ما كان زهد الإمام علي (عليه السلام) إلاّ زهد الإمام العالم العارف، المستطيع التارك، ولم يكن زهده (عليه السلام) عن عجزٍ وفقر يمنعه من الوصول إلى أطايب الطعام، ولو أراد لأقبلت إليه الدنيا بما فيها، وهو القائل: (وَلَوْ شِئْتُ لاَهْتَدَيْتُ اَلطَّرِيقَ إِلَى مُصَفَّى هَذَا اَلْعَسَلِ وَلُبَابِ هَذَا اَلْقَمْحِ وَنَسَائِجِ هَذَا اَلْقَزِّ وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ وَيَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ اَلْأَطْعِمَةِ وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ اَلْيَمَامَةِ مَنْ لاَ طَمَعَ لَهُ فِي اَلْقُرْصِ وَلاَ عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَأَكْبَادٌ حَرَّى)(1).
إنه زهد الصادق الموقن بفناء هذه الدنيا وزوالها، المؤمن بالله تعالى، فكان يأخذ من الدنيا ما يقيم به أوده حتى لا يطول وقوفه بين يدي الله عزّ وجلّ يوم يعرض الناس للحساب، إنه زهد المواسي لأخيه الإنسان، فكرهت نفسه أن يبيت على بطنةٍ، ولعلّ على وجه المعمورة من يشكو الجوع والفقر والعازة.
فأبت نفسه إلاّ أن تصدّ عن حطام الدنيا، وتزف عن مغرياتها، فقال لها: (إلَيْكِ عَنِّي يَا دُنْيَا فَحَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ – قَدِ انْسَلَلْتُ مِنْ مَخَالِبِكِ – وأَفْلَتُّ مِنْ حَبَائِلِكِ)(2).
وكانت حياته (عليه السلام) مثالاً للزهد، إذ كان يعيش مع أولاده (عليه السلام) في بيت متواضع، وكان يأكل الشعير، ويطحنه لنفسه، ويأكل الخبز اليابس الذي يكسره على ركبته، وكان إذا أرعده البرد واشتدّ عليه الصقيع لا يتخذ له عدّة من دثار يقيه أذى البرد، بل يكتفي بما رقّ من لباس الصيف(3).
وبلغ من زهده (عليه السلام)، ومن عظيم مواساته للرعيّة أن أبى أن يسكن قصر الإمارة الخاص به في الكوفة، حتّى لا يتميّز في سكنه عن الفقراء الذين كانوا يسكنون في بيوت متواضعة في جوانب الكوفة، وهو أراد بذلك أن يشارك الناس مكاره الدهر وقسوة العيش، وفي ذلك يقول (عليه السلام): (أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ولَا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِه الدَّهْرِ)(4).
من أكرم منك؟ ومن أزهد منك يا أمير المؤمنين؟ لقد ترفّعت عن الدنيا وشهواتها فرفعك الله عزّ وجلّ، وأنت القائل: (تزوجت فاطمة (عليها السلام) وما كان لي فراش، وصدقتي اليوم لو قسّمت على بني هاشم لوسعتهم)(5)، وقال الإمام الباقر (عليه السلام) في زهد جده أمير المؤمنين (عليه السلام): (ولَقَدْ وُلِّيَ النَّاسَ خَمْسَ سِنِينَ فَمَا وَضَعَ آجُرَّةً عَلَى آجُرَّةٍ ولَا لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ ولَا أَقْطَعَ قَطِيعَةً ولَا أَوْرَثَ بَيْضَاءَ ولَا حَمْرَاءَ)(6).
ووصف زهده ابن أبي الحديد، فقال: (وأما الزّهد في الدّنيا، فهو سيّد الزّهّاد، وبدل الأبدال، وإليه تشدّ الرّحال، وعنده تنفضّ الأحلاس ما شبع من طعام قطَّ، وكان أخشن النّاس مأكلًا وملبسًا)(7).
وقال عبد الله بن أبي رافع: دخلت إليه يوم عيد، فقدّم جرابًا مختومًا، فوجدنا فيه خبز شعير يابس مرضوضًا، فقدّم فأكلت فقلت: يا أمير المؤمنين، فكيف تختمه؟ قال: خفت هذين الولدين (الحسنين) أن يلتّاه بسمن أو زيت!!
