نص الشبهة:
أثناء إلقاء نظرة على كتاب نهج البلاغة لأمير المؤمنين (عليه السلام), (طبع مؤسسة الأعلمي، بيروت, لبنان في صفحة 473 خطبة رقم225 تحت عنوان ومن كلام له في الثناء على عمر بن الخطاب). وجدت هذه الخطبة منسوبة إليه (عليه السلام) وهي: «لله بلاء فلان (أي عمر)، فقد قوّم الأود، خلف الفتنة ذهب نقيَّ الثوب، قليل العيب، أصاب خيرها، وسبق شرها، أدى إلى الله طاعته واتقاه بحقه، رحل وتركهم في طرق متشعبة، لا يهتدي فيها الضال، ولا يستيقن المهتدي»
فهل هذه الخطبة فعلا لأمير المؤمنين (عليه السلام) وما هو القصد منها وكيف يمكن تأويلها.
الجواب:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطاهرين..
وبعد..
فقد سألت عن الخطبة الموجودة في كتاب نهج البلاغة برقم 225 أو 226 وأنه كيف يمكن أن يرثي علي (عليه السلام) عمر بن الخطاب بمثل هذا الرثاء؟!
ونجيب بما يلي:
1 ـ إن الشريف الرضي (رحمه الله) لم يصرح باسم عمر بن الخطاب، بل الموجود فيه هكذا: «ومن كلام له (عليه السلام): لله بلاء فلان، فقد قوّم الأود إلخ..».
2 ـ قد ذكر القطب الراوندي: أنه (عليه السلام) قد مدح بعض أصحابه بحسن السيرة، وأنه مات قبل الفتنة التي وقعت بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، من الاختيار والإيثار 1. أما غير الراوندي فزعمت الجارودية من الزيدية: أن مراده (عليه السلام) عثمان، وهو مدح يراد به الذم والتهكم 2.
3 ـ إن ابن أبي الحديد المعتزلي قد ذكر أن المقصود هو عمر بن الخطاب، وحجته في ذلك: أن السيد فخار بن معد الموسوي الأودي الشاعر حدثه أنه وجد النسخة التي بخط الرضي.. وتحت فلان: عمر 3.
ونقول: إن ذلك لا يصلح دليلاً على ذلك، إذ قد يكون صاحب النسخة ومالكها هو الذي كتب كلمة «عمر» تحت قوله: فلان. وذلك اجتهاداً منه، حيث رأى بزعمه أن هذه الصفات تنطبق على عمر دون سواه.
ولو أن الرضي قد كتب ذلك لكان أدخله في عنوان الخطبة، وقال: ومن كلام له (عليه السلام) في عمر بن الخطاب، فإنه قد فعل ذلك في موارد أخرى، ثم لماذا لم يضرب على كلمة فلان، ويكتب كلمة عمر مكانها؟! ألا يدل ذلك على أن كلمة عمر لم يكتبها الشريف الرضي بل كتبها مالك النسخة تبرعاً منه واجتهاداً؟؟!
4 ـ إن المعروف من رأي أمير المؤمنين (عليه السلام) في عمر بن الخطاب يخالف هذا الكلام تماماً.. ولا أظن أننا نحتاج إلى إيراد الشواهد على ذلك..
5 ـ قد ذكر الطبري في تاريخه، قال: لما مات عمر بكته ابنة أبي حثمة فقالت: «وا عمراه، أقام الأود، وأبرأ العمد، أمات الفتن، وأحيا السنن، خرج نقي الثوب، بريئاً من العيب».
وقد ذكر أن المغيرة بن شعبة: ذهب حين مات عمر إلى علي ليسمع منه شيئاً، وأنه (عليه السلام) قال: «رحم الله ابن الخطاب، لقد صدقت ابنة أبي حثمة، لقد ذهب بخيرها، ونجى من شرها. أَمَ والله، ما قالت ولكن قوّلت» 4.
