نص الشبهة:
قد تقدم أن ذا الشمالين قد استشهد في بدر. ولكن ثمة رواية تنافي ذلك، وملخصها: أن أبا هريرة ادعى؛ أنه حضر مع النبي «صلى الله عليه وآله» يصلي الظهر أو العصر؛ فسلم الرسول «صلى الله عليه وآله» في ركعتين، فقال ذو الشمالين بن عبد عمرو، وكان حليفاً لبني زهرة: أخففت ـ أو أقصرت ـ الصلاة أم نسيت؟ فقال «صلى الله عليه وآله»: ما يقول ذو اليدين؟. قالوا: صدق يا نبي الله. فأتم بهم الركعتين اللتين نقص. وللرواية نصوص أخرى مختلفة، ففي بعضها: أنه «صلى الله عليه وآله» أجاب ذا اليدين بقوله: كل ذلك لم يكن. وفي بعضها: أنه «صلى الله عليه وآله» وقف متكئاً على خشبة المسجد مغضباً، وخرج سرعان من الناس يخبرون بقصر الصلاة. وفي بعضها: أنه «صلى الله عليه وآله» قام يمشي، فلحقه أبو بكر وعمر وذو اليدين (صحيح البخاري الباب الثالث من أبواب ما جاء في السهو في الصلاة، وصحيح مسلم في أبواب السهو، وفتح الباري ج3 ص77 حتى ص83، والبخاري بهامشه، ومصنف الحافظ عبد الرزاق ج2 ص296 و297 و299، ومسند أحمد ج2 ص271 و284 و234، وموطأ مالك ج1 ص115، ونقل عن كنز العمال ج4 ص215 و214 عن عبد الرزاق وابن أبي شيبة، وتهذيب الأسماء واللغات ج1 ص186، والإستيعاب هامش الإصابة ج1 ص491/492، والإصابة ج1 ص489 و429، وأسد الغابة ج2 ص146، وسنن البيهقي ج2 ص231، وسنن النسائي باب ما يفعل من سلم من الركعتين ناسياً وتكلم وغير ذلك.). وفي بعض الروايات: صلى بهم الصبح ركعة، فلما أخبره ذو الشمالين بذلك أخذ بيده يطوف به بين الصفوف، يسألهم. ثم صلى «صلى الله عليه وآله» بالناس ركعة واحدة وسجد سجدتي السهو، ثم سلم.
وفي الصحيحين: أنه لما اعترض الخرباق عليه «صلى الله عليه وآله» بذلك، وشهد بعض الصحابة بصحة الاعتراض، قام «صلى الله عليه وآله» غضبان يجر رداءه، فدخل الحجرة، ثم خرج عليهم، ثم صلى ركعتين فسلم، وسجد سجدتين. وكان ذلك في صلاة الظهر أو العصر. وعند البزار: أنه بعد أن أتم النبي «صلى الله عليه وآله» صلاته، دخل على بعض نسائه، فلحقه ذو اليدين، فسأله إن كانت الصلاة قصرت أم لا، فأخذ بيده، فخرج إلى القوم الذين كانوا صلوا معه، فسألهم، فأجابوه حسبما تقدم.
وقد وردت هذه الرواية في كتب الشيعة بأسانيد صحاح أيضاً. وقد رواها سماعة بن مهران، والحسن بن صدقة، وسعيد الأعرج، وجميل بن دراج، وأبو بصير، وزيد الشحام، وأبو سعيد القماط، وأبو بكر الحضرمي، والحرث بن المغيرة.جاء في السهو في الصلاة، وصحيح مسلم في أبواب السهو، وفتح الباري ج3 ص77 حتى ص83، والبخاري بهامشه، ومصنف الحافظ عبد الرزاق ج2 ص296 و297 و299، ومسند أحمد ج2 ص271 و284 و234، وموطأ مالك ج1 ص115، ونقل عن كنز العمال ج4 ص215 و214 عن عبد الرزاق وابن أبي شيبة، وتهذيب الأسماء واللغات ج1 ص186، والإستيعاب هامش الإصابة ج1 ص491/492، والإصابة ج1 ص489 و429، وأسد الغابة ج2 ص146، وسنن البيهقي ج2 ص231، وسنن النسائي باب ما يفعل من سلم من الركعتين ناسياً وتكلم وغير ذلك.).
وفي بعض الروايات: صلى بهم الصبح ركعة، فلما أخبره ذو الشمالين بذلك أخذ بيده يطوف به بين الصفوف، يسألهم. ثم صلى «صلى الله عليه وآله» بالناس ركعة واحدة وسجد سجدتي السهو، ثم سلم. وفي الصحيحين: أنه لما اعترض الخرباق عليه «صلى الله عليه وآله» بذلك، وشهد بعض الصحابة بصحة الاعتراض، قام «صلى الله عليه وآله» غضبان يجر رداءه، فدخل الحجرة، ثم خرج عليهم، ثم صلى ركعتين فسلم، وسجد سجدتين. وكان ذلك في صلاة الظهر أو العصر. وعند البزار: أنه بعد أن أتم النبي «صلى الله عليه وآله» صلاته، دخل على بعض نسائه، فلحقه ذو اليدين، فسأله إن كانت الصلاة قصرت أم لا، فأخذ بيده، فخرج إلى القوم الذين كانوا صلوا معه، فسألهم، فأجابوه حسبما تقدم. وقد وردت هذه الرواية في كتب الشيعة بأسانيد صحاح أيضاً. وقد رواها سماعة بن مهران، والحسن بن صدقة، وسعيد الأعرج، وجميل بن دراج، وأبو بصير، وزيد الشحام، وأبو سعيد القماط، وأبو بكر الحضرمي، والحرث بن المغيرة.
الجواب:
<img alt="” src=”http://islam4u.com/sites/all/modules/wysiwyg/plugins/break/images/spacer.gif”>ونقول:
أولاً: الروايات مضطربة، وغير متوافقة، كما يعلم بالمراجعة إلى مصادرها والمقارنة فيما بينها. ومعنى ذلك هو أنها لا يمكن أن تكون كلها صحيحة.
وثانياً: قال النووي بعد أن ذكر بعض نصوص الرواية: «وأشباه هذه الألفاظ المصرحة بأن أبا هريرة حضر القصة، وهو مسلم. وقد اجتمعوا على أن أبا هريرة إنما أسلم عام خيبر، سنة سبع من الهجرة، بعد بدر بسبع سنين.
