نص الشبهة:
فإن قيل: فما الوجه في قوله تعالى: ﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي … ﴾ أو ليس هذه الآية تدل على جواز الرؤية عليه تعالى لأنها لو لم تجز لم يسغ أن يسألها موسى (ع) كما يجوز أن يسأله اتخاذ الصاحبة والولد؟
الجواب:
قلنا: أولى ما أجيب به عن هذه الآية أن يكون موسى عليه السلام لم يسأل الرؤية لنفسه، وإنما سألها لقومه.
فقد روي أن قومه طلبوا ذلك منه، فأجابهم بأن الرؤية لا تجوز عليه تعالى. فلجوا به وألحوا عليه في أن يسأل الله تعالى أن يريهم نفسه، وغلب في ظنه أن الجواب إذا ورد من جهته جلت عظمته كان أحسم للشبهة وأنفى لها، فاختار السبعين الذين حضروا للميقات لتكون المسألة بمحضر منهم، فيعرفوا ما يرد من الجواب، فسئل عليه السلام على ما نطق به القرآن، وأجيب بما يدل على أن الرؤية لا يجوز عليه عز وجل.
ويقوي هذا الجواب أمور:
منها: قوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِنْ ذَٰلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ … ﴾ 1.
ومنها: قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ﴾ 2.
ومنها: قوله تعالى: ﴿ … فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ … ﴾ 3 فأضاف ذلك إلى السفهاء، وهذا يدل على أنه كان بسببهم من حيث سألوا ما لا يجوز عليه تعالى.
ومنها: ذكر الجهرة في الرؤية وهي لا تليق إلا برؤية البصر دون العلم، وهذا يقوي أن الطلب لم يكن للعلم الضروري على ما سنذكره في الجواب التالي لهذا الكلام.
ومنها: قوله تعالى: ﴿ … أَنْظُرْ إِلَيْكَ … ﴾ 4 لأنا إذا حملنا الآية على طلب الرؤية لقومه، أمكن أن يكون قوله أنظر إليك على حقيقته، وإذا حملنا الآية على العلم الضروري احتيج إلى حذف في الكلام، فيصير تقديره أرني أنظر إلى الآيات التي عندها أعرفك ضرورة.
ويمكن في هذا الوجه الأخير خاصة أن يقال: إذا كان المذهب الصحيح عندكم أن النظر في الحقيقة غير الرؤية، فكيف يكون قوله أنظر إليك على حقيقته، في جواب من حمل الآية على طلب الرؤية لقومه، فإن قلتم: لا يمتنع أن يكونوا إنما التمسوا الرؤية التي يكون معها النظر والتحديق إلى الجهة فسأل على حسب ما التمسوا، قيل لكم: هذا ينقض قولكم في هذا الجواب بين سؤال الرؤية وبين سؤال جميع ما يستحيل عليه من الصاحبة والولد، وما يقتضي الجسمية بأن تقول: الشك في الرؤية لا يمنع من صحة معرفة السمع، والشك في جميع ما ذكر يمنع من ذلك، لأن الشك الذي لا يمنع من معرفة السمع إنما هو في الرؤية التي يكون معها نظر ولا يقتضي التشبيه.
فإن قلتم يحمل ذكر النظر على أن المراد به نفس الرؤية على سبيل المجاز، لأن عادة العرب أن يسموا الشئ باسم طريقه وما قاربه وما داناه، قيل لكم فكأنكم قد عدلتم عن مجاز إلى مجاز، فلا قوة في هذا الوجه، والوجوه التي ذكرناها في تقوية هذا الجواب المتقدمة أولى، وليس لأحد أن يقول: لو كان موسى (ع) إنما سأل الرؤية لقومه لم يضف السؤال إلى نفسه فيقول أرني أنظر إليك، ولا كان الجواب أيضا مختصا به في قوله: لن تراني، وذلك أنه غير ممتنع وقوع الإضافة على هذا الوجه، مع أن المسألة كانت من أجل الغير إذا كان هناك دلالة تؤمن من اللبس، فلهذا يقول أحدنا إذا شفع في حاجة غيره للمشفوع إليه: أسألك أن تفعل بي كذا وكذا وتجيبني إلى كذا وكذا، ويحسن أن يقول المشفوع إليه: قد أجبتك وشفعتك وما جرى مجرى هذه الألفاظ. وإنما حسن هذا لأن للسائل في المسألة غرضا، وإن رجعت إلى الغير لتحققه بها وتكلفه كتكلفه إذا اختصه.
فإن قيل: كيف يسأل الرؤية لقومه مع علمه باستحالتها، ولئن جاز ذلك ليجوز أن يسأل لقومه سائر ما يستحيل عليه من كونه جسما وما أشبهه متى شكوا فيه.
قلنا: إنما صحت المسألة في الرؤية ولم تصح فيما سألت عنه، لأن مع الشك في جواز الرؤية التي لا يقتضي كونه جسما يمكن معرفة السمع، وإنه تعالى حكيم صادق في أخباره، فيصح أن يعرفوا بالجواب الوارد من جهته تعالى استحالة ما شكوا في جوازه، ومع الشك في كونه جسما لا يصح معرفة السمع فلا ينتفع بجوابه ولا يثمر علما.
وقد قال بعض من تكلم في هذه الآية: قد كان جايز أن يسأل موسى (ع) لقومه ما يعلم استحالته وإن كان دلالة السمع لا تثبت قبل معرفته متى كان المعلوم أن في ذلك صلاحا للمكلفين في الدين، وأن ورود الجواب يكون لطفا لهم في النظر في الأدلة وإصابة الحق منها، غير أن من أجاب بذلك شرط أن يبين النبي (ع) أنه عالم باستحالة ما سأل فيه، وأن غرضه في السؤال أن يرد الجواب فيكون لطفا.