وكان ثوبه مرقوعًا بجلد تارة وليف أخرى، ونعلاه من ليف، وكان يلبس الكرباس الغليظ، فإذا وجد كمّه طويلاً قطعه بشفرة ولم يُخطه، فكان لا يزال متساقطاً على ذراعيه حتّى يبقى سدى لا لحمة له!! وكان لا يأكل اللحم إلا قليلاً ويقول: لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوانات(8).
لقد زهد الإمام علي (عليه السلام) في الدنيا، وأعرض عن ملذّاتها طمعًا بما عند الله عزّ وجلّ، ولو أراد لسجدت أمام قدميه الدنيا بما فيها، إلاّ أنه رغب عنها متّبعًا سنّة الأنبياء والصالحين قبله، لم يرقّ لنعومة عيش، ولم تمتدّ عيناه رغبة بمتاع قليلٍ زائل، وخاطب الدنيا خطاب الزاهد الكريم، العارف أحوالها وخداعها ومكرها، قائلاً: (أنا الذي أهنت الدنيا)(9)، نعم، أهان الدنيا بإعراضه عنها، وهو يعلم بأنها قضمة عيش لا بقاء لها، وكان لا ينسبها إلى نفسه تحقيرًا لها، ففي وصفه لها يقول: (وإِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا مَا لِعَلِيٍّ ولِنَعِيمٍ يَفْنَى ولَذَّةٍ لَا تَبْقَى)(10). ففي قوله (دنياكم) من التحقير والإهانة، ولو أن في نفسه شيء منها لقال: (دنياي)، لكنه ترفع عن ذلك (عليه السلام). لأن الدنيا لم تترك في نفسه أثرًا كثيرًا كان أو قليلًا.
وكانت حياته (عليه السلام) مثالًا صادقًا للزهد في الدنيا، وكان شديد الحذر منها، ولا يأمن لما في يديه منها، وإنما كان نظره متوجّهًا الى ما في يدي الله عزّ وجلّ، وبقت كلماته تدور في فلك الخلود، فيها من السرّ والحكمة لو أُخذ بها لأحيت القلوب الميّتة كما يحيي الماء الأرض القفر.
إن مثال الزهد عند الإمام (عليه السلام) هو مثال للإعراض عن الدنيا، وهو مثال تربوي للإنسان المسلم بأن يجعل نفسه لا تطلب إلّا ما عند الله عزّ وجلّ، ولا تركن إلى إغراءات الدنيا وشهواتها، وبذلك يخرج الإنسان عن حدود وجوده الإنساني، بأن يكون كالأنعام أو أضلّ سبيلاً.
إن زهد الإمام (عليه السلام) هو الباب الواسع والمدخل الرئيس الذي يستطيع الإنسان سلوكه دون أن ينحرف عقائديًّا أو يضلّ فكريًّا أو سلوكيًّا، إنها دعوة إلى الحد من الإسراف في الطيبات وتوفير بعضها، إنها دعوة للاقتصاد في الملبس من أجل غاية هي أسمى من الطعام والشراب والملبس، إنها غاية من أجل جعل النفس شفافة تنظر إلى الناس، وخصوصًا المعدمين منهم فتلمس نفوسهم ببعض تلك المتع وتدق على قلوبهم بأوتار المحبة التي تدفع هذا الإنسان كي يعيش آلامهم ويتحسس واقعهم فيرفق بهم ما أمكنه ذلك وسمحت له الظروف.
إن هذا الزهد الإسلامي هو مفتاح الخير لجعل الإنسان يحسّ بحاجة أخيه الإنسان، فيندفع ليؤثره على نفسه فيجوع ليُشبع غيره ويسغب من أجل أن يرفع حاجة إنسان، إنه يلبس ما خشن من أجل أن يوفر لأخيه شيئًا من متع الحياة(11).
إن الزهد عند الإمام (عليه السلام) مقرون بالأخلاق، يقول (عليه السلام): (إِنَّ مِنْ أَعْوَنِ الأَخْلَاقِ عَلَى الدِّينِ الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا)(12)، كأنما أخلاق المرء وحدها لا تعينه على دينه، فقام الزهد في الدنيا عونًا لها، يقوّم به دين المرء، ويستقيم حتّى يصل إلى مرضاة الله عزّ وجلّ، وهل الدين إلاّ مكارم الأخلاق، وكأن هذه المكارم لا تستقيم إلاّ إذا أسندها الزهد في الدنيا، وفراغ قلب المرء من غرورها وأوهامها.