والظاهر: أن ثمة تصرفاً في هذا الكلام.. إذ أن قوله (عليه السلام)، ما قالت ولكن قوّلت، يشير إلى أن الآخرين قد طلبوا منها أن تقول ذلك. أو أن الآخرين قد نسبوا إليها أمراً لم تقله. وهذا لا يتلاءم مع قوله (عليه السلام): لقد صدقت..
إلا إذا فرض أن الذي قال: لقد صدقت هو المغيرة.. فأجابه علي (عليه السلام) مقسماً بالله.. أنها ما قالت ولكن قولت.. وأنه أمر مدبر بليل إما بالإملاء عليها، أو بافتراء القول على لسانها..
6 ـ ومما يدل على أن ثمة تصرفاً في النص: أن ابن عساكر يروي الحديث من دون كلمة «لقد صدقت ابنة أبي حثمة» فهو يقول: «لما كان اليوم الذي هلك فيه عمر، خرج علينا علي مغتسلاً، فجلس، فأطرق ساعة ثم رفع رأسه فقال: لله در باكية عمر قالت: واعمراه، قوم الأود، وأبرأ العمد، واعمراه، مات نقي الثوب، قليل العيب، واعمراه ذهب بالسنة، وأبقى الفتنة».
وزاد في أخرى: فقال علي: «والله ما قالت، ولكن قولت» 5.
وفي نص لابن عساكر أنه (عليه السلام) قال: «أصدقت»؟! على سبيل الاستفهام، ولم يقل: لقد صدقت 6.
ثم إن الشيخ التستري قد اعتبر أن قوله: ذهب بخيرها ونجا من شرها. يراد به: أنه استفاد منها، ولم يصبه أي مكروه فهو نظير قوله (عليه السلام) في الخطبة الشقشقية: لشد ما تشطرا ضرعيها 7.
لكن ابن أبي الحديد المعتزلي قد جهد في تأكيد نسبة هذا القول إلى علي (عليه السلام) في عمر بن الخطاب.. وتمسك من أجل ذلك بأضعف الاحتمالات..
حيث زعم أنه (عليه السلام) إنما يتحدث عن أمير ذي رعية وسيرة: بقرينة قوله (عليه السلام) «أقام الأود، وداوى العمد، وأقام السنة، وخلف الفتنة».
وقوله: «أصاب خيرها، وسبق شرها».
وقوله: «أدى إلى الله طاعته».
وقوله: «رحل وتركهم في طرق متشعبة» فإن الضمير في قوله: وتركهم، لا يصح أن يعود إلا إلى الرعايا. والذين ماتوا في عهد الرسول لا ينطبق عليهم هذا الكلام.
ونقول:
1 ـ إن بعض هذه الفقرات يناسب الناس كلهم، فلا يصح الاستشهاد بها كقوله: «أدى إلى الله طاعته».
وقوله: «أصاب خيرها، وسبق شرها». وكذلك قوله: «رحل وتركهم في طرق متشعبة»..
بل إن قوله أقام السنة أيضاً، لا يأبى عن الانطباق على أي كان من الناس، إذا كان قد التزم إقامة السنة في دائرته التي تعنيه، حتى لو كانت دائرته الشخصية، فهو كقولك: فلان أقام الصلاة. ومعنى خلف الفتنة أنه لم يُبتلَ بها، ولم تنل منه شيئاً..
وأما قوله: أقام الأود أي أصلح المعوج، وداوى العمد أي داوى الجرح، فإن هذا يصدق على أي كان من الناس أيضاً، كل في الدائرة التي تعنيه، إذا قام بما فرضه الله عليه..
ومن العجيب: أن المعتزلي قد فسر قوله: أصاب خيرها بأنه أصاب خير الولاية.. مع أن ذلك غير ظاهر.. بل الظاهر أن المقصود هو خير الدنيا، وسبق شر الدنيا..
ولو كان المقصود هو خير الولاية لم يتناسب مع قوله: وسبق شرها، أي الاختلافات الحاصلة بعد رسول الله، من أجل الحصول على حطام الدنيا أيضاً.
