الكراجكي
مقدمة المؤسسة
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.
وبعد:
فليس هناك ثمة شك بأن التراث العقائدي لمدرسة أهل البيت عليهم السلام، بوسعته المناظرة لسعة الفكر الاسلامي المبارك وامتداداته الكبيرة، قد فتح الابواب مشرعة وواسعة قبالة خريجي هذه المدرسة وروادها، والمتزودين من معينها النقي الصافي، فاغترفوا منه ـ قدر ما أحاطت به أكفهم أو دلاؤهم، وطوال الحقب المتلاحقة والمتواليةـ علوماً فياضة متنوعة أغنت المكتبة الاسلامية ومنحتها الكثير من البعد الفكري الرصين، والثقل العقائدي المتين.
ولا مغالاة في القول بأن الاستقراء المبتني على الدراسة الموضوعية لجملة المناهج العقائدية التي ترتبط بشكل عضوي بأصل العقيدة الاسلامية، وتستند في مدعياتها عليها يظهر بوضوح وجلاء الارتكاز المتجذر للاطروحات المتبناة في تلك المدرسة المباركة بعيداً في العمق الفكري للعقيدة الاسلامية النقية، فلا غرو ان تجد تلك الحجية القاطعة لهذه الاطروحات، وامتلاكها الدليل الواقعي على صوابها قبال غيرها من الاطروحات الاخرى.
ولعل مسألة الامامة والخلافة من أهم المسائل التي ابتليت بها الامة الاسلامية، عملا واعتقاداً، وتعرضت للكثير من البحث والجدال والمناقشة، وخضعت في التعاطي معها الى القرار السياسي الصادر عن مراكز الحكم الدخيلة والغريبة ـ معنى ومفهوما ـ عن الاصل الثابت الذي تنادي بها الشريعة الاسلامية، وتدعو المسلمين الى التعبد به.
ومن هنا فان الثابت المقطوع به كون علماء الشيعة مع مفكريهم لم يدخروا جهدا في ايضاح المفهوم العقائدي السليم لاصل الامامة في الفكر الاسلامي بعيداً عن التفسيرات القريبة والممجوجة التي تحاول جاهدة ودون جدوى استلال دليل ما من هنا وهناك لايجاد موطئ قدم لمدعيتها المعارضة للاطروحة السليمة الي تنادي بها المدرسة الامامية على امتداد الدهور والعصور.
فقول الشيعة الامامية بوجود النص الصريح والقطعي على خلافة علي عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه واله، وامتداد ذلك الى أولاده من الائمة المعصومين عليهم السلام، لم يأت من خواء، ولم يصدر عن فراغ قطعاً وكما هو معلوم، بل يعضده الدليلان: العقلي والنقلي، والمترجمان كثيراً في كتب الاصحاب منذ دهور طويلة وبعيدة الغور.
والرسالة الماثلة بين يدي القارئ الكريم هي انموذج واحد من تلك النتاجات الغنية التي ترجمها اولئك المفكرين في هذا المنحى المهم، والتي اعتمدت واقعة الغدير كدليل على امامة أميرالمؤمنين علي عليه السلام.
وكانت هذه الرسالة قد نشرت على صفحات مجلة تراثنا في عددها الحادي والعشرين، من سنتها الخامسة (شوال / ١٤١٠ هـ) بتحقيق المحقق الفاضل الاستاذ علاء آل جعفر، والصادر بمناسبة مرور (١٤٠٠) عام على واقعة غدير خم المباركة. واستمراراً مع خطة المؤسسة باستلال جملة الرسائل المنشورة على صفحات مجلة تراثنا فقد بادرنا الى تقديم هذه الرسالة مستقلة بين يدي القارئ الكريم.
والحمد لله أولاً واخراً.
مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث / قم
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المحقق
الحمد لله حمداُ لا يبلغ مداه الحامدون، ولا يدرك عده الحاسبون، أحمده تعالى على كل نعمة أدركها أو لا أدركها، أعلمها أولا أعلمها، تبارك وتعالى الله رب العالمين.
والصلاة والسلام على خيرة خلق الله من الأولين والاخرين، حبيبه ومصطفاه، ورسوله الامين الذي أخرجنا وأخرج آباءنا من الظلمات إلى النور بإذنه، وعلى أهل بيته الطيبين المعصومين حجج الله على العالمين إلى قيام يوم الدين.
