نص الشبهة:
لقد تحدثت النصوص التاريخية المتقدمة عن قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَٰؤُلَاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا * أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا * أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا * أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ … ﴾ . فذكرت: أن هذه الآيات قد نزلت في هؤلاء اليهود الذين ذهبوا إلى مكة، وإلى سائر القبائل ليحرضوهم على قتال النبي «صلى الله عليه وآله» فجمعوا الجموع، وحزَّبوا الأحزاب، فكانت غزوة الخندق.
الجواب:
ونقول:
إننا نشك في أن تكون هذه الآية قد نزلت في هذه المناسبة وذلك لما يلي:
1 ـ هناك روايات تقول: إن هذه الآية قد نزلت في مناسبة أخرى سبقت غزوة الخندق. وذلك لما ذهب كعب بن الأشرف إلى قريش، يحرضهم على غزو المسلمين، فسألوه عن أن أي الفريقين أهدى، فأجابهم بما يقرب مما سبق.
وذكروا أيضاً: أنهم طلبوا منه أن يسجد لأصنامهم، ليطمئنوا إلى أنه لا يمكر بهم؛ ففعل، مجاراة لهم.
وظاهر بعض النصوص الأخرى: أن هذه الآيات قد نزلت في مكة قبل الهجرة حيث ذكرت نزول سورة الكوثر في هذه المناسبة أيضاً، وهي إنما نزلت قبل الهجرة 1.
إلا أن يقال: إنها مما تكرر نزوله.
2 ـ قيل: كان أبو برزة كاهناً في الجاهلية، فتنافس إليه ناس ممن أسلم، فنزلت الآية. عن عكرمة 2.
توضيح وتصحيح
إن القصة التي يحكيها المؤرخون قد فرضت وجود فريقين هما:
جماعة اليهود، والمشركون.
وقد سأل المشركون اليهود عن الأهدى؟ هم أم المسلمون؟
فأجابهم اليهود: أنتم أولى بالحق.
مع أن الآية تفرض الفريقين يتحدثان عن فريق ثالث أشير إليه بقولهم: ﴿ … هَٰؤُلَاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا ﴾ 3.
أي أن اليهود قالوا للمشركين: هؤلاء أهدى، ولم يقولوا لهم: أنتم أهدى. فلا ينطبق مدلول الآية على روايات المؤرخين، سواء رواية كعب بن الأشرف، أو حيي بن أخطب، أو رواية أبي برزة الآنفة الذكر.
إلا أن يقال: في الآية التفات من الخطاب بالضمير إلى الإشارة بكلمة هؤلاء، والالتفات موجود في القرآن.
والنكتة المسوغة لهذا الالتفات هي: أن الله سبحانه قد قال: ﴿ … وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا … ﴾ 3 فجاء بصيغة المضارع ليفيد: أن هذا النهج في التعامل مستمر في هذا النوع من الناس. وليست القضية قضية مضت وذهبت، قد تكون لها ظروفها ومبرراتها، فلا تمثل خطأً مستمراً لهؤلاء الناس.
فلما عبر تعالى عما حدث بصيغة المضارع، فإنه لم يعد بالإمكان أن يقول: «أنتم أهدى»، لأن الخطاب لما صار فعلياً فيحتمل فيه أن يكون موجهاً لهؤلاء الناس الذين يسمعون الآية من النبي «صلى الله عليه وآله»، ويخاطبهم «صلى الله عليه وآله» بها، ويحتمل أن يكون خطاباً للكافرين أيضاً.
فهو من قبيل ما لو قلت لرجل: زيد قال لعمرو: أنت رجل فاسق، فكلمة أنت رجل فاسق يحتمل فيها أن تكون موجهة لمخاطبك أنت، ويحتمل أن تكون موجهة لعمرو.
إذن.. فلا بد في الآية من التصرف في خطاب أولئك الناس والإتيان بالمضمون بطريقة تدفع هذا الالتباس.
وهكذا كان، فإنه تعالى استخرج مضمون كلامهم وهو أن هؤلاء أي الكفار المشركين الذين خاطبهم أهل الكتاب (وهم غير من يخاطبهم النبي بالقرآن فعلاً) أهدى من المؤمنين.
فاتضح: أن الآية لا تنافي سياق الحدث التاريخي الذي هو مورد البحث 4.
- 1. الدر المنثور ج2 ص171 ـ 173 عن الطبراني، والبيهقي في الدلائل عن عكرمة عن ابن عباس. وعن سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عكرمة مرسلاً. وعن أحمد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس. وعن عبد الرزاق، وابن جرير عن عكرمة. وعن ابن جرير عن مجاهد. وعن عبد بن حميد، وابن جرير عن السدي، عن ابي مالك. وعن البيهقي في الدلائل، وابن عساكر في تاريخه عن جابر عن عبد الله. وعن عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة والجامع لأحكام القرآن ج5 ص249 ومجمع البيان ج3 ص59 والتفسير الكبير ج10 ص128 والتبيان ج3 ص223 و 224 و 225 والبحر المحيط ص271 والنهر الماد من البحر (مطبوع بهامش البحر المحيط) ج3 ص271 والكشاف (ط دار الفكر) ج1 ص532 وجامع البيان ج5 ص85 و 86 وتفسير القرآن العظيم ج1 ص513 وفتح القدير ج1 ص478 و 479 وتفسير الخازن ج1 ص368 ومدارك التنزيل للنسفي (مطبوع بهامش تفسير الخازن) ج1 ص369.
- 2. مجمع البيان ج3 ص59.
- 3. a. b. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 51، الصفحة: 86.
- 4. الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه و آله وسلم)، العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي، المركز الإسلامي للدراسات، الطبعة الخامسة، السنة 2005 م. ـ 1425 هـ. ق، الجزء العاشر.