حج الامام زين العابدين (ع) بيت الله الحرام ، وكان قد حج هشام بن عبد الملك ، وقد جهد هشام على استلام الحجر فلم يستطع لزحام الناس على الحجر ، ونصب له منبر فجلس عليه ، وجعل ينظر الى طواف الناس ، واقبل الامام زين العابدين ليؤدي طوافه ، فلما بصر به الحجاج غمرتهم هيبته التي تحكي هيبة جده رسول الله (ص) وتعالت الاصوات بالتهليل والتكبير ، وانفرج الناس له سماطين ، وكان السعيد من يراه ، والسعيد من يقبل يده ، ويلمس كتفه ، فانه بقية الله في ارضه ، وذهل اهل الشام ، وبهروا ، وتطلعت إليه أعناقهم وأبصارهم فان هشام المرشح للخلافة بعد أبيه مع ما احيط به من هالة التكريم من أهل الشام واحتفاف الشرطة به ، فانه لم ينل أي لون من الوان الحفاوة من الحجاج ، وبادر أحد اصحابه فقال له :
« من هذا الذي هابه الناس هذه المهابة؟ »
وتميز هشام من الغيظ ، وانتفخت أوداجه فصاح بالرجل « لا اعرفه .. »
وإنما انكر معرفته للإمام مخافة أن يرغب فيه الناس ، وكان الفرزدق حاضرا ، فلم يملك أهابه فقال لاهل الشام :
« أنا اعرفه »
« من هو يا أبا فراس؟ »
وصاح هشام بالفرزدق قائلا :
« أنا لا أعرفه » « بلى تعرفه »
ونهض فانشد هذه الرائعة التي كانت أشد وقعا على هشام من ضرب السيوف وطعن الرماح قائلا :
هذا سلـيل حســين و ابـن فاطـمة بنت الرسول الذي انجابت به الظلم
هذا الذي تـعرف البطـحاء وطأتـه و البــيت يعرفـه و الحل و الــــحرم
هذا ابـــن خيــر عبـاد الله كـلهـم هذا التـــقي النــقي الطــاهر العـــــلم
اذا رأتــــه قريـــش قـــال قـائــلها: الـــى مــكارم هذا ينتــهي الـــــكرم
يرقى الى ذروة العز الذي قـصرت عن نيلها عرب الاسلام والعــجــم
يـكاد يـمسـكـه عــرفــــان راحتــه ركن الحطيم اذا ما جاء يستـــــــلـم
يغضي حياء ويغضى مـن مـهابــته فـــلا يكـــلم إلا حــــين يبتـــــســم
بــكفــه خيــزران ريحـــــها عبــق من كف أروع في عرينينه شمـــم
مـن جــده دان فضـل الأنبياء له و فضــل أمتــه دانت لـه الامـــــم
ينشــق نور الهدى عـن نور غرتـه كالشمس تنجاب عن اشراقها الظلم
مشتــقة من رســــول الله نـبـعتــه طابـت عناصرها و الخـيم و الشــيم
هذا ابن فاطـمة ان كنت جاهله بجـــــده انبـياء الله قـــد ختـــــموا
الله شـــــرفــه قـدمــــا و فضـــــله جرى بــذاك لــــه في لوحــــه القلم
فليس قولك مـــن هـذا بضـــائره العرب تعرف من انكرت والعجم
كـلتــا يـديـــه غيـاث عم نفعهما يستو كفان و لا يعــروهما عــــدم
حمــال اثــقـال أقـوام اذا فـدحوا حلـــو الشمائل تحلـــو عنده نعـــم
لا يخـلف الـوعـد مـيمون نقـيبته رحب الفناء أريب حســين يعتزم
من معشر حبهم دين و بغضــهم كفر وىقربهم منــجى وىمــعتــصـم
إن عــد أهـل التقى كانوا أئمتهم أو قيل من خير أهل الارض قيل هم
لا يستطيـع جـواد بعـد غايــــتهم و لا يدايــنهم قــــوم و إن كرمـــوا
هم الغــيوث إذا ما ازمة ازمت والاسد أسد الشرى والبأس محتدم
لاينقص العسر بسطا من اكفهم سيان ذلك ان أثروا وان عدمـــوا
يستـدفع السـوء و البلوى بحــبهم و يسترد بـه الاحســــان و النعـــم
مقــــــدم بعـــد ذكر الله ذكرهــم في كل أمر و مختوم بـه الكــــــلم
يأبى لهم أن يحل الـذل ساحتهم خيم كريم و أيـد بالندى هضــــم
أي الخلائق ليـــست في رقابهم لا وليــــة هــــــذا أولا نعـــــــــم
من يشـــكر الله يشــــكر أولية ذا فالدين من بيـت هذا بابه الامم
وثار هشام وود أن الارض قد خاست به ، ولا يسمع هذه القصيدة العصماء التي دللت على واقع الامام العظيم ، وعرفته لاهل الشام الذين جهلوه وجهلوا آباءه ، وأمر بالوقت باعتقال الفرزدق بعسفان بين مكة والمدينة ، وبلغ ذلك الامام زين العابدين فبعث إليه باثني عشر الف درهم فردها الفرزدق ، واعتذر من قبولها ، وقال : إنما قلت فيكم غضبا لله ورسوله فردها الامام عليه فقبلها1.
- 1. المصدر: كتاب حياة الإمام محمّد الباقر عليه السلام دراسة وتحليل للعلامة الشيخ باقر شريف القرشي رحمه الله.