وبعد:
فالباحث المنصف ـ كائناً من كان، مع اختلاف المشارب وتعدد الالوان ـ لابد أن ينتابه الذهول ويعتريه الاستغراب وهو يتفحص بإمعان وتأن ما حفلت به كتب السير ومصادر الأحاديث ـ التي يشار إليها بالبنان وتحاط بهالات من التبجيل والتقديس ـ من روايات وأحاديث وأحداث، كيف أن أصابع التحريف والتشويه تركت فيها آثاراً لا تخفى وشواهد لا توارى، أخذت من هذا الدين الحنيف مأخذاً كبيراُ، وفتحت لذوي المأرب المنحرفة فتحاً كبيراً.
بل ومن العجب العجاب أن تجد في طيات كل مبحث وكتاب ـ من تلك الكتب ـ جملة كبيرة من التناقضات الصريحة التي لا تخفى على القارئ البسيط، ناهيك عن الباحث المتخصص، تعلن بصراحة عن تزيف وتحريف تناول ـ بجرأة عجيبة ـ الكثير من أحاديث الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وأقوال الصحابة الناصحين، فأخذ يعمل فيها هدماً وتشويهاً.
ولعل حادثة الغديرـ بما لها من قدسية عظيمة ـ كانت مرتعاً خصباً لذوي النفوس العقيمة، خضعت ـ وهذا لا يخفى ـ لأكبر عملية تزوير ـ قديماً وحديثاً ـ أرادت وبأي شكل كان أن تفرغ هذا الامر السماوي من مصداقيته ومن محتواه الحقيقي، وتحمله ـ مداً وجزراً ـ بين التكذيب الفاضح، والتأويل المستهجن، فكانت تلك السنوات العجاف بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ وإلى يومنا هذا ـ حافلة بهذه التناقضات، ومليئة بتلك المفارقات.
ولعل أم المصائب أن يأتي بعد أولئك القدماء جيل من الكتاب المعاصرين يأخذ ما وجده ـ رغم تناقضاته ومخالفته للعقل والمنطق ـ ويرسله إرسال المسلمات دون تمعن وبحث، وكأن هذا الامر ما كان أمراً سماوياً وحتماً إلهياً، بل حالهم كأنه حال من حكى الله تعالى عنهم في كتابه العزيز حيث قال: (قالوا إنّا وَجَدنا آباءَنا على اُمّةٍ وإنّا على آثارهم مُهتدونَ) [١] .
فالجناية الكبرى التي كانت تستهدف الامام علي عليه السلام ما كانت وليدة اليوم ولا الأمس القريب، بقدر ما كان لها من الامتداد العميق الضارب في جذور التأريخ، والذي كان متزامناً مع انبثاق نور الرسالة السماوية، حيث توافقت ضمائر المفسدين ـ وإن اختلفت مرتكزاتها ـ لجر الديانة الاسلامية السمحاء إلى حيث ما آلت إليه الاديان السماوية السابقة من انحراف خطير وتشويه رهيب.
لأن من السذاجة بمكان أن تؤخذ كل جناية من هذه الجنايات على حدة، وتناقش بمعزل عن غيرها، وعن الصراع الدائم بين الخير والشر، وبين النور والظلام، وإلا فكيف يمكن للمرء أن يتصور أن الحبل يلقى على غاربه للمصلحين والمخلصين دون أن تشهر في وجوههم الحراب وتنصب في طرقهم الشباك، بل وانى يمكن أن يتصور أن تترك للإسلام الحنيف السبل شارعة والمسالك نافذة، يقيم دعائم الحق ويرسي جذور العدل، بلى لا يمكن تصور ذلك، وتلك حقائق لا يمكن الإغضاء عنها.
ومن كان علي عليه السلام؟ هل كان إلا كنفس رسول الله صلى الله عليه و آله [٢] رزق علمه وفهمه، وأخذ منه مالم يأخذه الآخرون، بل كان امتداداً حقيقياً له دون الآخرين، وهل كانت كفه عليه السلام إلا ككف رسول الله صلى الله عليه وآله في العدل سواء [٣] وهل كان عليه السلام إلا مع الحق والحق معه حيثما دار [٤] .
