وفي الحالات النفسية المختلفة ، وما إلى ذلك . . كما أنه قد يجعل لها موانع ومعوقات ، ويكون من جملتها إرادة الإنسان نفسه بأن يختار ما يوجب قتل نفسه ، أو لا يختاره ، وقد تكون الموانع هي إرادات غيره ، فيختارون التسبب بقتله ، أو لا يختارون ذلك . .
يضاف إلى ذلك : أن إرادة الله تعالى أيضاً تبقى هي العلة التامة التي تهيمن على جميع العلل ، والأسباب ، والمسببات ، وأنه تعالى قد يتدخل لإلغاء الأسباب والعلل ، وفقاً لما رسمه تعالى لمسيرة الحياة في أحوالها وتقلباتها ، وما يختل من شرائط ، ويطرأ من موانع إلا حين يتنافى إعمالها مع مقام الألوهية ، كما لو كان ذلك من مفردات الظلم ، أو إذا كان إعمالها يتناقض مع الوعد الإلهي ، أو غير ذلك . .
وقد قال تعالى : ﴿ … وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ 4.
وقال : ﴿ … لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾ 5.
7 ـ وبهذا البيان ، وبقانون البداء بالبيان الذي قدمناه يظهر بوضوح : بطلان قولهم : إن الله تعالى محكوم بقدره ، وأنه قد جف القلم بعد أن كتب ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، وأنه صار الله ـ والعياذ بالله ـ مغلول اليد ، كما قال تعالى : ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ … ﴾ 6.
وإذا كان عدم القول بالبداء معناه : أنه قد فُرِغَ من الأمر . وأن يده تعالى مغلولة ، وأنه عاجز عن التصرف . . فلا أظن أن أحداً يجرؤ على القول بذلك ، بعد أن صرح الله تعالى بذم اليهود على مقولتهم تلك ، ولهذا الأمر سلبياته الكبيرة والخطيرة كما سنشير إليه عن قريب .
فوائد الاعتقاد بالبداء
أما فوائد الإعتقاد بالبداء ، فهي كثيرة ، ونذكر منها :
1 ـ إن الإعتقاد بالبداء يذكي الطموح في الإنسان ، ويدعوه إلى رسم الخطط ، ووضع البرامج ، والسعي للتخلص من العوائق ، وتغيير المعادلات .
2 ـ ذكر المجلسي « رحمه الله » أيضاً ، ثلاث فوائد للبداء ، هي :
ألف : أن يظهر الله سبحانه للملائكة الكاتبين في اللوح ، والمطلعين عليه ، لطفه تعالى بعباده ، وإيصالهم في الدنيا إلى ما يستحقونه ، فيزدادون به معرفة . .
ب : أن يعلم العباد ـ بواسطة إخبار الرسل والحجج لهم ـ أن لأعمالهم الحسنة مثل هذه التأثيرات ، وكذلك لأعمالهم السيئة تأثيراتها . فيكون ذلك داعياً لهم إلى فعل الخيرات ، وصارفاً لهم عن فعل السيئات . .
ج : إنه إذا أخبر الأنبياء والأوصياء « عليهم السلام » ، الناس أحياناً ببعض الأخبار عن لوح المحو والإثبات ، ثم أخبروهم بخلافه يلزم الناس الإذعان به ، ويكون في هذا نوع من تشديد التكليف عليهم لمزيد من اللطف بهم ، والتسبيب لمزيد من الأجر لهم . إذ لا شك في أنهم يؤجرون على هذا التسليم 7 . . كما أنه يبسط رجاءهم ، ويشجعهم على التوبة ، وأعمال الخير ، والإلحاح في الطلب .
سلبيات الإعتقاد بعدم البداء
أما الاعتقاد بعدم البداء ، ففيه السلبيات التالية :
1 ـ إنه يجر الإنسان إلى حالة من الكسل والخنوع ، ويفقده كل حيوية ونشاط وقوة ، حتى لا يكون إنساناً فاعلاً في الحياة ، ولا مؤثراً فيها . .
2 ـ إنه يجر الإنسان إلى اليأس القاتل ، وإلى الخيبة ، والفشل الروحي الذريع . . والقنوط من رحمة الله .
3 ـ إنه يعني : أن الله سبحانه عاجز عن التصرف ، وأنه غير قادر على فعل أي شيء ، وحين يرى الإنسان ربه عاجزاً عن أي تصرف ، فإنه يفقد الدافع للارتباط به والتعبد له ، إذ لماذا يرتبط به ؟! ولماذا يطلب منه حوائجه ، أو يتوسل إليه لكشف الضر عنه ؟! أو يدعوه لشفاء المريض ، ولزيادة الرزق ، ولغير ذلك ؟!
إنه سيشعر أنه في غنى عنه ، ولا مبرر للإرتباط به . .
وبذلك يرى نفسه غير مطالب بتحقيق رضا الله ، ولا بالتزام الحدود الشرعية والإيمانية ، لأن الأوامر والنواهي تفقد معناها ، بعد أن فقدت أثرها .