وجواب آخر في الآية: وهو أن يكون موسى عليه السلام إنما سأل ربه تعالى أن يعلمه نفسه ضرورة بإظهار بعض أعلام الآخرة التي يضطر عندها إلى المعرفة، فتزول عنه الخواطر ومنازعة الشكوك والشبهات، ويستغني عن الاستدلال، فتخف المحنة. عنه بذلك، كما سأل إبراهيم عليه السلام ربه تعالى أن يريه كيف يحيي الموتى طلبا لتخفيف المحنة، وإن كان قد عرف ذلك قبل أن يراه. والسؤال وإن وقع بلفظ الرؤية فإن الرؤية تفيد العلم كما تفيد الادراك بالبصر.
قال الشاعر: رأيت الله إذا سمى نزارا *** واسكنهم بمكة قاطنينا
واحتمال الرؤية للعلم أظهر من أن يدل عليه لاشتهاره ووضوحه.
فقال الله تعالى لن تراني أي لم تعلمني على هذا الوجه الذي التمسته، ثم أكد ذلك بأن أظهر في الجبل من الآيات والعجائب ما دل به على أن المعرفة الضرورية في الدنيا مع التكليف وبيانه لا يجوز، فإن الحكمة تمنع منها، والوجه الأول أولى لما ذكرناه متقدما من الوجوه، لأن موسى (ع) لا يخلو من أن يكون شاكا في أن المعرفة الضرورية لا يصح حصولها في الدنيا أو غير شاك، فإن كان شاكا فالشك فيما يرجع إلى أصول الديانات وقواعد التكليف لا يجوز على الأنبياء (ع)، لا سيما وقد يجوز أن يعلم ذلك على حقيقته بعض أمتهم فيزيد عليهم في المعرفة، وهذا أبلغ في التنفير عنهم من كل شئ يمنع منهم، وإن كان موسى عليه السلام عالما بذلك وغير شاك فيه، فلا وجه لسؤاله إلا أن يقال إنه سأل لقومه، فيعود إلى معنى الجواب الأول.
فقد حكي جواب ثالث في هذه الآية عن بعض من تكلم في تأويلها من أهل التوجيه، وهو أنه قال: يجوز أن يكون موسى عليه السلام في وقته مسألته ذلك كان شاكا في جواز الرؤية عليه تعالى، فسأل عن ذلك ليعلم هل يجوز عليه أم لا، قال: وليس شكه في ذلك بمانع أن يعرف الله تعالى بصفاته، بل يجري مجرى شكه في جواز الرؤية على بعض ما لا يرى من الأعراض في أنه غير مخل بما يحتاج إليه في معرفته تعالى، قال ولا يمتنع أن يكون غلطه في ذلك ذنبا صغيرا وتكون التوبة الواقعة منه لأجله.
وهذا الجواب يبعد من جهة أن الشك في جواز الرؤية التي لا تقتضي تشبيها وإن كان لا يمتنع من معرفته بصفاته، فإن الشك في ذلك لا يجوز على الأنبياء عليهم السلام من حيث يجوز من بعض من بعثوا إليه أن يعرف ذلك على حقيقته، فيكون النبي (ع) شاكا فيه وأمته عارفون به مع رجوعهم في المعارف بالله تعالى، وما يجوز عليه تعالى وما لا يجوز، وهذا يزيد في التنفير على كل ما يوجب تنزيه الأنبياء عليهم السلام عنه.
فإن قيل: فعن أي شئ كانت توبة موسى عليه السلام على الجوابين المتقدمين؟.
قلنا: أما من ذهب إلى أن المسألة كانت لقومه، فإنه يقول إنما تاب لأنه أقدم على أن يسأل عن لسان قومه يؤذن له وليس للأنبياء عليهم السلام ذلك، لأنه لا يؤمن من أن يكون الصلاح في المنع منه، فيكون ترك إجابتهم منفرا عنهم. وليس تجري مسألتهم على سبيل الاستسرار، وبغير حضور قومهم يجري مجرى ما ذكرناه لأنه ليس يجوز أن يسألوا مستسرين ما لم يؤذن لهم فيه، لأن منعهم منه لا يقتضي تنفيرا.
ومن ذهب إلى أنه سأل المعرفة الضرورية يقول أنه تاب من حيث سأل معرفة لا يقتضيها التكليف. وفي الناس من قال إنه تاب من حيث ذكر في الحال ذنبا صغيرا مقدما.
والذي يجب أن يقال في تلفظه بذكر التوبة إنه وقع على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى والرجوع إليه والتقرب منه وإن لم يكن هناك ذنب معروف. وقد يجوز أن يكون أيضا الغرض في ذلك مضافا إلى ما ذكرناه من الاستكانة والخضوع والعبادة وتعليمنا وتفهيمنا على ما نستعمله وندعو به عند نزول الشدائد وظهور الأهوال وتنبيه القوم المخطئين خاصة على التوبة مما التمسوه من الرؤية المستحيلة عليه تعالى، فإن الأنبياء (ع) وإن لم يقع منهم القبائح فقد يقع من غيرهم، ويحتاج من وقع ذلك منه إلى التوبة والاستغفار والاستقالة وهذا بين بحمد الله ومنه 5.
- 1. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 153، الصفحة: 102.
- 2. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 55، الصفحة: 8.
- 3. القران الكريم: سورة الأعراف (7)، الآية: 155، الصفحة: 169.
- 4. القران الكريم: سورة الأعراف (7)، الآية: 143، الصفحة: 167.
- 5. تنزيه الأنبياء عليهم السلام للسيد مرتضى علم الهدى، دار الأضواء: 111 ـ 116.