من الشبهات التي أُثيرت حول نهضة الحسين عليه السلام هو ما ورد في بعض الكلمات من أنّ خروج الحسين عليه السلام يُعتَبر شقّاً لعصا الأُمّة، وهي مفسدة تُرجَّح على مصلحة الخروج والتغيير، قال ابن تيمية: «وقلّ مَن خَرَجَ على إمام ذي سلطان إلّا كان ما تولَّد على فعله من الشّر أعظم ممّا تولَّد من الخير». ثمّ قال بعد ذلك فيما يخصّ خروج الحسين عليه السلام : «إنّه لم يكن في الخروج مصلحة في دين ولا في دنيا، وكان في خروجه وقتله من الفساد ما لم يحصل لو قعد في بلده؛ فإنّ ما قصده من تحصيل الخير ودفع الشّر لم يحصل منه شيء، بل زاد الشّر بخروجه وقتله، ونقص الخير بذلك، وصار سبباً لشر عظيم، وكان قتل الحسين ممّا أوجب الفتن»[1]. وتابعه على ذلك الخضري بك، فقال: «إنّ الحسين أخطأ خطأً عظيماً في خروجه هذا الذي جرّ على الأُمّة وبال الفرقة والاختلاف، وزعزع عماد أُلفتها إلى يومنا هذا»[2].
أقول: إنّ هذه الإشكالية مبنية على أنّ حرمة الخروج على الجائر تندرج في باب التزاحم بين مفسدتين، ومن ثمّ تغليب مفسدة بقاء الجائر وظلمه وتعسّفه على مفسدة إهراق الدماء.
ردّ الشبهة
إن الجواب عن هذه الشبهة يقع تارة بلحاظ أصل الكبرى الواردة في النص الأوّل لابن تيمية، من لزوم الفساد في الخروج على الجائر، وأُخرى في خصوص الصغرى، أمّا الكبرى فيرد عليها:
أوّلاً: إنّه على فرض إرجاع المسألة إلى باب التزاحم، أو ما يُسمّى بـ(فقه الأولويات والمآلات)، فلماذا نغلّب مسبقاً مفسدة بقاء الجائر وظلمه وتعسّفه على مفسدة السعي لاستبدال الخوف بالأمن ما قد يستلزم شنّ الغارات وإهراق الدماء؟ فقد يكون العكس صحيحاً، كما لو كان الخارجون أكثر عدّة وعدداً وكان الجائر ضعيفاً؛ وعليه فلا بدّ من تقييد حكم الخروج وعدمه بملاحظة المفسدة والمصلحة في كل منهما، لا إطلاق الحكم بالمنع كما يرى المانعون من الخروج. هذا مضافاً إلى عدم التسليم بتعميم هذه الدعوى؛ إذ قد يتمّ التغيير بأيسر التضحيات والخسائر.
ثانياً: إنّ من الضروريات الدينية المعلومة بالبداهة وجوب إقامة الدين وحفظه، وإنّ حفظه مقدّم على حفظ جميع المقدّسات والنواميس الأُخرى وهي النفس والعقل والمال والعرْض، ومعلوم أنّ الجائر لا يقيم الدين، بل يهدمه وينقضه عروة عروة بأساليب متعدّدة، من قبيل: نشر الآراء والمذاهب والأفكار المنحرفة والهدّامة في المجتمع الإسلامي؛ لطمسه العقيدة الحقّة من الناحية النظرية، ثمّ ترويج الانحراف الأخلاقي والسلوكي وقبول تسلّط الأجانب والارتباط بهم، وتنفيذ مخطّطاتهم، والعمل على خلاف مقتضيات مصالح الشعوب الإسلامية، وإفقار الأُمّة مادّياً ومعنوياً على المستوى العملي، كما هو واقع الشعوب الإسلامية اليوم.
وعليه؛ فكيف تُقدّم مصلحة إبقاء الجائر حتّى لو دثر الدين وحاربه على مصلحة الخروج عليه لو استلزم بعض التضحيات بالنفوس والأموال وغيرها؟! فهل حرمة النفوس والأموال أغلى من حرمة الدين؟! لو كان الأمر كذلك لما شُرّع أصل الجهاد والدفاع، ولما عرَّض الرسول وآله الميامين وصحبه الكرام أنفسهم لخطر القتل في الجهاد مع الكفّار، وقتال البغاة كما قام به أمير المؤمنين عليه السلام .
