إن النصر بكل معانيه المتقدمة بدءً من طاعة الله مروراً بالثبات على الحق ونصرته ووصولاً إلى النصر الإلهي وتنزله على المجاهدين لا يتحقق إلا من تحقق علله وأسبابه بسحب السنن الإلهية المودعة في هذا الكون، وبالعودة إلى كلام الإمام الخميني رضوان الله تعالى عليه ومواقفه نجد أنه يختصر هذه العلل والأسباب جميعاً بسببين رئيسيين، وهما الإيمان بالله ووحدة الكلمة. يقول رضوان الله تعالى عليه “إن سرّ انتصاركم هو الإيمان ووحدة الكلمة“1. ونحن بدورنا نفرد لكل ركن من ركني الانتصار هذين بحثاً خاصاً عسى أن نوفق بهذا الإيجاز لبيان هذا السر العظيم.
الإيمان بالله والتوكل عليه:
قد يعتقد البعض بأن التعرف على أحد ركني النصر وهو الإيمان بالله هنا يجعل النصر في متناول كل أحد، إذ قد تم التعرف على السر والعلة، والجواب هو أن التعرف على السبب والعلة شيء وامتلاك هذا
السبب وتلك العلة شيءٌ آخر، فالإيمان بالله تعالى ليس كلمة تقال أو موقفاً يُرتجل، بل هي حالة يعتمل فيها العديد من العوامل والأسباب بحيث يتحول الإنسان معها إلى مخلوق متميز على مستوى الارتباط بالله والتوجه إليه واستمداد القوة منه وبذل التضحيات في سبيله، فيصير مخلوقاً لائقاً بتوجه الله تعالى إليه أيضاً ومده بالنصر والغلبة والمنعة. والمجال هنا لا يتسع للتقصي والبحث حول العوامل والأسباب التي تساهم في صناعة الإنسان المؤمن، إلا أننا نذكر وعلى سبيل التعداد أهمها، ومنها توفر العقيدة الصحيحة، والثقافة السليمة والمفاهيم الوضاحة والقدوة الصالحة وبعد ذلك التوفيق إلى محبة أحباء الله ومعاداة أعدائه والتوفيق إلى العمل الصالح، وقبل ذلك وبعده التوفيق إلى التضرع بحضرة الباري أن يأخذ باليد والناحية إلى الصراط المستقيم وأن يهدي الإنسان إلى رشده وفطرته الصافية.
وهنا أجد مناسباً أن أثبت عدة كلمات نورانية للإمام الخميني رضوان الله عليه تؤكد ارتباط النصر بالإيمان بالله تعالى:
* “لقد استطاع شعب إيران المجاهد أن يتغلب بالإيمان بالله ووحدة الكلمة على قدرة شيطانية عظيمة تدعمها جميع القوى، وأن يقطع يد جميع القوى العظمى عن بلده“2.
* “إن الإيمان بالله وبالمبادئ الإسلامية هو الذي حقق لكم النصر“3.
هنا نلفت النظر إلى أهمية الإيمان بالمبادئ والقيم الإسلامية دون مجرد حملها كشعارات مجردة عن العمل، إذ إن الإيمان بالمبادئ هو مقدمة للعمل بها حيث لا يتحقق العمل بلا إيمان راسخ. وفي الحقيقة إن مشكلة المسلمين الكبرى في طول التاريخ الإسلامي كانت أنهم يحملون المبادئ العظيمة على مستوى الشعار والتراث من غير أن تؤمن بها قلوبهم والعقول فيكون مثالهم كحامل التمر إلى هجر أو كمثل الحمار يحمل أسفاراً، غير أن إيمان المسلمين في عصر الإمام الخميني بالله وبالقيم والمبادئ الإسلامية الرائدة جعلتهم يحققون النصر بسرعة مذهلة.
* “إنَّ سرَّ انتصارنا هو التوجه نحو الله تبارك وتعالى والحرص على حراسة الإسلام“4.
* “حافظوا على الأخلاق والسلوك الإسلاميين، فهما اللذان حققا لكم النصر“5.
وهنا نلفت إلى أهمية الأخلاق الإسلامية في تحقيق النصر حيث يُلزم الإسلام أتباعه باتباع أخلاقيات دينية إنسانية حتى في قلب المعركة وفي خضم الصراع، فالغاية لا تبرز الوسيلة، لذلك إذا ما حقق المؤمنون بالله النصر فإنهم يحققون نصراً نظيفاً طاهراً بل لائقاً بالمؤمنين.