وكفى للزهد فضيلةً ومدحًا أنه أعرف صفات الأنبياء والأولياء، ولم يُبعث نبي إلاّ به، ولو لم يتوقّف التقرّب إلى الله والنجاة في دار الآخرة عليه لمّا ضيّق علماء نوع الإنسان وأعرف الناس بحقيقة الحال على أنفسهم في فطامها عن شهوات الدنيا ولذّاتها(13).
وهل هناك أعرف وأعظم من الإمام علي (عليه السلام) بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وبطبيعة الحال أن تكون حياته ومماته لله ربّ العالمين، على سنّة من سبقه من أولياء الله (عليهم السلام)، وها هو ذا يُقسم على اتباع هذه السنّة، سنة الزهد في الدنيا، لا من أجل جمع مالٍ وادخاره أو اكتناز ذهب أو فضة أو اقتناء عقارٍ ودار. وإنما كان زهدًا في كلّ ما حوته الدنيا، وإعراضًا عنها رغبة في ما عند الله عزّ وجلّ، وهو ذا يقول:
(فَوَ اللهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبْرًا ولَا ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْرًا ولَا أَعْدَدْتُ لِبَالِي ثَوْبِي طِمْرًا ولَا حُزْتُ مِنْ أَرْضِهَا شِبْرًا ولَا أَخَذْتُ مِنْه إِلَّا كَقُوتِ أَتَانٍ دَبِرَةٍ ولَهِيَ فِي عَيْنِي أَوْهَى وأَوْهَنُ مِنْ عَفْصَةٍ مَقِرَةٍ)(14).
وبلغ من زهده (عليه السلام) أن اعترف له به عدوّه البغيض معاوية بن أبي سفيان، يقول ابن أبي الحديد: (قال عدوّه ومبغضه الذي يجتهد في وصمه وعيبه معاوية بن أبي سفيان لمخفن بن أبي مخفن الضبي لما قال له: جئتك من عند أبخل الناس، فقال: ويحك كيف تقول أبخل الناس وهو الذي لو ملك بيتًا من تبر، وبيتًا من تبن، لأنفد تبره قبل تبنه، وهو الذي كان يكنس بيوت الأموال، ويصلي فيها، وهو الذي قال: يا صفراء ويا بيضاء غري غيري، وهو الذي لم يخلف ميراثًا، وكانت الدنيا كلّها بيده إلاّ ما كان من الشام)(15).
ولم يقل عدوّه معاوية ما قال، لو لم يكن الزهد مَعْلَمًا بارزًا من معالم شخصية الإمام (عليه السلام)، وسمة مميزة زينه الله تعالى به، وقد أكد هذا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إذ قال للإمام عليٍّ (عليه السلام): (إن الله قد زيّنك بزينة لم يزيّن العباد بزينة أحبّ منها، هي زينة الأبرار عند الله: الزهد في الدنيا، فجعلك لا ترزأ من الدنيا ولا ترزأ الدنيا منك شيئًا، ووهبك حبّ المساكين، فجعلك ترضى بهم أتباعًا، ويرضون بك إمامًا)(16).
وقد زهد الإمام علي (عليه السلام) عن كل لذّات الحياة وزينتها وتوجّه بكلّ وجوده نحو الآخرة، وعاش عيشة المساكين وأهل المتربة من رعيته.
فهل حدّثك التاريخ عن زعيم كعلي (عليه السلام) في عظيم اقتدائه برسول الله (صلى الله عليه وآله)، تُجبى له الأموال من الشرق والغرب، وعاصمته الكوفة تقع في أخصب أرض الله وأكثرها غنىً يومذاك، بيد أنه يعيش مواسيًا لأقلّ الناس حظًّا في العيش في هذه الحياة، يأكل خبز الشعير دون أن يخرج نخالته، ويكتفي بقميص واحد لا يجد غيره عند الغسل، ويحرّم على نفسه الأكل من بيت المال، ويرقع مدرعته حتى يستحي من راقعها(17).
أتُرى تستطيع العقول أن تصل إلى كنهه (عليه السلام)، وأن تسبر أغوار نفسه الشريفة؟ إن ذلك لأمرٌ عسير تقف عند حدوده أعظم العقول وأبعدها تأملاً، متحيّرة وشاخصة بصرها دون أن تصل إلى قرار.
