قال الله تعالى في محكم كتابه: ﴿ … إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ … ﴾ 1، وقال أيضاً ﴿ … قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ … ﴾ 2، فهاتان الآيتان ومثيلاتهما من كتاب الله تتعرضان لقضية العلم والعلماء، فتصرح الأولى منهما بأن الأشد خشية لله من بين العباد هم العلماء، باعتبار أن العلم بحقيقته ينبغي أن يوصل الإنسان إلى الاعتقاد بالله ووحدانيته وبأنه القادر على كل شيء، والعلم هو الذي يجعل الإنسان مقتنعاً بعجزه وضعفه عن أن يكون مؤثراً في هذا الوجود، وأن استمراره مرهون بالفيض الإلهي مادياً ومعنوياً، ولذا نرى الآية الثانية تستنكر بصيغة الاستفهام على من يساوي بين من يعلم ومن لا يعلم، وتوضح أن الاثنين ليسا في مرتبة سواء، فالفارق بين العالم والجاهل كالفارق بين من يمشي في النور ومن يمشي في الظلام، فالأول يسير بكل ثقة واطمئنان وثبات وعلى بصيرة فلا يقع أو يتعثر، بينما الجاهل يخبط خبط عشواء فيزل هنا ويسقط هناك لعدم اعتماده على بصيص من النور يعينه في قطع الطريق وطي المسافة، ولهذا نجد الآية التالية في هذا السياق ترفع درجة العلم والعلماء وتقول: ﴿ … يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ … ﴾ 3 ثم ترتقي الآية الرابعة بهم لأن يكونوا من أهم الشهود على وحدانية الله وتقول: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ … ﴾ 4.
وبالرجوع إلى ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة المعصومين عليهم السلام نرى شرحاً وافياً للآيات في مئات الروايات حول قيمة العلم وأهمية العلماء ودورهم في مسيرة الأمة الإسلامية، مبينة الأوصاف واللياقات التي ينبغي أن يتمتع بها العالم، وضرورة إبراز علمه واستعماله لحماية الشريعة والدفاع عنها في مواجهة المغرضين والمشككين، ويبرز في هذا المجال الروايات الدالة على الأهداف الصحيحة للعلم وأن يكون العلم طريقاً للوصول إليها والسعي من أجلها، لا أن يكون وسيلة للمراء والخداع والتكسب به أو للتباهي والتفاخر والاستعلاء على الناس، وتؤكد الروايات كذلك على ضرورة أن ينتشر العلماء بين الناس لتوضيح الحقائق وعدم الرضوخ للواقع وكتمان ما عندهم من علوم الفيض الإلهي، فالعلم هو السبيل لارتقاء درجات الكمال الإنساني بالمقدار الذي يستطيع الإنسان الوصول إليه، وأنه الباب للنجاة من الفتن والمهالك والشبهات التي يستطيع بعلمه أن يحلل بطلانها وزيغها حتى لا تخدع الناس، إلى الكثير من القضايا المرتبطة بالعلم والعلماء الموجودة في ذلك الكم الضخم من الروايات.
وبملاحظة كل ما سبق يتضح أن للعلماء دوراً رئيسياً في حياة الأمة على كل المستويات، فعلى المستوى التبليغي فإن وظيفتهم هي بيان الأحكام الشرعية للمسلمين حتى يكون التزامهم وتطبيقهم صحيحاً من العيوب ومبرئ للذمة عند الله تعالى، وتعليم غيرهم ممن يريدون سلوك سبيل العلم لحمل المسؤولية الرسالية جيلاً بعد جيل، لأن هذه الوظيفة لا بد أن تستمر طالما الحياة الإنسانية مستمرة، ومن واجبات العلماء أن تكون مسيرتهم الاجتماعية رائدة ومبدعة في مجال تطبيق الأحكام الشرعية والأخلاق الإسلامية ليكونوا المثال والقدوة لسائر الناس من المسلمين وغير المسلمين، وهذا الجانب أهم الجوانب المؤثرة إيجابياً أو سلبياً عند العموم، وهو ميدان الإختبار والمحك لمصداقية العلم الذي يحمله العالم، ومن الوظائف المهمة والجليلة الوعظ والإرشاد بالأساليب البيانية الواضحة والجميلة بحيث ترغّب الإنسان بالارتباط بربه طمعاً في الثواب وترهبه وتخيفه من عواقب أعماله السيئة بالنار المحرقة والعذاب المقيم.
إلا أن أعظم مهمة للعلماء على الإطلاق هي قيادة الأمة والأخذ بيدها للخلاص من جور الحكام الظالمين المنحرفين عن جادة الحق والصواب والساعين لتدمير القيم الإلهية للأمة الإسلامية، لأن القيام بهذا الدور العظيم والخطير والوصول به إلى نتائجه الكبيرة والجليلة هو المدخل لكل الوظائف والمهام الأخرى الملقاة على عاتق العلماء، لأن النظام عندما يكون إسلامياً بتمام ما للكلمة من المعنى هو الضمانة لتحقيق كل تلك الوظائف أغراضها بالكامل، أما في ظل النظام الظالم والفاسد فإن القيام بتلك الوظائف سيكون محفوفاً بالكثير من العراقيل والمعوقات، إن لم يزد عليها التحريف والتزييف لإفراغ تلك الوظائف الإلهية الجليلة من مضامينها الأصلية وتحويلها إلى مجرد أبواق تدعو وتسبح للسلطان الجائر والحاكم الظالم، وفي هذا هلاك للدين وضياع للأمة.
ولهذا نجد في الاحاديث إنما المستأكل بعلمه الذي يفتي الناس بغير علم ولا هدى من الله عزوجل ليبطل به الحقوق طمعاً في حطام الدنيا، كتعبير عن عالم السوء الذي ينبغي أن تحذر الأمة منه وتنبذه لأنه عدوها وباب دخول الشيطان إلى ساحتها، ولأنه يخدع الأمة عبر تغطيته بالفتاوى والأدلة الشرعية أعمال السلطات الظالمة والمنحرفة من الفئات المستكبرة الموجودة في المجتمع التي تشتريه ببعض من حطام الدنيا الزائل الموجود بين أيديهم.
من هذا كله، على الأمة أن تتمسك بالعالم الرباني الذي اتخذ الحق دليلاً له وعيناً، والإسلام هادياً له ومرشداً، لأن مثل هذا العالم لن يحرف الناس عن الحق ولن يرديهم في الردى، وهو المؤتمن على دينهم ودنياهم، وهو القادر بعلمه وإخلاصه وتفانيه على أن يوصلهم إلى الله من أحب الأبواب وأفضلها التي تحقق الرضا الإلهي وتجعل الإنسان مستحقاً لدخول الجنان وعدم الاحتراق بالنيران 5.
- 1. القران الكريم: سورة فاطر (35)، الآية: 28، الصفحة: 437.
- 2. القران الكريم: سورة الزمر (39)، الآية: 9، الصفحة: 459.
- 3. القران الكريم: سورة المجادلة (58)، الآية: 11، الصفحة: 543.
- 4. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 18، الصفحة: 52.
- 5. نُشرت هذه المقالة على الموقع الالكتروني الرسمي لسماحة الشيخ محمد توفيق المقداد بتاريخ: السبت, 15 شباط/فبراير 2014.