وكان الزهري يقول: إن ذا اليدين هو ذو الشمالين، وإنه قتل ببدر، وإن قصته في الصلاة كانت قبل بدر الخ..» 1.
أضف إلى ذلك: أن شعيب بن مطير قد أخبر عن أبيه: أنه التقى بذي اليدين وحدثه بما جرى في صلاة النبي «صلى الله عليه وآله»، مع أن مطيراً متأخر جداً ولم يدرك زمن النبي «صلى الله عليه وآله» 2.
وقد صرح بأن ذا اليدين هو ذو الشمالين في رواية وردت عن الإمام الصادق «عليه السلام» 3.
وكذا ورد في مصادر أخرى 4. كما أن بعض الروايات الأخرى قد جمعت بين اللقبين 5 فراجع.
وعليه، فحكم صاحب الإستيعاب وغيره على القول باتحادهما أنه غلط؛ إستناداً إلى رواية أبي هريرة المتقدمة 6.
في غير محله، بل العكس هو الصحيح: أي أن الظاهر: هو أن أبا هريرة هو الذي تصرف في الرواية، وجعل نفسه مع الحاضرين لتلك الصلاة.
وأما رواية عمران بن الحصين، الدالة على أن ذا اليدين هو الخرباق، فلا تنافي ما ذكرناه، إذ يجوز أن يكون الخرباق لقباً لذي الشمالين.
ووصفهم: الخرباق بالسلمي لا يضر؛ لأن سليماً كان أحد أجداد ذي اليدين أو ذي الشمالين 7.
وقد صرح ابن قتيبة باتحادهما، وقال: وقد يقال: إن اسمه الخرباق.
في القاموس: «ذو اليدين الخرباق» 8.
وثالثاً: إن الروايات التي بين أيدينا تذكر أحداثاً وتصرفات للنبي «صلى الله عليه وآله» تؤدي إلى أن تنمحي صورة الصلاة؛ ومن المقطوع به: أن محو صورة الصلاة يوجب بطلانها؛ لا سيما إذا كان «صلى الله عليه وآله» قد استقبل الناس بوجهه ـ كما في بعض الروايات ـ فإن استدبار القبلة، ولو ساهياً مبطل للصلاة.
لكن رواية الكليني قد صرحت: بأنه «صلى الله عليه وآله» ما برح من مجلسه 9.
هذا كله لو قلنا: إن الكلام الاختياري لمصلحة الصلاة لا يبطل الصلاة أيضاً.
ورابعاً: كيف قال «صلى الله عليه وآله»: كل ذلك لم يكن؟! فإنه إذا كان يجوز على نفسه السهو، كان الأنسب أن يقول: ظني أن ذلك لم يكن.
إلا أن يقال: إنه إنما أخبر عن اعتقاده، حيث إنه كان جازماً بعدم وقوع السهو. وخطاب ذي اليدين له لم يوجب أي شبهة لديه، بل بقي جازماً مصراً على موقفه، إلا أنه لما رأى إصرار ذي اليدين عاد وشك في الأمر.
وخامساً: لماذا قام غضبان يجر رداءه؟
فهل غضب من قول ذي اليدين؟
فإن كان لأجل أنهم واجهوه بالحقيقة فهو لا يليق بشأنه «صلى الله عليه وآله»، وإن كان لأجل أنه رآهم قد افتروا عليه، واتفقوا على تكذيبه، ونسبة ما لا يليق به إليه، فلماذا عاد وأتم الصلاة بهم، وسجد سجدتي السهو؟!
سادساً: لم نفهم كيف صحت الصلاة التي دخل في أثنائها إلى الحجرة ثم عاد، ونحو ذلك.
روايات السهو عند الشيعة
وأخيراً، فإن الروايات عن أهل البيت في هذا الموضوع عديدة، ومنها خمس معتبرات من حيث السند، لكن ليس فيها ما يوجب الإشكال بما تقدم، وقد كتب التستري رسالة في هذا الموضوع طبعت في أواخر ج11 من كتاب قاموس الرجال، فليراجعها من أراد.
ولكن قد روى الشيخ في التهذيب عن زرارة قال: سألت أبا جعفر «عليه السلام»: هل سجد رسول الله «صلى الله عليه وآله» سجدتي السهو قط؟
فقال: لا، ولا يسجدهما فقيه.
ثم روى أحاديث تضمنت سهو رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ثم قال: الذي أفتي به ما تضمنه هذا الخبر؛ فإن الأخبار التي قدمناها من أن النبي «صلى الله عليه وآله» سها، فسجد، فإنها موافقة للعامة 10.
وقد أورد على هذه الروايات، بأنها من أخبار الآحاد روتها الناصبة والمقلدة من الشيعة؛ فلا يصح الاعتماد عليها للاعتقاد؛ لأنه يكون من أتباع الظن 11.
لماذا كان ما كان؟!
وقد يمكن للبعض أن يقول: إن ما حصل كان إسهاءً من الله، بمعنى أن الله تعالى قد تصرف بنفس نبيه، لا أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد سها فعلاً، بسبب طبيعته البشرية، ويمكنه أن يوجه هذا الإسهاء بأن من الممكن أن يسهي الله نبيه الأعظم «صلى الله عليه وآله» لمصلحة تقتضي ذلك، وحاله حاله من الجلالة والرسالة بما يلي:
1 ـ أن لا يغلو الناس فيه فيؤلهونه، أو يثبتون له بعض الصفات التي ليست له.
أو فقل: إنه تعالى يريد أن يعرفهم: أن الرسول «صلى الله عليه وآله» ما هو إلا بشر مثلهم. فكل صفة تخرج به عن هذا تصبح في غير محلها، ولا يمكن قبولها.
2 ـ إن الله تعالى أراد أن يفقههم، كما في رواية الحسن بن صدقة، التي رواها الكليني 9.
3 ـ إن الله تعالى هو الذي أنساه رحمة للأمه؛ ألا ترى لو أن رجلاً صنع هذا لعير؟!
وقيل له: ما تقبل صلاتك. فمن دخل عليه اليوم ذاك، قال: قد نسي رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وصارت أسوة إلخ 12.
وقد ورد شبيه ذلك في نومه «صلى الله عليه وآله» عن صلاة الصبح في السفر، إن صحت الرواية.
ونحن نرى أنها غير صحيحة، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
قصور هذه التوجيهات
ولكنها توجيهات لا تكفي، فإن التعيير بذلك إنما يصح ممن لا يقع منه سهو أصلاً، أما من حاله في ذلك حال الآخرين فلا يقبل ذلك منه.