فشخص الإمام علي (عليه السلام) جاوز الأولين وأعجز الآخرين، ووصل حدود الكمال في كلّ صفاته، وكان زهده وما سلك فيه من أكمل ما وصل إلينا عن زاهد في التاريخ، يواسي به الإنسان ممّن حرم من الطيّبات والملذات، وكانت غايته مرضاة الله عزّ وجلّ، دون أن تدفعه نفسه في لحظة من الزمن أن يخرج عن سلوكه، أو أن يهوي في ملذّة من ملذّات الحياة، وأفرغ نفسه من حبّ الدنيا وما فيها طلباً لما عند الله، وتقديساً لكرامة الإنسان، فما كان منه إلا أن يهين الدنيا مرة بعد أخرى، ويعرض عنها وإن تعرّضت له دون أن يمسّ قلبه منها هوىً قليل أو كثير.
وكانت مدة حكمه البالغة أربع سنين ونيف من الشهور مثالاً للحاكم العادل والإمام المنصف، فلم تكن الحكومة عنده تعني شيئًا إذا لم ينصف فيها مظلومًا أو يقيم حدًّا من حدود الله، وكان (مسلك الإمام تطويع وسيلة لغاية كريمة، هي إقرار إنسانية الإنسان، بقمع الانحراف، وغرس الفضائل، وسيادة العدل، وتوزيع ناتج العمل وخير المجتمع – بالحق – على جميع من فيه، ولا عجب وهو شبّ في حجر النبوّة ونهل من مكارم خلق الرسول، وتشرّب دعوته بالفكر والقلب وبالروح حتى نفذ نورها إلى كيانه، وشاع فيه إلى أبعد أغواره وأخفى خفاياه)(18).
وما كان ما ظهر منه من سيرة قوامها العدل والزهد إلّا صورة ظاهرة عكست ما تنطوي عليه نفسه، فتطابق ظاهره وباطنه، لذا لم يستطع إنسان أن يثبت عليه خللًا في رأي أو انحرافًا في سلوك.
وها هو أزهد الزاهدين، شبيه عيسى (عليه السلام) كما ذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أكثر من مناسبة، أصبح غاية المريدين ومنهلاً للصالحين، يسيرون بسيرته ولا يصلون إليه. وطلّق الدنيا ثلاثًا لا رجعة فيها، ورحل عنها ولم يورّث صفراء ولا بيضاء، رحل عنها كما أتى إليها مثالاً للصفاء والإيمان والكمال.
وصفة الزهد عند الإمام علي (عليه السلام)، فضلاً عن صفاته الأخرى، كانت مثالًا للإنسان في كلّ عصر، يقتدي بها ويتمثّل بها كقيمة إنسانيّة، تشعره بوجود أخيه الإنسان قربه، محافظًا على العلائق الإنسانيّة، وفي الوقت نفسه، تدفعه نوازعه الإنسانية للسير في طريق التكامل الإنساني، فالإنسان في حركة مستمرة، وعصر بعد عصر يسير خطوة في اتجاه كماله، ونهج الإمام علي (عليه السلام) في كماله وكمال صفاته مما يحتاجه الإنسان ليصل بأقصر الطرق إلى غايته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ نهج البلاغة/تحقيق صبحي الصالح/ص417.
2ـ م.ن/ص419.
3ـ ينظر: أعلام الهداية، الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، المجمع العالمي لأهل البيت، ص31-32.
4ـ نهج البلاغة/ص418.
5ـ كشف المحجة لثمرة المهجة/السيد ابن طاووس/ص124.
6ـ الكافي/للكليني/ج8ص130.
7ـ ينظر: نهج البلاغة، ابن أبي الحديد/ج1ص26.
8ـ م.ن.
9ـ البداية والنهاية/ابن كثير/ج8ص6.
10ـ نهج البلاغة/ تحقيق صبحي الصالح/ص347.
11ـ ينظر: الإمام علي عليه السلام منتهى الكمال البشري، عباس علي الموسوي، ص190-191.
12ـ الكافي/للكليني/ج2ص128.
13ـ ينظر: صوت الإمام علي في نهج البلاغة، السيد حسن القبانجي النجفي، ج2، ص255.
14ـ نهج البلاغة/تحقيق صبحي الصالح/ص417.
15ـ شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد/ج1ص22.
16ـ المناقب، ابن شهر آشوب، ط1، ج2، ص94.
17ـ ينظر: سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)،
لجنة التأليف في مؤسسة البلاغ/ج1ص611-614.
18ـ الإمام علي بن أبي طالب، عبد الفتاح عبد المقصود/ج4، ص440-441.
المصدر:شراج القائم (عج)