* “إننا نريد أن نثبت للعالم أجمع أن قوة الإيمان يمكنها التغلب حتى على القوى العظمى“6.
وذلك لأن المؤمنين من خلال إيمانهم بالله خالق العالم تتصل قوتهم بقوته وإرادتهم بإرادته، فلا تعود المعركة والمواجهة بين قوتهم المادية الضعيفة وقوة القوى العظمى الهائلة بل يكون الطرف في الصراع هو الله القادر والغالب.
* “بوجود القوة الروحية والانسجام والالتزام بالإسلام لن يؤدي نقص العدة إلى أي ضعف“7. إن الروحية المعنوية النابعة من الإيمان بالله تعوض وتجبر النقص المادي عدداً وعدة ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّه﴾ِ8.
وحدة الكلمة:
الوحدة في الخلق سنة إلهية قضاها الباري عزّ وجلّ في خلقه كل خلقه وبنى على هذه السنّة بناء القوة والعظمة، فأينما توجهت ببصرك أو بعقلك لرأيت الوحدة تتجلى في أسرار هذا الخلق الفسيح والعجيب، ومن هذه الوحدة تتشكل الكثرات الرائعة والغنية بأشكالها والألوان والمصدر واحد، أوليس الواحد الأحد هو مصدر كل هذا الخلق المتنوع والمتكثر، أوليس وحدته تعالى هي رمز العقيدة والإيمان وقيمة العالم.
ومسيرة النصر تبدأ في الوحدة مع الذات بأن يجمع الإنسان في داخله كل القوى المتشتتة والأهواء المتفرقة والمفرقة لتشكل وحدة
تتجه نحو الهدف الأوحد وهو رضا الله تعالى وسوق هذه النفس نحو الملكوت، نحو الأعلى، نحو الحقيقة المطلقة، وهكذا عندما نخرج إلى عالم الوجود الخارجي فنتأمل في الوجودات المادية من جماد وحيوان وإنسان، نجد أن عامل الوحدة والتماسك والتعاون هو العالم الأساسي في قوة تلك الوجودات وديمومتها، كما نجد أن الفرقة والتفسخ هو العالم في ضعفها وتلاشيها، كما نجد أن الفرقة والتفسخ هو العالم في ضعفها وتلاشيها، فالمعادن الأشد صلابة وديمومة هي تلك التي تتحد ذراتها أكثر، والحيوانات الأعظم إنتاجاً هي تلك التي تتحد في ما بينها في ظل مجتمعات رائعة كمجتمعات النمل والنحل وما شاكل، والشعوب التي ساد التفاهم والوحدة بين أبنائها خلّد ذكرها وسجل التاريخ إنجازاتها، وعلى العكس فإن الأمم التي تفككت وحدتها زالت وتلاشت وفقدت كل إنجازاتها.
ووحدة الجماعة المؤمنة هي حتماً شرط في انتصارها على كل المستويات من إقامة المجتمع الإنساني الفاضل ووصولاً إلى الدفاع عن الوجود الإنساني مقابل أعداء الإنسان وتحقيق النصر في هذا الميدان وفي كل الميادين. ومن هنا أكد الإمام الخميني رضوان الله تعالى عليه على أهمية الوحدة وجعلها ركناً أساسياً إلى جنب الإيمان بالله تعالى كسبب من أسباب النصر وإن كانت الوحدة هي تجلٍ من تجليات الإيمان، ونتيجة له فالمجتمع الذي يحسن إيمان أفراده لابد لهم بحكم الإيمان ومبادئ الإسلام أن يتحدوا لأن أسباب الفرقة تزول حكماً بزوال أسبابها وهي حب الدنيا، والمفترض أن الإيمان بالله أدخل حبه إلى القلوب وطرد
منها حب الدنيا بأشكاله المختلفة. وعلى كل حال تبقى الإشارة إلى أهمية وضرورة وجود القيادة الإسلامية الرشيدة والمخلصة في تحقيق الوحدة في المجتمع الإيماني لكي يحقق أهدافه.
وهذه كلمات نورانية لإمام الأمة رضوان الله عليه حول أهمية وضرورة الوحدة في تحقيق النصر:
“إن البلد الذي تستعد مختلف شرائحه للتضحية هكذا، لابد أن ينتصر“9.
وهنا نلتفت إلى نكتة هامة وهي أن وحدة الكلمة تكون حول موضوع محدد، وعندما يكون الموضوع هو الدفاع في مواجهة الباطل فإن اتفاق كلمة الأمة يعني استعدادها للتضحية في هذا الصدد، وهذا ما يشير الإمام إلى أهميته وهو أن الأمة كل الأمة عندما تبدي استعداداً للتضحية فإن أحداً لا يمكنه الوقوف في وجهه وهي منتصرة حتماً، “إذا ثار شعب وحافظ على قوة إيمانه، عزت أية قوة عن مواجهته“10.