وأما بالنسبة للغلو في الرسول فمن الممكن أن يدفع ذلك بطرق أخرى لا يلزم منها محذور.
فقد كان يمرض ويصح، ويحزن، ويبكي، ويبتسم، ويأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، ويموت أو يقتل.. الخ.
وكذلك الحال بالنسبة إلى تعلم أحكام الإسهاء فإن ذلك ممكن بدون أن يبتلى به النبي ككثير من الأحكام الأخرى.
هذا بالإضافة إلى وجود مفسدة في هذا السهو، وهو فقدان الثقة بتعليم النبي «صلى الله عليه وآله»، وبكل ما جاء به.
إيراد وجوابه
وتوضيح هذا الإيراد الأخير كما يلي:
لربما يقال: إن فعل النبي «صلى الله عليه وآله» وقوله، وتقريره، حجة. وقضية الإسهاء تنافي ما اتفق عليه المسلمون من حجية فعله، بل وتنافي حجية قوله أيضاً. وهذا يبطل الوثوق به، والاعتماد عليه؛ وهو مناف لحكمة النبوة والرسالة 13.
ويمكن أن يجاب عن ذلك، بأنه إنما ينافي حجية فعله وقوله لو أقر على سهوه وأخذ الناس الحكم الخطأ عنه، وأما إذا لم يقره الله عليه، بل بينه له وللناس بنحو ما، فإنه لا مانع منه، لا عقلاً ولا شرعاً 14.
أما نحن فنقول: إن أحداً لا ينكر قدرة الله تعالى على التصرف بنبيه، ولكننا نقول: إن حصول هذا الأمر أعني: إنساء الله تعالى لنبيه الأكرم «صلى الله عليه وآله» لمصلحة يراها، يصطدم بمقولة: إن هذا ما هو إلا إحالة على مجهول، وما ادعي من عدم إقرار الله تعالى له على السهو لا يكفي في حفظ كرامة النبي «صلى الله عليه وآله»، والاطمئنان إلى ما يصدر عنه «صلى الله عليه وآله»، بما يكون له طابع الفورية وعدم المهلة، حيث لا تبقى فرصة لظهور الخلاف. كما أن ذلك يسيء إلى قداسة النبي «صلى الله عليه وآله» بنظر الناس، وذلك ظاهر لا يخفى.
هذا ولا بأس بالتعرض هنا إلى العصمة عن السهو والنسيان والخطأ، ثم العصمة عن الذنوب، وأنها جميعاً هل هي اختيارية أم لا؟!
فالبحث يقع في ناحيتين:
إحداهما: العصمة عن النسيان، والسهو، والخطأ.
والأخرى: العصمة عن الذنب.
فنقول:
العصمة عن السهو والخطأ والنسيان اختيارية
أما العصمة عن السهو والخطأ والنسيان، فهي اختيارية على ما يظهر، وما جرى في قضية الصلاة ـ لو صح ـ فإنما هو إنساء من الله له «صلى الله عليه وآله»؛ لمصلحة اقتضت ذلك لا نسيان منه «صلى الله عليه وآله».
ويمكن تقريب ذلك بما يلي:
1 ـ إن من يمرن نفسه على ألا ينسى، أو على الضبط والتدقيق، يصير أقدر على الحفظ، وعدم النسيان، وتقل نسبة خطئه بالمقايسة مع غيره ممن لا يبالي بالشيء حفظه أو نسيه، زاد فيه، أو نقص منه. فإذا كان ذلك الأمر من اختصاصه، كان احتمال النسيان أو الخطأ فيه أقل. وكلما كان اهتمامه فيه أكثر، كلما كان نسيانه له وخطؤه فيه أقل أيضاً. وهذا الأمر يدرك بالوجدان، ويعلم بالتجربة.
وهذا صادق بالنسبة إلى الإنسان العادي، الذي نعرفه ونألفه. كما أنه كلما كانت الملكات والمدارك، والقوى النفسية، والفكرية وغيرها قوية لدى الشخص، فإنه يكون أيضاً أكثر سيطرة على ذاكرته، وتصرفاته؛ ويقل احتمال الخطأ، والسهو، والنسيان عنده. كالأم المرضعة، فإن ذهولها عما أرضعت من الأمور التي لا يمكن أن تحصل في العادة.
ونبينا الأعظم «صلى الله عليه وآله» هو القمة في كل شيء. فهو الإنسان الأول الذي يمثل خلافة الله الحقيقية على وجه الأرض. وهو الإنسان الذي كان فانياً في الله، وليس له هم، ولا هدف إلا رضى الله سبحانه، وتحقيق أهدافه تعالى على وجه الأرض، فمن الطبيعي أن لا يصل إليه أحد، ولا يدانيه مخلوق في الضبط والحفظ، ولا سيما فيما يتعلق بهدفه الأسمى، وفي عبادته لربه، وطاعته له لا سيما وهو يراه حاضراً وناظراً. وذلك أمر واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.
هذا بالإضافة إلى أن ما يبذله النبي «صلى الله عليه وآله» من جهد في سبيل حفظ الدين وأحكامه، يصبح سبباً في أن يفيض الله تعالى عليه من ألطافه ويمده بالتسديد والتأييد، وفقاً للوعد الصادر عنه حيث يقول تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا … ﴾ 15، وقوله تعالى: ﴿ … وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ … ﴾ 16وقوله تعالى: ﴿ … إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا … ﴾ 17.
2 ـ هناك بعض الأمور التي توجب النسيان، وبمقدور كل أحد أن يتجنبها، ومن ثم يجنب نفسه ولا يعرضها لآثارها. وقد ذكرت بعض الروايات طائفة منها.
فمثلاً: ذكر مما يوجب النسيان أكل الجبن، وقراءة كتابة القبور وأكل الكزبرة، وكثرة شرب الماء، والعبث ببعض الأعضاء، وكثرة الهم الناشئ في الأكثر من كثرة الذنوب، ونحو ذلك.
وهناك أمور تزيد في الذاكرة، كعملية التذكر، وكأكل الزبيب، وأمور أخرى لا مجال لذكرها. وواضح أن القدرة على السبب تعبير قدرة على مسببه؛ فيمكن أن يكلف الإنسان بأن لا ينسى الشيء الفلاني؛ أو أن يزيد من نسبة حفظه وضبطه، باعتبار قدرته على سبب ذلك. والتكليف بالمسبب الذي لا يقدر عليه الإنسان إلا بقدرته على سببه كثير في الشرع.