إذن؛ لو أدخلنا المسألة في باب التزاحم فلا شكّ في تقديم مصلحة إقامة الدين والعدل على مصلحة حفظ النفس والأمن مع وجود الحاكم الجائر، شريطة تهيّؤ الظروف الموضوعية والخارجية لمثل هذا الخروج، وإلّا فلا بدّ من العمل على إعداد الأُمور لذلك، وعدم اتخاذ فقدان الظروف الموضوعية والخارجية ذريعة لسقوط التكليف عن الأُمّة، ولا مفسدة أعظم من تعطيل الدين، ولا مصلحة أهم من مصلحة إقامة الدين مع تهيّؤ الظروف[3].
وأمّا الردّ على الصغرى ـ وهي كلام ابن تيمية الثاني في تطبيق الكبرى التي ذكرها على خروج الحسين عليه السلام ـ فيرد عليها:
أوّلاً: المناقشة في أصل دعوى أنّ في خروجه عليه السلام مفسدة، وأنّه لو كان قد قعد كان أفضل، فنقول: بعد نقض معاوية الصلح وقَتْلِهِ الإمام الحسن عليه السلام ، راجع الشيعة الحسين عليه السلام من أجل الخروج، فأبى عليه السلام ؛ لوجود معاهدة الصلح مع معاوية بعدم الخروج، رغم نقض معاوية له من طرف واحد، ولكنّه عليه السلام بمجرّد هلاك معاوية لم يقرّ له قرار وأبى البيعة ليزيد، ورفض ذلك أشدّ الرفض لأسباب من جملتها:
1ـ تبدّل مسار الخلافة من نظام الشورى إلى نظام التوريث، وهو تطوّر خطير وبدعة غير مسبوقة في نظام الخلافة؛ لأنّها رغم انحرافها عن مسارها الصحيح الذي وضعته السماء بقيت شورائية أو تعيينيّة لكن لغير أبناء الخلفاء؛ ولذا كانت بيعة يزيد مرفوضة بكل المقاييس، وبإجماع الأُمّة، ولم يقبلها إلّا أهل الشام.
2ـ فساد الحاكم نفسه بنحوٍ لا يصحّ السكوت عليه، والقبول بذلك يُعدّ خطراً على الإسلام واستهزاءً بالدين والشريعة، وهذا ما ترجمه الإمام الحسين عليه السلام بقوله: «وعلى الإسلام السلام إذ قد بُلِيَت الأُمّة براعٍ مثل يزيد»[4]. والنصوص في انحراف يزيد مستفيضة نكتفي بذكر واحد منها لأهمّيته، وكونه صادراً من أحد أعوان معاوية؛ وهو زياد ابن أبيه، الذي طلب منه معاوية حثّ الناس على أخذ ولاية العهد لوَلَدِه، فاستشار زياد أصحابه أن يكتب لمعاوية كتاباً يقول فيه: «إنّ كتابك ورد عليَّ بكذا، فما يقول النّاس إذا دعوناهم إلى بيعة يزيد، وهو يلعب بالكلاب والقرود، ويلبس المصبّغ، ويُدمن الشراب، ويمشي على الدفوف، وبحضرتهم الحسين بن علي، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر»[5].
إن هذين السببين کانا يمثلان تهديداً كبيراً للإسلام، جعلاه على حافّة الهاوية وشرف السقوط والاندثار، سيما مع سكوت الأُمّة بأكملها رغم رفضها القلبي، فكانت الأُمّة بين طريقين لا ثالث لهما، طريق القبول بهذا الخطر المحدق، وطريق التصحيح وإرجاع مسيرة الإسلام إلى نصابها الأوّل على عهد الرسالة، ولو بالتضحية والشهادة؛ امتثالاً للآيات الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر والركون إلى الظالم، فهل في هذا فساد وفتنة، أم صلاح وتقويم للدين؟! ولذا لم يعترض أحدٌ من الصحابة والسلف ممّن يعترف به ابن تيمية: كابن عباس، وابن عمر وغيرهما على الحسين عليه السلام بمثل هذا الاعتراض على الإطلاق، إلى أن ظهر ابن تيمية فتحذلق بإظهار النصب لسيّد شباب أهل الجنّة، واتّهمه بالإفساد والفتنة.