“انتصار الثورة مرهون بكل أبناء الشعب“11.
وهذه إشارة واضحة إلى الوحدة بين جميع شرائح الشعب بحيث تحقق هذه الوحدة انصهار كامل القوى وتجيير جميع الطاقات في خدمة القضية وصولاً إلى الهدف.
“لاشك في أن سر بقاء الثورة الإسلامية هو نفسه سر النصر، والشعب يعرف سر النصر وسوف تقرأ الأجيال الآتية ركنيه الأصليين هما الدافع الإلهي والهدف السامي للحكومة الإسلامية، واجتماع الشعب في جميع أنحاء البلاد مع وحدة الكلمة من أجل ذلك الدافع وذلك الهدف. إنني أوصي جميع الأجيال الحاضر منها والآتي… إذا أردتم أن يستقر الإسلام والحكومة الإسلامية الإلهية وأن تقطع أيدي المستعمرين والمستغلين الداخليين والخارجيين عن بلدكم فلا تضيعوا هذا الدافع الإلهي الذي أوصى به الله في القرآن الكريم، وفي مقابل هذا الدافع الذي هو سر النصر وبقائه يبرز خطر نسيان الهدف والتفرقة والاختلاف“12.
المحافظة على النصر:
“ما أكثر الانتصارات التي تحققها الشعوب ثم تفقدها نتيجة ضعفها وعدم ثباتها على ما حققته“13.
بهذا الكلام يبين الإمام حقيقة ثقافية وتاريخية ودينية وبشرية لا بل سنة من سنة الله في خلقه، وهي أهمية المحافظة على النصر والمكتسبات من خلال الثبات والتثبت بذلك. وسنكتفي هنا بعرض كلمات نورانية للإمام يبين لنا فيها أهمية الانتباه لمرحلة ما بعد النصر والحفاظ عليه، يقول الإمام رضوان الله عليه “إن ما يقلقني هو أن يكون شعبنا
مثل جيش فاتح يصيبه الغرور بعد الفتح، ويصيبه التفسخ والتشتت من الداخل، بينما خصمنا أو خصومنا جيش مهزوم، وهو بهدف التآمر مشغول بالانسجام وتعبئة قواه، تماماً بعكس ما كان عليه قبل انتصارنا عليه، وسوف يكون هذا الأمر في النهاية مؤثراً. وأنا أريد وبالتأكيد وبكل تواضع من جميع الفئات المذهبية والوطنية والمحبة للإسلام أن تعود إلى الانسجام الذي كان قبل الثورة وأن يجتنبوا عن التفرقة وأن لا يصبحوا مجموعات مجموعات في هذا الظرف الخطير، لأن هذا بمنزلة الانتحار، ومن الممكن أن يعيد الثورة إلى الوراء لا سمح الله.
أصدقائي الأعزاء، إن كل ما لدينا اليوم هو في معرض الخطر من جانب الأصدقاء الجهلة الذي يبثون الفرقة أو بسبب خطة محسوبة من جانب العدو المتآمر.
استيقظوا، فإن المحافظة على الانتصار والثورة أصعب بكثير من إحراز أصل الانتصار والثورة“14.
وأخيراً من أجل الحفاظ على النصر يوصي الإمام بنبذ الأهواء النفسانية والتعلق بالدنيا، فيقول رضوان الله عليه: “إذ تسببت أهواؤنا النفسانية لا قدَّر الله في أن يصل العتاب إلى حدود الشكاوى ومن الشكاوى إلى المخالفات، ففي ذلك اليوم يجب أن نقيم العزاء على جميع الوطن، وإثم ذلك في رقبتنا لأننا لم نجعل أهواءنا النفسانية تحت أقدامنا“15.
1- الكلمات القصار، الإمام الخميني، ص123.
2- الكلمات القصار، ص123.
3- م. ن
4- الكلمات القصار، ص123.
5- م. ن
6- م.ن، ص123.
7- الكلمات القصار، ص123.
8- سورة البقرة / الآية 249.
9- الكلمات القصار، ص123ـ124.
10- م.ن
11- م.ن
12- الوصية السياسية الإلهية الخالدة للإمام الخميني.
13- الكلمات القصار، ص124.
14- الاستقامة والثبات، ص267ـ268.
15- م.ن.