3 ـ إن ثمة آيات كثيرة تلوم على النسيان، بل في بعضها وعيد بالعقاب عليه، أو جعل العقاب في الآخرة في مقابل النسيان الحاصل في الدنيا. ونذكر على سبيل المثال الآيات التالية:
﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ … ﴾ 18فإن سياق الآية، والتعبير بـ «ذكر» لا يناسب إرادة التجاهل من كلمة «نسي»، كما يريد أن يدعيه البعض، وكذلك الحال في الآيات التالية.
فالمراد هو الغياب عن الذاكرة، بسبب التساهل والإعراض، وعدم الاهتمام.
﴿ … يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ … ﴾ 19.
﴿ … فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَٰذَا … ﴾ 20.
﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ … ﴾ 21.
﴿ … نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ … ﴾ 22.
﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ … ﴾ 23.
﴿ فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا … ﴾ 24.
وكذا قوله تعالى: ﴿ … رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا … ﴾ 25.
فإن هذا الطلب إنما يصح بعد فرض صحة المؤاخذة على النسيان والآيات في هذا المجال كثيرة، ولا مجال لنقلها كلها.
كما أننا نجد بعض الآيات تنهى عن النسيان، والنهي لا بد أن يكون عن أمر مقدور.
قال تعالى: ﴿ … وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا … ﴾ 26.
وقال تعالى: ﴿ … وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ … ﴾ 27.
وإرادة الترك في الآيتين لا ينافي ما ذكرناه، فإن المقصود به هو الترك عن نسيان ناشئ عن التساهل، وعدم الاهتمام، مع العلم بأن بإمكان المكلف أن لا ينسى، فإن القدرة على السبب قدرة على المسبب، وحينئذٍ فالعقاب على نسيانٍ من هذا القبيل ليس قبيحاً عقلاً 28.
ويقول البعض عن السهو: إنه «يمكن التحرز منه» 29.
﴿ … وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ﴾
وقد نرى أن الله قد أشار إلى اختيارية النسيان حين قال: ﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ﴾ 30.
فإن هذه الآية التي تتحدث عن نسيان آدم للميثاق الذي أخذ عليه قبل نشأته «عليه السلام» من الطين، بالإقرار بالنبي «صلى الله عليه وآله» وأهل بيته «عليهم السلام» والمراد بالنسيان الترك أي أن النسيان ناشئ عن عدم القدرة على الإحتفاظ بالأمر، بسبب عدم العلم به، فإن من يعلم شيئاً لا تصح عزيمته على الاحتفاظ به، فوقع في النسيان بمقتضى هذه الآية الكريمة.
ودليل آخر على اختيارية النسيان وهو قوله «صلى الله عليه وآله»: رفع عن أمتي النسيان، حيث إنه رفع امتنان وتسهيل. والرفع إنما يكون لما يقبل الجعل والوضع وهو المؤاخذة، والمؤاخذة إنما تكون على أمر اختياري ومقدور ولو بواسطة القدرة على سببه، فإن القدرة على السبب قدرة على المسبب كما قلنا.
العصمة في التبليغ وفي غيره
وبعدما تقدم نشير إلى أنه إذا ثبتت صفة العصمة له، وتحققت فيه، فلا يختص ذلك في مورد دون مورد، لأن الملكة لا تتبعض ولا تتجزأ، ولا يصح ما قالوه من أنه «صلى الله عليه وآله» معصوم في التبليغ فقط. وذلك ظاهر لا يخفى.
العصمة عن الذنب اختيارية أيضاً
سؤال يحتاج إلى جواب
يعتقد المسلمون عموماً 31 بعصمة جميع الأنبياء «صلوات الله عليهم»، ويزيد شيعة أهل البيت «عليهم السلام» على ذلك: إعتقادهم بعصمة الأئمة الاثني عشر «عليهم السلام». وذلك لأنه يجب اتباعهم، والاقتداء بهم؛ ولا يعقل تجويز ذلك فضلاً عن إيجابه، إذا كانت المعاصي تصدر منهم؛ لأن معنى ذلك هو تجويز ارتكاب المعاصي نفسها، وهو غير معقول، لأنها تخرج حينئذٍ عن كونها معاصي من جهة، ولأن ذلك ينافي حكمة وسر إرسال الأنبياء «عليهم السلام» من الجهة الأخرى.
ولسنا هنا بصدد بيان التفاصيل الكاملة، والبحث الشامل للأقوال المختلفة حول هذه القضية. وإنما نريد هنا ـ فقط ـ أن نجيب على السؤال التالي:
هل عصمة الأنبياء والأئمة «عليهم السلام» تعني: ـ كما يرى البعض ـ أنهم لا يستطيعون أن يفعلوا الذنب، ولا يقدرون على غير الطاعة، فهم مجبرون على الطاعة، مقهورون على الابتعاد عن المعاصي؟!.
وإذا كانوا مجبرين على ذلك، فما هو وجه الفضل لهم؟!
ولماذا لم نجبر نحن على مثله؟!
ولماذا يعرضنا الله تعالى للوقوع فيما لا يرضى، ثم يعاقبنا على ذلك بالعذاب في النار، وحرماننا من الجنة؟!.
ثم إن من يكون مجبراً على الطاعة، وعلى الابتعاد عن الذنب، هل يحسن إثابته بالجنان، وإبعاده عن العقاب والعذاب بالنيران؟!.
الجواب
إن العصمة عن الوقوع في الذنوب والمعاصي اختيارية، والكلام حول هذا يحتاج إلى شيء من التفصيل، فنقول:
الإسلام والفطرة
إن من يدرس تشريعات الإسلام ويتدبر تعاليم السماء، يخرج بحقيقة قاطعة؛ وهي: أن تلك التعاليم والتشريعات منسجمة كل الانسجام مع طبيعة الإنسان وفطرته، لو لم تطغ على تلك الفطرة عوامل غريبة عنها وافدة عليها. حتى إنك لتجد بعض من عاش في الجاهلية ـ كجعفر بن أبي طالب، على ما رواه عنه في الأمالي 32 وآخرين غيره ـ قد حرم على نفسه الكذب، وشرب الخمر، والزنى، وعبادة الأوثان.
