عَنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ 1 جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ (عَلَيْهِمَا السَّلَامُ)، قَالَ: قَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيِّ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ):
خَرَجَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ذَاتَ يَوْمٍ وَ أَنَا أُرِيدُ الصَّلَاةَ، فَحَاذَيْتُ بَابَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عَلَيْهِ السَّلَامُ)، فَإِذَا أَنَا بِهَاتِفٍ مِنْ دَاخِلِ الدَّارِ وَ هُوَ يَقُولُ: اشْتَدَّ صُدَاعُ رَأْسِي، وَ خَلَا بَطْنِي، وَ دَبِرَتْ 2 كَفَّايَ مِنْ طَحْنِ الشَّعِيرِ.
فَمَضَّنِي 3 الْقَوْلُ مَضّاً شَدِيداً، فَدَنَوْتُ مِنَ الْبَابِ فَقَرَعْتُهُ قَرْعاً خَفِيفاً، فَأَجَابَتْنِي فِضَّةُ، جَارِيَةُ فَاطِمَةَ (عَلَيْهَا السَّلَامُ).
فَقَالَتْ: مَنْ هَذَا؟
فَقُلْتُ: أَنَا سَلْمَانُ ابْنُ الْإِسْلَامِ.
قَالَتْ: وَرَاءَكَ 4 يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، فَإِنَّ ابْنَةَ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ، عَلَيْهَا الْيَسِيرُ مِنَ الثِّيَابِ.
فَأَخَذْتُ عَبَاءَتِي فَرَمَيْتُ بِهَا دَاخِلَ الْبَابِ فَلَبِسَتْهَا فَاطِمَةُ (عَلَيْهَا السَّلَامُ) ثُمَّ قَالَتْ: “يَا فِضَّةُ، قُولِي لِسَلْمَانَ يَدْخُلُ، فَإِنَّ سَلْمَانَ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ وَ رَبِّ الْكَعْبَةِ”.
فَدَخَلْتُ، فَإِذَا أَنَا بِفَاطِمَةَ جَالِسَةً وَ قُدَّامَهَا رَحًى تَطْحَنُ بِهَا الشَّعِيرِ، وَ عَلَى عَمُودِ الرَّحَى دَمٌ سَائِلٌ قَدْ أَفْضَى إِلَى الْحَجَرِ، فَحَانَتْ مِنِّي الْتِفَاتَةٌ، فَإِذَا أَنَا بِالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ فِي نَاحِيَةٍ مِنَ الدَّارِ يَتَضَوَّرُ 5 مِنَ الْجُوعِ.
فَقُلْتُ: جَعَلَنِيَ اللَّهُ فِدَاكِ يَا ابْنَةَ رَسُولِ اللَّهِ،قَدْ دَبِرَتْ كَفَّاكِ مِنْ طَحْنِ الشَّعِيرِ وَ فِضَّةُ قَائِمَةٌ!
فَقَالَتْ: “نَعَمْ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، أَوْصَانِي حَبِيبِي رَسُولُ اللَّهِ أَنْ تَكُونَ الْخِدْمَةُ لَهَا يَوْمٌ وَ لِيَ يَوْمٌ، فَكَانَ أَمْسِ يَوْمَ خِدْمَتِهَا، وَ الْيَوْمُ يَوْمُ خِدْمَتِي”.
قَالَ سَلْمَانُ: فَقُلْتُ: جَعَلَنِيَ اللَّهُ فِدَاكِ، إِنِّي مَوْلَى عَتَاقَةٍ 6.
فَقَالَتْ: “أَنْتَ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ”.
قُلْتُ: فَاخْتَارِي إِحْدَى الْخَصْلَتَيْنِ: إِمَّا أَنْ أَطْحَنَ لَكِ الشَّعِيرَ، أَوْ أُسْكِتَ لَكِ الْحَسَنَ.
قَالَتْ: “يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، أَنَا أُسْكِتُهُ فَإِنِّي أَرْفَقُ، وَ أَنْتَ تَطْحَنُ الشَّعِيرَ”.
قَالَ: فَجَلَسَتُ حَتَّى طَحَنْتُ جُزْءً مِنَ الشَّعِيرِ، فَإِذَا أَنَا بِالْإِقَامَةِ، فَمَضَيْتُ حَتَّى صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).
فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنَ الصَّلَاةِ أَتَيْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَ هُوَ بِيَمْنَةٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ فَجَذَبْتُ رِدَاءَهُ وَ قُلْتُ: أَنْتَ هَاهُنَا وَ فَاطِمَةُ قَدْ دَبِرَتْ كَفَّاهَا مِنْ طَحْنِ الشَّعِيرِ؟!
فَقَامَ وَ إِنَّ دُمُوعَهُ لَتَحْدِرُ عَلَى لِحْيَتِهِ، وَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لَيَنْظُرُ إِلَيْهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَلَمْ يَمْكُثْ إِلَّا قَلِيلًا. فَإِذَا هُوَ قَدْ رَجَعَ يَتَبَسَّمُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْتَبِينَ أَسْنَانَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): “يَا حَبِيبِي خَرَجْتَ وَ أَنْتَ بَاكٍ وَ رَجَعْتَ وَ أَنْتَ ضَاحِكٌ”؟
قَالَ: “نَعَمْ بِأَبِي أَنْتَ وَ أُمِّي، دَخَلْتُ الدَّارَ وَ إِذَا فَاطِمَةُ نَائِمَةٌ مُسْتَلْقِيَةٌ لِقَفَاهَا، وَ الْحَسَنُ نَائِمٌ عَلَى صَدْرِهَا، وَ قُدَّامَهَا الرَّحَى تَدُورُ مِنْ غَيْرِ يَدٍ 7”.
فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ثُمَّ قَالَ: “يَا عَلِيُّ، أَ مَا عَلِمْتَ أَنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَائِرَةً فِي الْأَرْضِ يَخْدِمُون مُحَمَّداً وَ آلَ مُحَمَّدٍ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ” ؟! 8.
- 1. أي الإمام جعفر بن محمد الصَّادق (عليه السَّلام) ، سادس أئمة أهل البيت (عليهم السلام) .
- 2. دبرت: أي جرحت.
- 3. المض: الحرقة و الألم و الوجع، فمضني أي آلمني.
- 4. بمعنى تأخَّرْ.
- 5. يتضور: يتلوى من الألم و الجوع و يصيح.
- 6. أي أنني عبدٌ معتوق.
- 7. أي من غير أن تُديرها يدٌ.
- 8. دلائل الامامة: 140 لمحمد بن جرير الطبري الآملي الصغير، المتوفى في القرن الخامس الهجري، طبعة مؤسسة البعثة، الطبعة الأولى سنة: 1413 هجرية، قم/ايران.