4 ـ إن عدم الإعتقاد بالبداء يفقد الإيمان بالغيب مضمونه ومعناه . . لأنه يحوله من غيب حي ، وفاعل ، ومؤثر ، إلى غيب قاس وقاهر ، يبعث الجمود والشلل في الحياة الإنسانية . .
أي أن الإعتقاد بعدم البداء المساوق للإعتقاد بالجبرية الإلهية للبشر ، هو المسبب لتلك السلبيات .
الجاهلون بعقيدة البداء
فأما الجاهلون بالبداء من الشيعة وغيرهم ، فإنما يعملون بمقتضى فطرتهم ، التي تقودهم إلى انتهاج سبيل من يؤمن بهذه الحقيقة الفطرية الراسخة .
ولا محذور في عدم الإعتقاد به ، بسبب الجهل ، أو عدم الإلتفات . . من حيث الإعتقاد ، ولكن ذلك يوجب حرمان الإنسان من فوائد وعوائد رصدها الله لمن يلتفت ويعتقد بهذا الأمر بصورة تفصيلية .
وقد ظهر بذلك أن الذين ينكرون البداء ، بحجة أنه يستبطن الجهل الإلهي ، وأنه تعالى لم يكن يعلم بالشيء ثم علمه . . لم يفهموا حقيقة البداء على النحو الذي بيناه ، من أن ما يكتب في اللوح ـ أعني لوح المحو والإثبات ـ هو ما يوافق الحكمة وما تقتضيه سنن الخلق والتكوين ، ونظام العلية ، بغض النظر عما يرد على ذلك من موانع ، أو ما يستجد من مقتضيات ، قد يكون بعضها من خلال فعل الإنسان الإختياري الذي يتمثل بالصدقة ، أو الدعاء ، أو الإستشفاع ، على القاعدة التي أشير إليها في قوله تعالى : ﴿ … إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ … ﴾ 8.
ونضيف إلى ما ذكرناه
أولاً : إن علم الأئمة « عليهم السلام » بالغيب ، ينتهي إلى الله تعالى ، فهو تعالى مصدره ، وإليه مآله ، فلا معنى لأن يقال : إن القول بالبداء معناه : أن الأئمة أعلم من الله ، لأن الله لم يعلم والأئمة يعلمون . وذلك لما يلي :
ألف : إن الله يعلم جميع الغيوب ، والبداء ليس معناه الظهور له ، بل معناه الظهور على صفحة الوجود والواقع ، فهو مثل قوله : ﴿ … لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ﴾ 9. فإنه تعالى عالم به ، ولكن المقصود : هو أن يتجسد ما يعلمه على صفحة الوجود . . فالإعتقاد بالبداء لا يستلزم نسبة الجهل إلى الله .
ب : إن الأئمة والأنبياء « عليهم السلام » إنما يأخذون الغيب عن رسول الله « صلى الله عليه وآله » وهو بدوره يأخذه عن الله ، فلا معنى للقول بأنهم صاروا أعلم منه . .
ج : إن البداء إنما هو في الإخبار عن مقتضيات السنن ، والسكوت عن موانعها وشرائطها . فإن حدث المانع ، أو لم يتحقق شرط تأثير المقتضي علم أن ما كان مكتوباً في اللوح المحفوظ يختلف عما في لوح المحو والإثبات ، لأن الذي يكتب في اللوح المحفوظ وأم الكتاب هو ما يحصل ويتحقق ، أما ما يكتب في لوح المحو والإثبات ، فهو ما تقتضيه السنن الإلهية بغض النظر عن الموانع والشرائط ، فإن تحققت الشرائط وفقدت الموانع تطابق ما في اللوح المحفوظ مع ما في لوح المحو والإثبات ، وإن فقدت الشرائط ووجدت الموانع اختلف هذا عن ذاك .
وإنما يكون ذلك كله بتدبير من الله تعالى ، لمصلحة تدبير الكون وما فيه وفق الحكمة . .
والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله . . 10 .
- 1. القران الكريم: سورة الزمر (39)، الآية: 48، الصفحة: 464.
- 2. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 143، الصفحة: 22.
- 3. القران الكريم: سورة محمد (47)، الآية: 31، الصفحة: 510.
- 4. القران الكريم: سورة الكهف (18)، الآية: 49، الصفحة: 299.
- 5. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 9، الصفحة: 50.
- 6. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 64، الصفحة: 118.
- 7. راجع : سفينة البحار مادة البداء .
- 8. القران الكريم: سورة الرعد (13)، الآية: 11، الصفحة: 250.
- 9. القران الكريم: سورة الكهف (18)، الآية: 12، الصفحة: 294.
- 10. ميزان الحق . . (شبهات . . وردود) ، السيد جعفر مرتضى العاملي ، المركز الإسلامي للدراسات ، الطبعة الأولى ، الجزء الثالث ، 1431 هـ . ـ 2010 م ، السؤال رقم (103) .