كما أن قيس بن الأسلت قد فارق الأوثان، واغتسل من الجنابة، وأمر بتطهر الحائض من النساء، وأمر بصلة الرحم إلخ 33. وعبد المطلب أيضاً كان يأمر أولاده بترك الظلم والبغي، ويحثهم على مكارم الأخلاق، وينهاهم عن دنيئات الأمور؛ وكان يعتقد بالآخرة، ويوحد الله سبحانه، وتُؤثَر عنه سنن جاء القرآن بأكثرها، وجاءت بها السنة، منها الوفاء بالنذر، والمنع من نكاح المحارم، وقطع يد السارق، والنهي عن قتل الموؤودة، وتحريم الخمر، والزنى، وأن لا يطوف بالبيت عريان 34.
ولقد صرح القرآن، وتعهد والتزم بأن يكون هذا الدين هو دين الفطرة، بحيث لو ثبت منافاة أي من تشريعاته وتعاليمه لفطرة الإنسان لأمكن رفضه، والحكم عليه بأنه غريب ودخيل، وليس من تعاليم السماء في شيء. قال تعالى:
﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ 35.
وما ذلك إلا لأن الإنسان ـ على حد تعبير العلامة الطباطبائي رحمه الله تعالى ـ: «..مفطور بفطرة تهديه إلى تتميم نواقصه، ورفع حوائجه، وتهتف له بما ينفعه وما يضره في حياته.
قال تعالى: ﴿ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾ 36.
فالدين الإسلامي هو ذلك النظام الذي يهدي الإنسان ويدله على ما فيه خيره وسعادته، ويجنبه ما فيه شقاؤه وبلاؤه؛ وهو يوافق ما ألهمه الله لنفس الإنسان، وعرفها إياه، وينسجم معه؛ ويحتضن العقل، ويحفظه، ويسدده من أن يزل أو أن يميل في إدراكاته وأحكامه، نتيجة لطغيان الهوى، أو تزيينات النفس لشهواتها حتى لقد قيل: العقل شرع من داخل، والشرع عقل من خارج.
ولأجل ذلك نرى القرآن يعبر عمن لا يتبع الهدى، ولا يسير على المنهاج القويم بقوله:
﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ 37.
وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ 38صدق الله العلي العظيم.
فهو يعتبر أن من أطاع هواه، واتبعه، ولم يهتد بهدى العقل، ولم يسمع الأوامر والزواجر الإلهية الموافقة لهدى العقل ـ يعتبره ـ كالأنعام، التي تسيرها غريزتها وشهواتها، ولا عقل لها تستنير بنوره، وتهتدي بهديه؛ ولا تنساق وراء شرع يرشدها إلى أحكام العقل.
بل لقد اعتبره أضل من الأنعام، لأن الأنعام إذا تصرفت على خلاف مقتضيات العقل البشري، كما لو افترست، أو خربت، أو أتلفت، فإنها لا تلام ولا تحاسب، لأنها إنما تصرفت بما يتوافق مع جبلتها وغريزتها وفطرتها، وشهوتها؛ لأن ذلك هو الذي يسيرها، ويهيمن على سلوكها؛ ولا عقل لها لتهتدي بهديه، وتسترشد برشده. أما إذا تصرفت تصرفاً عقلانياً أحياناً، كما لو رأينا الذئب لا يعتدي على الشاة، والسنور لا يلاحق الفأرة مثلاً، فلسوف نتعجب من ذلك، ونتناقله في مجالسنا، لأن ذلك على خلاف ما عهدناه من فطرته وجبلته، وغريزته، وإن لم يكن بدافع من عقله، لأنه لا عقل له، وإنما بسبب الدربة، والعادة، والإلف.
أما الإنسان، فإنه لو ظلم، أو كذب، أو اغتاب، أو أتلف؛ أو فعل غير ذلك مما هو في غير مصلحته، وعلى خلاف الدين، والعقل، فإنه يكون قد تصرف على خلاف مقتضيات فطرته وجبلته، وانحرف عن مساره، وخرج عن إنسانيته، فهو إذن أضل من الأنعام.
أضف إلى ذلك: أننا حين نرى الأنعام لا تقتحم ما يضرها، ونرى الإنسان لا يتورع عن اقتحام ما يضره، ويهدم سعادته،، استجابة لشهوته وهواه، وغريزته، فلا بد أن نقول: إن الأنعام ـ ولا شك ـ أهدى منه وأرشد.
فاتضح مما تقدم: أن الإنسان مجبول على السعي إلى ما ينفعه، والابتعاد عما يضره، وأن أحكام الإسلام موافقة للفطرة وللطبيعة الإنسانية، وأن ابتعاد الإنسان عما يضره ويشقيه، وسعيه إلى ما فيه سعادته وراحته أمر فطري فيه، لا يمكنه التخلف عنه، ولا التخلص منه.
ولأجل ذلك نجد: أن الإنسان العاقل وإن لم يكن مؤمناً ـ نجده ـ بحكم فطرته لا يقدم على الأمور التي يقطع بضررها وفسادها؛ فهو لا يقدم ـ مختاراً ـ على شرب السم مثلاً؛ بل هو لا يتواجد في أمكنة يعلم أن تواجده فيها سوف يلحق به ضرراً بالغاً من نوع ما؛ ولا يقدم على قتل ولده، أو ما شاكل، إلا إذا قهر على ذلك وغلب عليه جسدياً، أو كان ثمة ما يهيمن على عقله، كنوم أو غضب، أو غير ذلك، مما يمنع عقله من التأثير والفعالية، ومن السيطرة على الموقف.
بل وحتى الطفل فإننا نراه يتجرأ على النار، ولكنه بعد أن تؤلمه، ويتيقن ذلك، لا يقترب منها باختياره، ألا أن تغلبه قدرة قاهرة، أو يسيطر على عقله سلطان النوم، أو أي سلطان قاهر آخر.
إذن فالبشر العقلاء، حتى من لا يؤمن بالله منهم، وحتى الأطفال، معصومون عن شرب السم، وعن الإلقاء بالنفس بالنار، وعن كل ما يدركون إدراكاً قاطعاً ضرره، وسوءه؛ إلا إذا كان ثمة قوة قاهرة تغلب إرادتهم أو تزين لهم، وتخدعهم، أو تهيمن على عقولهم وتمنع من فعاليتها، وتفقدها سيطرتها على الموقف.