وهل كان عليه السلام لو ولي امور المسلمين ـ كما أراد الله ورسوله ـ إلا حاملاً المسلمين على الحق، وسالكاً بهم الطريق القويم وجادة الحق [٥] .
بلى كان يعد من السذاحة بمكان أن يمكن علياً عليه السلام من تسنم ذروة الخلافة وامتطاء ناصيتها، لأن هذا لا يغير من الأمر شيئاً بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، ويظهر لهم وكأنه صلى الله عليه وآله ما زال بين ظهرانيهم، يقيم دعائم التوحيد، ويقف سدّاً حائلاً أمام أحلامهم المنحرفة التي لا تنتهي عند حد معين ولا مدى معروف.
ولعل الاستقراء البسيط لمجرمات بعض الامور يوضح جانباً بيناً من تلك حقيقة لا تحتمل التأويل، وإن حملها الآخرون، إلا أنه هذر وتجن على الحقيقة.
المؤامرة الخطيرة، التي وإن اختلفت نوايا أصحابها إلا أنها تلتقي عند هدف واحد، وهو إفراغ الرسالة السماوية من محتواها الحقيقي، ودفع بالمسلمين إلى هاوية التردي والانحطاط ـ كما ذكرنا ـ والالتحاق بركب اليهودية والمسيحية التي أمست ثوباً مهلهلاً خرقاً يتجلبب به الأحبار والرهبان عندما يتعاطون ملذاتهم المحرمة وشهواتهم الحيوانية.
فمن الاجتهاد الباطل قبالة النص السماوي [٦] ، ومروراً بالحط من مكانة الرسول صلى الله عليه وآله [٧] وانتهاءاً بسلب الخلافة من أصحابها الشرعيين؛ سلسلة متصلة الحلقات، احداها تكمل الاخرى، إلا أن الأخيرة كانت الترجمة الصادقة لتلك التوجهات الخطيرة.
فحقا أن القربة لا تحمل البحر، ولا النملة تبتلع البيدر، وشواهد الحق ما ثلة للعيان إلا أن المخطط ـ مع اختلاف النوايا، كما ذكرنا ونذكر ـ أخذ أبعاداً واسعة، ثمارها ما نراه الان من فرقة مرة وتطاحن مؤلم، خلف أنهاراً من الدموع والدماء، ولست ادري كيف يتأتى لمن وهبه الله أدنى نور يستضيء به أن يتجاوز تلك الحقائق الواضحة التي تشهد بالنص بالخلافة لعليّ عليه السلام لا لكونه أحق من غيره بها فحسب.
ويحيرني من لا يرتضى للملوك والزعماء أن لا يعهدوا بالولاية والخلافة ـ وهم ملوك الدنيا ـ ويرتضون لله ورسوله ذلك وهو سبيل الدنيا والاخرة ! عدا أنهم نقلوا إن أبا بكر وعمر لم يموتا حتى أوصيا بذلك، بل والأغرب من ذلك ـ وحديثي لمن ليس في قلبه مرض ـ أن تجد تلك التأويلات الممجوجة للنصوص الواضحة، وذلك الحمل الغريب للظواهر البينة [٨].
وبالرغم من أن الجميع يدركون ـ بلا ادنى ريب ـ أن الرسول صلى الله عليه وآله لا يتحدث بالأحاجي والألغاز، ولا يقول بذلك منصف مدرك، إذن فماذا يريد صلى الله عليه وآله بحديث الثقلين المشهور [٩] ؟ وما يريد بقوله صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام: «أما ترضى أن تكون مني بمنزله هارون من موسى…» [١٠].
بل وما يريد بقوله صلى الله عليه وآله أيضاً: «علي ولي [١١] كل مؤمن بعدي» [١٢] ؟ بل وما…. وما…. إلى آخره.
ثم أين الجميع من قوله صلى الله عليه وآله:«من ناصب علياً الخلافة بعدي فهو كافر» [١٣] .
وإذا كان هناك من ينفر من كلمة الحق، وتعمى عليه الحقائق، فما باله بالشواهد وقد شهد حادثة الغدير عشرات الالوف من المسلمين، كما تشهد بذلك الروايات الصحيحة في بطون الكتب [١٤]، بل واخرى تنقل تهنئة الصحابة لعلي عليه السلام بأسانيد صحاح لاتعارض [١٥] .