نعم، أشفق الصحابة على الحسين عليه السلام من القتل، فإن كان هذا الناصبي صادقاً في دعوى اتّباع الصحابة والسلف، فليمسك كما أمسكوا، لكنّه ينطق حيث يجب الصمت كما في مقامنا ويصمت حيث يجب النطق كما في خروج عائشة، حيث اعترض عليها الصحابة ونساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنعوها من الخروج وذكّروها أن تقرّ في بيتها امتثالاً لأمر الله تعالى، ولكن ابن تيمية يخرسه نصبه هنا ويلوذ بالصمت.
ثانياً: إنّ كلام ابن تيمية يستبطن تكذيباً ضمنياً للحديث المتّفق عليه بين الفريقين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة»[6]. فإنّ هذا الحديث ليس صادراً على وجه التشريف فقط للإمامين الحسنين عليهما السلام باعتبارهما أولاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، بل لبيان مقامهما وأنّهما يمتلكان مقوّمات السيادة في الآخرة، فكونهما كذلك في الآخرة، ففي الدنيا من بابٍ أوْلى؛ وذلك لشرف الآخرة على الدنيا بلا شكّ، ومَن كان سيّداً بنصّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فهو أحقّ بالاتّباع من غيره، فيلزم من تخطئته واتهامه بالإفساد في الأُمّة تكذيبُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فلو كان الحسين عليه السلام كما قال ابن تيمية مُفسداً ظالماً؛ لكان أحقّ بالذّم من قِبَل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لا المدح والتسييد على الأُمّة.
كما أنّه تكذيبٌ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «حسين منّي وأنا من حسين، أحبّ الله مَن أحبّ حسيناً، حسين سبطٌ من الأسباط»[7]. فهل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يُعطي غطاءً شرعياً في هذا الحديث لمفسدٍ ومفرِّق في أُمّته فيعتبره منه، ويعتبر نفسه الشريفة منه ويدعو إلى حبّه؟! فلو لم يكن الحسين عليه السلام مستحقّاً لذلك لكان هذا الحديث محاباة منه صلى الله عليه وآله وسلم على حساب الدين والرسالة، وحاشاه عن ذلك.
وبعبارة أُخرى: إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدور أمره بين علمه بحال الحسين عليه السلام بعده وجهله ـ نعوذ بالله ـ فإذا كان عالماً بإفساده وفتنته فلماذا لم يحذِّر منه بدل أن يمدحه بمثل هذا الحديث وغيره. وإمّا أن يكون جاهلاً وحاشاه عن ذلك فيكون حديثه هذا إغراءً للأُمّة بأمر الحسين عليه السلام ، وهو خلاف قوله تعالى: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ)[8].
ثالثاً: إنّ اعتراض ابن تيمية تكذيب لحديث الثقلين وحديث السفينة، وغيرها من الأحاديث التي دلَّت على وجوب التمسّك بهم، وأنّهم عدل القرآن، وهم السفينة التي يجب ركوبها، فإذا كان الحسين عليه السلام مُفسِدَاً وصاحب فتنة فكيف يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتمسك به والركوب في سفينته؟! بل في اعتراض ابن تيمية تكذيبٌ لقول الله في آية التطهير التي نزلت في حق الحسين عليه السلام وبقية أصحاب الكساء الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وتكذيبٌ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «مَن رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحُرَم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يُغيِّر عليه بفعل ولا قول، كان حقّاً على الله أن يدخله مُدخله»[9].