عناصر لا بد منها في العصمة
وبالتأمل فيما تقدم يتضح: أن امتناع الطفل عن النار، والعقلاء عن تناول السم، يرتبط بالأمور التالية:
الأول: أن الإنسان مفطور على انتقاء ما يكرس راحته وسعادته وتكامله، والابتعاد عما يوجب ضرره وبلاءه وشقاءه.
الثاني: إدراك واقع معين، ثم تقييمه على ذلك الأساس بشكل قاطع ونهائي.
الثالث: قوة العقل، وسيطرته على الموقف، وتحكمه بكل القوى والدواعي النفسية والشهوية، وقاهريته لها، وتوجيهها إلى ما فيه خير الإنسان وصلاحه وراحته وسعادته.
الرابع: الاختيار والإرادة، وعدم التعرض للقهر الجسدي، الذي ينتهي إلى سلب الاختيار منه، وتعطيل إرادته.
فإذا تحققت هذه الأمور، فإن الإنسان يكون معصوماً عن الوقوع في ذلك الشيء الذي أدرك بشكل قاطع ضرره وبلاءه، ويرى نفسه ملزماً بالسعي نحو ما يوجب تكامله ورقيه وتأكيد إنسانيته.
ولا يمكن أن نتصوره بعد تكامل تلك العناصر المتقدمة فيه، إلا أن يسير على النهج القويم، والطريق المستقيم، فاعلاً لما أدرك خيره وصلاحه، تاركاً لما أدرك ضرره وبلاءه، من كان، ومهما كان.
وإذا كان الناس مختلفين في درجات إدراكهم، سعة وعمقاً، وفي مستويات تفكيرهم، وقوة وضعف سيطرة عقولهم على سائر القوى الباطنية الكامنة فيهم، من الشهوات والغرائز، ومختلفين من حيث نوعية المدركات أيضاً ـ إذا كانوا كذلك ـ فإن من الطبيعي أن تكون درجات عصمتهم متفاوتة، ومواردها مختلفة، كل بحسب مدركاته، وقناعاته، وكفاءاته، وقواه الكامنة فيه. ولذلك تجد العلماء في الأكثر أكثر التزاماً من غيرهم، بل ربما تجد من بينهم من لا تكاد تصدر منه أيه مخالفة طول حياته، وذلك لكثرة مدركاتهم، ولاختلاف نوعية، وكيفية، وعمق الإدراك لديهم، بالنسبة إلى غيرهم.
بل إن الله قد أوجب على كل إنسان أن يكون معصوماً، وذلك لأنه قد كلف كل البشر بالطاعات كلها، والاجتناب عن كل المعاصي، وهذا التكليف يدل على أن بوسع كل مكلف أن لا يرتكب أية معصية أبداً، لأن القدرة شرط في صحة التكليف وإلا لكان عليه أن يستثني، ويقول: اجتنبوا عن كل المعاصي إلا واحدة أو اثنتين مثلاً، لأنكم لا تقدرون عليها.
وهذا الاستثناء يخرج ذلك المورد عن أن يكون معصية من الأساس. وقد يكون أمثال سلمان الفارسي، وأبي ذر، والمقداد، وعمار، والشيخ المفيد، والصدوق مثلاً معصومين عن ارتكاب أية معصية أو مخالفة عن عمد وقصد.
نعم، ربما يكون الفرق بين هؤلاء، وبين النبي والإمام: أن النبي والإمام عليهم أفضل الصلاة والسلام لا تخطر في باله المعصية أصلاً، ولا يشتاق إليها، لانكشاف الواقع له، ورؤيته مفسدته ومصلحته رأي العين، هذا بالإضافة إلى أنه أوسع وأعمق معرفة بجلال وعظمة الله تعالى وملكوته وأشد إحساساً بحضور الله معه، بخلاف سائر المكلفين؛ فإنهم قد لا يعرفون علل كثير من الأحكام، ولا اطلاع لهم على عظمة وجلال وملكوت الله بنسبة اطلاع الأئمة والأنبياء (عليهم السلام)، فقد يشتاقون إلى بعض المعاصي، ولكنهم يمتنعون عنها تعبداً وطاعة لله ليس إلا.
وخلاصة الأمر: أن مستويات الناس مختلفة؛ فتختلف درجات التزامهم، والعلماء عادة يكونون أكثر التزاماً؛ وإن كان ربما يوجد من بينهم من يضعف عقله أمام شهواته وغرائزه، فيضعف التزامه، وتقل نسبة معصوميته عنها في غيره، وهؤلاء قليلون جداً بل ربما لا يوجدون في العلماء الحقيقيين، ولذا نجد الله تعالى يتمدحهم بذلك فيقول: ﴿ … إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ … ﴾ 39.
التوضيح والتطبيق
إن الأنبياء، ثم الأئمة (عليهم السلام)، بسبب التوفيقات والعنايات الإلهية وفوق كل ذلك بسبب الوحي والاتصال بالسماء، وبسبب أنهم إنما انتقلوا من الأصلاب الشامخة إلى الأرحام المطهرة، فلم يرثوا إلا الصفات الحميدة والكمالات الفريدة. نعم بسبب ذلك صاروا هم القمة في سعة إدراكهم لآثار ومناحي السلوك الإنساني، والقمة أيضاً في إدراك الواقع الذي يواجهونه، وما يترتب عليه من آثار ونتائج، إن سلباً وإن إيجاباً على المدى البعيد والقريب على حد سواء، إدراكاً حقيقياً لا يقبل الشك ولا الترديد.
وهم القمة في الملكات والقوى الفكرية والنفسية الفاضلة، وهم أحكم الناس حكمة، وأعقلهم عقلاً، وأشجعهم شجاعة، وأكمل الخلق، وأفضلهم في كل الصفات الكريمة، والأخلاق النبيلة العالية، ولأنهم أيضاً لا يمكن أن يشذوا عن مقتضيات الفطرة، وسنن الجبلة الإنسانية. وحين يكون عقلهم من القوة بحيث لا تستطيع سائر القوى الباطنية من الشهوات والغرائز أن تخدعه، وتسيطر عليه، بل هو الأقوى دائماً، وهو الذي يتحكم بها، وينظمها، ويسيرها، ويهيمن عليها.
فإذا كان الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) كذلك، فإنهم ـ ولا شك ـ سوف يكونون معصومين بحسب فطرتهم وجبلتهم عن الإقدام على أي ذنب أو عمل مشين، كما لا يقدم الطفل على النار، والعقلاء على تناول السم، وعلى أي شيء يرونه مضراً بشخصيتهم، وبوجودهم، وبمصيرهم، ومستقبلهم.