وحقا إن هذا الأمر لا يخفى، بالرغم من أنهم لم يألوا جهدا في طمس تلك الحقائق الناصعة المشرقة ـ حتى وإن تباينت الازمنة وتباعدت المسافات ـ ولعل من المفارقات التي تستوقف ذي العقل الفطن وقائع مشهورة نقلها العام والخاص تعرضت للمسخ والتحريف في العديد من المصادر التاريخية والحديثية تختص بحديث الغدير وقضية الولاية، فعدا ما ذهبوا اليه من تفسيرهم لاية الولاية والتبليغ وغيرها كما يشتهون ـ وجدت ان بعض المصادر التاريخية عند سردها لوقائع معينة أسقطت ما لا يوافق هواها وأثبتت ما يوافقه، مثل مناشدته عليه السلام لجماعة الشورى بعد إصابة عمر بن الخطاب حيث أسقطت عبارة «فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله: من كنت مولاه فعلي مولاه…. ليبلغ الشاهد الغائب، غيري؟» [١٦] .
وأضاف ابن كثير في نهايته عند سرده لوصية امير المؤمنين عليه السلام عندما اصيب وطلب منه أن يوصي لمن بعده، حيث ذكر أنه عليه السلام قال: لا، ولكن أدعكم كما ترككم رسول الله صلى الله عليه وآله ـ يعني بغير استخلاف [١٧] ـ !!
بل ومن المفارقات العجيبة ما قراته في تاريخ بغداد [١٨] (٧: ٣٨١) عند ترجمته لأبي سعيد العدوي (٣٩١٠) فبعد أن استعرض جانبا من شيوخه الذين حدث عنهم والذين حدثوا عنه، سرد حكاية له حول مروره بالبصرة على باب عثمان بن أبي العاص، حيث نقل رؤيته لجماعة من الناس مجتمعة حول أحد الشيوخ الطاعنين في السن، وكان خراش بن عبدالله خادم أنس بن مالك، وهو يحدثهم ما سمعه من الاحاديث، وبين يديه من يكتب، قال أبو سعيد: فأخذت قلماً من يد رجل وكتبت هذه الثلاثة عشر حديثا «أسفل نعلي» انتهى. هكذا عبارة مبتورة مشوهة.
غير أن الصحيح ما نقله ابن حجر في لسان الميزان (٢: ٢٢٩) عند ترجمته للمذكور نفسه، حيث نقل عين العبارة المتقدمة ـ وعن الخطيب البغدادي نفسه ـ ولكن بشكل مغاير مختلف، حيث روى: وقال الخطيب: أخبرنا محمود بن محمد العكبري… قال أبو سعيد: فأخذت قلما من يد رجل وكتبت هذه الثلاثة عشر حديثا في «فضل عليّ»!! وأورد قبلها جملة من هذه الروايات [١٩].
وأخيرا، وتجنبا لما لم يترك فيه علماؤنا الابرار جانباً أو زاوية أو باباً الا وطرقوه و أقاموا عليه الحجج البالغة والبراهين الثابتة، أعرض عن الاسترسال في هذا المبحث المهم الذي حاولت أن أدور حوله، إدراكا لجهدي المتواضع وعجزي عن الاحاطة بما لا تستغرقة المجلدات الضخمة، ناهيك عن هذه الوريقات المحدودة.
المؤلف وعصره
ليس ثمة شك يراود من استقرأ ما كتبه مترجمو مؤلف هذه الرسالة أبي الفتح محمد بن علي بن عثمان، المشهور بالشيخ الكراجكي رحمه الله برحمته الواسعة، بل وفي جملة ما خلفه من تراث فكري كبير احتوى بمساحته الكثير من العلوم المختلفة بأنه بلا شك من أجلة علماء عصره، وفقهاء ومفكري دهره.
ولا غرو في ذلك، فإن ذلك الاستقراء المتعدد الجوانب يثير في ذهن المرء الاكبار والاجلال لهذه الشخصية الجليلة التي ما زال ـ ورغم كل ما نذكره ـ غبار الغفلة عن دراستها دراسة موضوعية شاملة يلقي بضلاله الرمادية المعتمة عليها، وذلك مما يثير الاسى في قلوب الباحثين والدارسين الدائرين حول الكيان المبارك والمعطاء لها.