فهل يبقى شكّ لذي لبّ أو مسكة بعد كلّ هذه الموارد التي تُنزّه الحسين عليه السلام ممّا رماه به هذا الناصبي وأضرابه؟! وهذه ليست أوّل قارورة يكسرها ابن تيمية بحقّ الحسين عليه السلام ، فقد كسر مثلها بحقّ أخيه الحسن عليه السلام عندما برّأ معاوية من قتله، فقال: «معاوية حين أمر بسمّ الحسن فهو من باب قتال بعضهم بعضاً»!![10]. وكذلك فقد برّأ يزيد من قتل الحسين عليه السلام وأنّه لم يأمر بقتله، مع أنّ ابن زياد لما عُوتِبَ على قتله الحسين عليه السلام اعترف أنّه خيّره يزيد بين قتل الحسين أو قتله[11] ولم يُدن يزيد إلّا على وقعة الحرّة، لكنّه حاول أن يخفّف منها قائلاً: «لكنّه [يزيد] لم يقتل جميع الأشراف، ولا بلغ عدد القتلى عشرة آلاف، ولا وصلت الدماء إلى قبر النبي»[12]، بل حاول أن يبرئه من ضرب الكعبة بالمنجنيق، فذكر أنّ «حريق الكعبة لم يقصده يزيد، وإنّما مقصوده حصار ابن الزبير، والضرب بالمنجنيق كان له لا للكعبة، ويزيد لم يهدم الكعبة ولم يقصد إحراقها لا هو ولا نوابه باتفاق المسلمين»[13]، ولم يتوقّف كسر القوارير لديه عند الحسن والحسين عليهما السلام ، بل امتدّت إلى الزهراء عليها السلام حين تجاسر واتهمها بأنّها طالبت أبا بكر ما ليس لها، وبما هو خلاف حكم الله ورسوله، وأنّ ذلك مدعاة لجرحها!![14]، بل ذكر المنافق أنّ فيها شبهاً من المنافقين الذين إذا أُعطُوا من المال رضوا، وإن لم يُعطَوا إذا هم يسخطون؛ وذلك لأنّها طالبت أبا بكر فلم يُعطها فغضبت عليه[15]. وأمّا قواريره المكسورة مع بعلها أمير المؤمنين عليه السلام في (منهاج السنّة) ففوق حدّ الإحصاء في إنكار فضائله، ومحاولة الحطّ من شأنه.
والمهم، إنّ هذا هو منهج النصب التبريري الذي سلكه ابن تيمية في التحامل على أهل البيت عليهم السلام وتبرئة أعدائهم، ومن هذا المنطلق جاء اتّهامه للحسين عليه السلام في خروجه، ولكنّا نسأل هذا الناصبي: هلّا أدان معاوية لمّا خَرَجَ على الخليفة الشرعي بحرب صفين وسبّب قتل الآلاف؟! فهل خروجه كان للإصلاح، وخروج الحسين عليه السلام كان للإفساد؟! فهذه آية نصبه واضحة لا غبار عليها.
رابعاً: لو كان اعتراض ابن تيمية وإدانته للحسين عليه السلام بشأن خروجه، فإنّ الفساد هو في قتل يزيد له، لا في خروج الحسين عليه السلام ، فلِمَ لا يُدين يزيد بقتله للحسين عليه السلام ، مع أنّه كان قادراً على العفو عنه بعد الظفر به؟! وعلى فرض أنّه لم يأمر بقتله كما يزعم ابن تيمية فلِمَ لم يُدِنْه على ترك قاتليه ولم يعاقبهم؟! إذن؛ كان الفساد والفتنة في قتله عليه السلام لا في خروجه؛ إذ كان بإمكان الحكومة الأُمويّة التعامل بحكمة وتطويق المشكلة بإرجاع الحسين عليه السلام إلى المدينة أو غيرها تجنباً لكل الإشكاليات، فلماذا أقدموا على قتله، أو رضوا به، أو لم يحولوا دونه؟!
الكاتب: د. الشيخ صفاء الدين الخزرجي
مجلة الإصلاح الحسيني – العدد الحادي عشر
مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية
____________________________
[1] ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم، المنتقى من منهاج السنّة: ص287.
[2] الخضري بك، محمد، تاريخ الأُمم الإسلامية: ج2، ص235.
[3] اُنظر: الخزرجي، صفاء الدين، الصحوة الإسلامية المعاصرة وإشكالية الخروج على الحاكم الجائر، مجلة الاجتهاد والتجديد: العدد24.
[4] ابن نما، محمد بن جعفر، مثير الأحزان: ص15.
[5] اليعقوبي، أحمد، تاريخ اليعقوبي: ج2، ص220. الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج5، ص302ـ303. ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ: ج3، ص505.
[6] الترمذي، محمد بن عيسى، سنن الترمذي: ج5، ص321.
[7] المصدر السابق: ص324.
[8] النجم: آية 3ـ 4.
[9] الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص304.
[10] ابن تيمية، أحمد، منهاج السنّة: ج2، ص225.
[11] ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ: ج4، ص140.
[12] ابن تيمية، أحمد، منهاج السنّة: ج2، ص253.
[13] المصدر السابق: ص254.
[14] اُنظر: المصدر السابق: ج4، ص243.
[15] اُنظر: المصدر السابق: ج4، ص244.
المصدر: http://www.imamhussain.org