فكمال العقل إدراكه لما يضر وينفع، وللحسن والقبح، ومعرفته بالله سبحانه، وعظمته وجلاله، وإحاطته وقدرته، وحكمته وتدبيره، ثم معرفته بصدور الأمر والنهي، مع عمق الإيمان لديه بالمعاد، وبالعقاب والثواب.
نعم، إن ذلك كله، بالإضافة إلى ما قدمناه، يجعل من الإقدام على فعل المعصية والقبيح أمراً غير متصور ولا مقبول لحصول المنافرة والمضادة بينه وبينها، ولأجل ذلك فإننا إذا عرفنا شخصاً ووقفنا على كل حالاته، وملكاته، وقدراته، وأفكاره، وطموحاته، فإننا لا نصدق عليه ما ينسب إليه من أفعال لا تتناسب مع ما عرفناه عنه. وكلما تأكد لدينا رسوخ ذلك في نفسه، وفي فكره، واطلعنا على مستوى قدراته؛ فإن تصديقنا بصدور ما لا ينسجم مع ذلك يصبح أبعد وأصعب.
وبعدما تقدم، فإنه إذا كان الإنسان في صدد الابتعاد عن القبيح، والالتزام بالحسن؛ فإن التوفيقات الإلهية، والعنايات الربانية سوف تشمله. ﴿ … وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ … ﴾ 16، ﴿ … إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا … ﴾ 17، ﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ﴾ 40.
ولسوف يختار الله من هؤلاء الثلة أكملهم عقلاً، وأفضلهم نفساً، وأجمعهم لخصال الخير والكمال، ولكن علمه تعالى بهم، واختياره لهم ليس فيه جبر لهم على أي شيء من فعل أو قول كما هو واضح.
وعليه؛ فلا يلزم من العصمة الجبر والقهر، بحيث يكون المعصوم غير قادر على فعل المعصية تكويناً، بل هي بمعنى أنها لا تصدر منه، وعلى حسب التعبير العلمي: إنه لا يكون فيه مقتضي للمعصية، ولا توجد فيه علتها المؤثرة، بل لا يخطر في باله ارتكابها أصلاً، فيستحيل صدورها منه بهذا المعنى ليس إلا.
وهذا كما نقول: يستحيل أن يرمي الطفل نفسه في النار فإنه ليس بمعنى أنه لا يمكنه ذلك، لأن ذلك مقدور له بالبداهة؛ ولكن بمعنى أنه لا يفعل ذلك ولا يقدم عليه أصلاً.
وكما نقول: يستحيل أن يصدر الظلم من الله، ولا نقصد: أنه لا يقدر عليه، إذ لا شك في أن الله تعالى يقدر على تعذيب أطوع الناس له.
وإنما نقصد أنه لا يفعله؛ لأنه ينافي حكمته، ولا ينسجم ولا يليق بشأنه وذاته تعالى شأنه.
وبعد كل ما تقدم، فإن اختيار الله لبعض عباده، وإظهار المعجزة على يده، يكشف لنا عن أكمليته وعن عصمته، إذ لا يعقل أن يختار الله لقيادة الأمة وهدايتها من تصدر منه الذنوب والمعاصي، حسبما أشرنا إليه.
أفضل الخلق محمد صلى الله عليه وآله
ومما قدمناه نستطيع أن نفهم لماذا كان نبينا «صلوات الله وسلامه عليه» أفضل الخلق أجمعين، حتى الأنبياء والمرسلين؛ فإنه، وإن كان الكل معصومين عن الذنوب، وكلهم كان يدرك آثار الذنوب وعواقبها وآثارها، ولهم معرفة واطلاع على جلال وعظمة وملكوت الله تعالى أكثر من غيرهم، ولكن نبينا الأكرم «صلى الله عليه وآله» كان أكثر عمقاً وأصالةً في إدراكه لتلك الآثار، وأبعادها، وانعكاساتها على كل الأجيال، في مختلف الآجال، وعلى ذلك الجلال اللامتناهي، والعظمة التي لا تقاس.
وما ذلك إلا لأنه كان الرجل الأكمل والأفضل والأول في كل شيء: في عقله، في حكمته، في عمق إدراكه، في شجاعته، في كرمه، في حلمه، في كل صفاته الحميدة التي هي صفات الإنسان الأول والمثال والقدوة.
إذاً، فيكون هو الأفضل من الكل، لأن عصمته أكثر عمقاًَ وأصالةً، وأبعد أثراً، وأوسع أفقاً. وعلى ذلك فهو أكثر تفاعلاً وانسجاماً مع الله في عباداته، وأشد خشية له تعالى.
علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل
كما أننا حين نواجه الحديث القائل: علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل 41، لا نستطيع أن نعتبره ناظراً إلى هؤلاء العلماء الذين نعرفهم ونعيش معهم، والذين لا يمتنع أو فقل: يحتمل أن تصدر منهم بعض الهفوات، ويرتكبوا بعض الصغائر، إذ من غير المعقول أن يكون هذا الرجل الذي يحتمل في حقه أن يذنب، مثل ذلك المعصوم، الذي لا يحتمل في حقه ذلك ولا يصدر منه، أو لا يخطر بباله الذنب أصلاً.
وتوجيه ذلك بأن المراد: أنهم مثلهم من حيث المعرفة والعلم وسعة الأفق، لأنهم اطلعوا على ما لم يطلع عليه أولئك الأنبياء من أنواع المعارف الدينية، والتاريخية وغيرها.
هذا التوجيه لا ينسجم مع منطق القرآن، الذي يجعل ملاك الموازنة، ثم التفاضل هو التقوى والعمل الصالح: ﴿ … إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ … ﴾ 42.
وفي الحديث القدسي ما معناه: «لأدخلن الجنة من أطاعني ولو كان عبداً حبشياً، ولأدخلن النار من عصاني ولو كان سيداً قرشياً».
فلا بد أن يكون المقصود بالعلماء الذين هم مثل أنبياء بني إسرائيل أو أفضل منهم، أناساً معصومين كأولئك الأنبياء، ويزيدون عليهم بإدراكهم ورؤيتهم رأي العين أثر كل حركة، وكل تصرف على الأجيال وعلى الأمة. هذا مع كونهم قد عاصروا، وعرفوا، واطلعوا على تواريخ وعقائد وتحولات عصور وأمم، وواجهوا ظروفاً ومشاكل مختلفة، تزيد على ما واجهه، وعرفه أنبياء بني إسرائيل. بالإضافة إلى أنهم يملكون الطاقات والقدرات الهائلة التي تؤهلهم لاستيعاب كل المعارف، وكل الأحداث وإدراكها، والتفاعل معها، ومعرفة أبعادها وآثارها، مهما دقت أو جلت، قربت أو بعدت، ولتصير عصمتهم أكثر عمقاً وأصالة، وأكثر دقة، وأبعد أثراً، حسبما فصلناه.