ولا مغالاة فيما أقول، فإن الدراسة المتفحصة لهذه الشخصية العلمية الفذة بنتاجاتها المتعددة، وقدراتها الفكرية والعقائدية الواسعة، والإشادة الصريحة بكل ذلك من قبل معاصريه ومؤرخي سيرته القريبين من عصره، بل ومن تلاهم من رجال العلم والادب وغيرهما، وبالمقارنة الموضوعية مع الفترة الزمنية التي عاصرها، كل ذلك يوشي بصدق ما أشرنا إليه، وألمحنا إلى وجوده.
فالعلامة الكراجكي رحمه الله عند عده من قبل مترجميه بأنه شيخ الفقهاء والمتكلمين، ووحيد عصره، وفريد دهره في الكثير من العلوم والمعارف المختلفة كالنحو واللغة والطب وغيرها لم يأت هذا الأمر من خواء وفراغ قطعاَ، فمؤلفاته التي تزدان بها المكتبة الاسلامية، والتي أمست مراجع عطاء مشهودة للمتزودين من صافي علوم دوحة الرسالة المحمدية المباركة، ومعينها الذي لا ينضب، كل ذلك يحوي دلالات واضحة على مدى المكانة العلمية له.
ثم إنه لا يمكن بحال اطلاق هذا الحكم بمعزل عن الدراسة الموضوعية لخصائص الحقبة الزمنية التي عاصرها المؤلف؛ ـ الممتدة ما بين النصف الثاني من القرن الرابع والنصف الاول من القرن الخامس الهجري ـ والتي تعد بحق من أوضح مراحل الاحتدام الفكري والعقائدي بين مجمل المذاهب والفرق الاسلامية وما يحسب عليها في صراع جدلي ـ يمتد في احيان معينة إلى أبعد من ذلك ـ من أجل احتواء الساحة الاسلامية وبسط الرداء عليها، أو اقتسامها على أقل تقدير.
بلى فما توافقت عليه الاجهزة الحاكمة طوال حقب التغييب القسري للوجود العلني الحر لمدرسة أهل البيت عليهم السلام ـ إلا في حدود ضيقة محصاة الانفاس ـ وجهدها ـ إي تلك الاجهزة ـ على الترويج السياسي ـ البعيد عن الايمان العقائدي ـ لبعض المذاهب الاسلامية الاخرى التي طرحت قبالة تلك المدرسة المباركة. وما يصاحب ذلك من مراهنات ومداهنات وتلاعب سمج في التقديم والتأخير بين جملة تلك المذاهب من قبل أجهزة الدولة بالارتكاز على أصحاب الذمم المعروضة للبيع في أسواق النخاسة، وما رافق ذلك من تزاوج حضاري بين الامم والشعوب التي انضوت تحت الرداء الاسلامي الواسع وبين المسلمين الذين دوختهم السياسات الخاطئة والمنحرفة للحكام المتوارثين لسدة الخلافة الاسلامية دون حق أو جدارة، طيلة الحكمين الاموي بشقيه، والعباسي، كل ذلك كان له عظيم الاثر في تسرب العديد من المفاهيم الشاذة والغريبة عن العقيدة الإسلامية النقية الصافية، لاسيما والعديد من تلك الشعوب التي خضعت للإسلام وسلمت له تمتلك بعدا حضارياً، وتاريخاً كبيراً، وفلسفات معقدة متشابكة هي غريبة وعسرة الفهم على ذهنية عوام المسلمين وبسطائهم، فنشأت نتيجة ذلك جملة متعددة من الاطروحات الدخلية التي تجذرت مع الايام ليصبح لها دعاة وأتباع لا يمكن تجاهلهم بحال من الاحوال، بل ويتطلب ذلك وقفة عقائدية جدية لتشذيب العقيدة الاسلامية من هذه المداخلات الغريبة عنها، والمنافرة لها.