وبعد هذا.. فلا يصغى إلى قول ابن أبي الحديد: «.. وهذه الصفات إذا تأملها المنصف، وأماط عن نفسه الهوى، علم أن أمير المؤمنين لم يعن بها إلا عمر لو لم يكن قد روي لنا توقيفاً ونقلاً، فكيف وقد رويناه عمن لا يتهم في هذا الباب» 8.
نعم لا يصغى له، وذلك لما يلي:
1 ـ لماذا طبقها على عمر بالخصوص، ولم يطبقها على أبي بكر مثلاً؟! أو على عثمان؟! فإن ابن أبي الحديد يرى في هؤلاء أيضاً ما يبرر وصفهم بهذه الأوصاف!!
2 ـ لماذا لا يقال: إن المقصود بهذه الصفات هو عمار بن ياسر، الذي كان والياً أيضاً على الكوفة مدة من الزمن.. وكان علي يرى فيه أنه أهل لهذه الصفات ولما هو أعظم منها..
أو لماذا لا يطبقها على الأشتر، أو على محمد بن أبي بكر رحمهما الله تعالى. أو غير هؤلاء من أعاظم أصحابه الذين استشهدوا في حرب الجمل وصفين، وكان لهم حظ عظيم في إدارة الأمور، وفي الجهاد في سبيل الحق.. وكان لبعضهم أيضاً تاريخ حافل حتى مع الذين استولوا على مقام الخلافة، واغتصبوه منه (عليه السلام)؟!..
3 ـ وما معنى قوله: إن هذا الأمر قد روي له توقيفاً ونقلاً؟! فإن ما ذكره له فخار بن معد، لا يدخل في سياق النقل، بل هو اجتهاد من مالك النسخة. وقد ذكرنا القرائن على ذلك في أوائل هذه الإجابة فلا نعيد.
وأما قول بعض الزيدية أو غيرهم، ومنهم النقيب أبو جعفر يحي بن أبي زيد العلوي، فهو أيضاً لا يعبأ به، لأنه أيضاً لا يدخل في عداد النقل، والاستناد إلى النص، بل هو مجرد اجتهاد وسبيله سبيل التكهن والرجم بالغيب، والاعتماد على استحسانات كالاستحسانات التي ذكرها ابن أبي الحديد نفسه..
4 ـ وأخيراً.. فإنه لا ريب في أن رأي علي (عليه السلام) في عمر لا يمكن أن يكون هو ما تضمنته هذه الفقرات.. بل هو كان يراه ظالماً متعدياً.. ما أكثر ما يخالف أحكام الله وشرائعه، في فتاويه وأحكامه وسياساته، فكيف يقول فيه بما يعتقد خلافه؟!..
وبذلك كله يظهر: أن ما فعله الأعلمي من التصرف في عنوان الخطبة يعتبر افتئاتاً على الشريف الرضي، وإساءة وافتراء على أمير المؤمنين، وتزلفاً غير مقبول لمن يفترض التقرب إليهم ببيان الحقائق، لا بتزوير التاريخ.
فجزى الله الأعلمي ما يستحقه على فعلته الشنعاء هذه..
والسلام عليك أيها الأخ الكريم ورحمة الله وبركاته.. 9.
- 1. منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة للراوندي ج2 ص402 وعنه في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج3 ص754 ط دار مكتبة الحياة سنة 1963م.
- 2. شرح نهج البلاغة ج3 ص753 و754.
- 3. المصدر السابق ج3 ص753و754.
- 4. تاريخ الأمم والملوك المجلد الثاني ص 419 طبع سنة 1405 ه. مؤسسة عز الدين بيروت.
- 5. مختصر تاريخ دمشق ج19 ص48 و49.
- 6. بهج الصباغة ج9 ص482 ط سنة 1418ه دار أمير كبير طهران / إيران.
- 7. المصدر السابق.
- 8. شرح نهج البلاغة ج3 ص755 ط دار مكتبة الحياة سنة 1963م.
- 9. مختصر مفيد.. (أسئلة وأجوبة في الدين والعقيدة)، للسيد جعفر مرتضى العاملي، «المجموعة الثانية»، المركز الإسلامي للدراسات، الطبعة الأولى، 1423 ـ 2002، السؤال (141).