ولم نجد في التاريخ أناساً من هذا القبيل ألا أولئك الذين جعلهم الرسول «صلى الله عليه وآله» أحد الثقلين، وعدلاً للكتاب العزيز؛ وأوجب على الأمة التمسك بهم، والاهتداء بهديهم، والائتمار بأوامرهم، والانزجار بزواجرهم. الأمر الذي كشف لنا عن عصمتهم، وهم الأئمة الاثنا عشر، الذين أولهم أمير المؤمنين علي، وآخرهم المهدي «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين».
وأما حديث «علماء أمتي كأنبياء بني اسرائيل»، فلعل المقصود به: أنهم مثلهم في حفظ الشريعة، والوحي والدين، فإنهم أمناء الله تعالى في أرضه، وحجته في بلاده على عباده 43 44.
- 1. تهذيب الأسماء واللغات ج1 ص186، وراجع: الدر المنثور للعاملي ج1 ص109، وحول قتل ذي الشمالين في بدر راجع: طبقات ابن سعد ج3 ص119.
- 2. راجع تهذيب الأسماء ج1 هامش ص186.
- 3. الكافي للكليني ج3 ص357، والوسائل ج5 ص311، والدر المنثور للعاملي ج1 ص109 و110.
- 4. راجع: طبقات ابن سعد ج3 قسم1 ص118، والتراتيب الإدارية ج2 ص385.
- 5. هي رواية مسند أحمد، وكنز العمال عن عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، والمصنف لعبد الرزاق ج2 ص296 و271 و274 و297 و299، وراجع إرشاد الساري ج3 ص267 ونقل قول الجوهري باتحادهما. في الإستيعاب في ترجمة ذي اليدين، وكذا في الطبري، وشرح موطأ مالك للسيوطي، وتهذيب الأسماء واللغات ج1 ص186، وغير ذلك.
- 6. الإستيعاب هامش الإصابة ج1 ص491، وأسد الغابة ج2 ص142 و145 و146، وراجع: التراتيب الإدارية ج2 ص385 عن التوشيح والإرشاد والفتح وغيرهم من شروح البخاري.
- 7. راجع: طبقات ابن سعد ج3 قسم1 ص118، والإصابة ج1 ص489، وأسد الغابة ج2 ص141 و 145.
- 8. راجع: التراتيب الإدارية ج2 ص385.
- 9. a. b. الكافي ج3 ص356.
- 10. الدر المنثور للعاملي ج1 ص107.
- 11. الدر المنثور للعاملي ج1 ص113.
- 12. الكافي ج3 ص357.
- 13. راجع: دلائل الصدق ج1 ص384 ـ 386.
- 14. راجع: فتح الباري ج3 ص81.
- 15. القران الكريم: سورة العنكبوت (29)، الآية: 69، الصفحة: 404.
- 16. a. b. القران الكريم: سورة الحج (22)، الآية: 40، الصفحة: 337.
- 17. a. b. القران الكريم: سورة الأنفال (8)، الآية: 29، الصفحة: 180.
- 18. القران الكريم: سورة الكهف (18)، الآية: 57، الصفحة: 300.
- 19. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 13، الصفحة: 109.
- 20. القران الكريم: سورة الأعراف (7)، الآية: 51، الصفحة: 156.
- 21. القران الكريم: سورة الحشر (59)، الآية: 19، الصفحة: 548.
- 22. القران الكريم: سورة التوبة (9)، الآية: 67، الصفحة: 197.
- 23. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 44، الصفحة: 7.
- 24. القران الكريم: سورة السجدة (32)، الآية: 14، الصفحة: 416.
- 25. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 286، الصفحة: 49.
- 26. القران الكريم: سورة القصص (28)، الآية: 77، الصفحة: 394.
- 27. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 237، الصفحة: 38.
- 28. راجع: أوثق الوسائل ص262.
- 29. الدر المنثور للعاملي ج1 ص117.
- 30. القران الكريم: سورة طه (20)، الآية: 115، الصفحة: 320.
- 31. وإن كان بعضهم يناقش في عموم العصمة. ولكن الشيعة يعتقدون بعصمتهم (عليهم السلام) وتسديد الله تعالى لهم من حين ولادتهم إلى حين وفاتهم، وليس في خصوص وقت النبوة.
- 32. سيأتي في فصل: شخصيات وأحداث حين الحديث حول تحريم الخمر أسماء طائفة ممن حرموا الخمر على أنفسهم.
- 33. السيرة النبوية لابن كثير ج2 ص190 و 191.
- 34. السيرة الحلبية ج1 ص4، والسيرة النبوية لدحلان (مطبوع بهامش السيرة الحلبية) ج1 ص21.
- 35. القران الكريم: سورة الروم (30)، الآية: 30، الصفحة: 407.
- 36. القران الكريم: سورة الشمس (91)، الآية: 8، الصفحة: 595.
- 37. القران الكريم: سورة الفرقان (25)، الآية: 44، الصفحة: 364.
- 38. القران الكريم: سورة الأعراف (7)، الآية: 179، الصفحة: 174.
- 39. القران الكريم: سورة فاطر (35)، الآية: 28، الصفحة: 437.
- 40. القران الكريم: سورة محمد (47)، الآية: 17، الصفحة: 508.
- 41. البحار ج2 ص22 وغوالي اللآلي ج4 ص77 والتحرير للعلامة الحلي ص3 للعلامة الحلي ص3 ومستدرك الوسائل ج17 ص320 والصراط المستقيم ج1 ص213 وراجع ص131 وكتاب الأربعين للماحوزي ص413 ومنية المريد ص182 وراجع اوائل المقالات ص178.
- 42. القران الكريم: سورة الحجرات (49)، الآية: 13، الصفحة: 517.
- 43. راجع: الصراط المستقيم ج1 ص131.
- 44. الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي، المركز الإسلامي للدراسات، الطبعة الخامسة، 2005 م. ـ 1425 هـ. ق، الجزء السادس.