ولعل الحقبة الزمنية التي عاصرها المؤلف؛ والتي شهدت تمزق أشلاء الدولةالعباسة وتبعثر أوصالها [٢٠] كنتيجة منطقية لحالات الضعف المتوالية التي أوجدها اسلوب الحكم الخاطئ وفساد سدنته ورموزه، واستشراء ذلك في عموم أجهزته بشكل معلن غير خفي، كل ذلك أدى إلى انحسار ظل هذه الدولة المقيت، وتراخي حلقاتها التي كانت إشد إحكاماً على الشيعة وأئمتهم وعلمائهم، فكان ذلك ايذاناً بفتح أبواب الاحتدام الفكري على مصراعيه قبالة دعاة المذاهب المختلفة وروادها والتي كانت تموج بها الساحة الاسلامية آنذاك.
والتأمل العابر لمجمل التراث الفكري والعقائدي الذي تمخضت عنه تلك الحقبة الخصبة والمعطاء يظهر بجلاء أبعاد تلك المناظرات وأشكالها المختلفة وماتتسم به، فالجدال في مسائل الجبر والاختيار، والقدم والحدوث، وصفات الله تعالى، والإمامة، والعصمة، والنص والاختيار، وغير ذلك من المباحث التي لا يعسر على أحد ادراكها ومعرفتها، يعد السمة الغالبة للمناهج الفكرية الطاغية على حلقات البحث ومطاوي الكتب، والتي تتطلب احاطه واسعة بالكثير من تلك العلوم من قبل المناظر والباحث، وهذا ما وفق إليه علماء الشيعة ومفكروها بشكل واضح جلي.
حقاً لقد كانت الساحة الفكرية وحتى عصر قريب من هذا العصر ـ وإلى حد ما ـ حكراً على فريقين متعارضين تناطحا طويلاً فيما بينهما، واقتسما ـ بفعل تقديم وتأخير السلطة لا حدهما على الآخر بين آونة وإخرى لا غراض وأسباب شتى ـ تلك الساحة، بيد إن ما ذكرناه من حالة تراخي قبضة السلطة عن علماء الشيعة ومفكريهم، وتعاطف البويهيين ـ الذي أحكموا قبضتهم على بغداد آنذاك ـ معهم، كان له الأثر الكبير بأن يفصحوا عن قدراتهم الفكرية قبالة مفكري المذاهب الاخرى وعلمائهم الذين عرف البعض منهم بباعه الطويل وقدراته الواسعة [٢١] فصالوا وجالوا في هذا المعترك المقدس، وأقاموا للفكر الشيعي صروحاً عظيمة كان ولا زال الخلف الصالح لهم يسترشدون بهداها، ويستضيؤون بنورها.
بلى فقد شهد ذلك العصر ـ الذي يمكن التعبير عنه بانه خضم فكري كبير ـ أسماء لامعة كبيرة لمفكري شيعة، شغلوا مساحة كبيرة من الساحة الإسلامية، وذادوا عن النقاء الإسلامي وصفاته، وخلفوا للامة من ورائهم تراثاً عظيما مباركا، كأمثال الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان البغدادي (٣٣٦ـ ٤١٣ هـ) والسيد المرتضى علي بن الحسين الموسوي المتوفى عام (٤٣٦ هـ) والشيخ الطوسي محمد بن الحسن بن علي (٣٨٥ ـ ٤٦٠ هـ) وجعفر بن محمد الدوريستي المتوفى ما بعد عام (٤٧٣ هـ) و سالار بن عبد العزيز المتوفى على الاكثر عام (٤٦٣ هـ) وغيرهم.
ومن ثم فان صاحب ترجمتنا هو بلا شك واحد من تلك القمم السامقة في تأريخ التراث الشيعي الكبير ابان تلك الحقبة السالفة مع من عاصره من أولئك الاعلام الكبار الذين تعرضنا لذكر بعض منهم، من الذين أقرّ القاصي والداني بمبلغ علمهم، وسمو فضلهم، جزاهم الله تعالى عن الاسلام وأهله خير الجزاء.
————————————————————————————–
[١] . الزخرف ٤٣: ٢٢.
[٢] . روي عن أبي ذر رحمه الله، عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: «لينتهين بنو وليعة أو لأبعثن إليهم رجلا كنفسي ينفذ فيهم أمري….». اُنظر: خصائص الإمام علي عليه السلام ـ للنسائي ـ: ٨٩/ ٧٢، المناقب ـ للمغازلي ـ: ٤٢٨/ ٤.
[٣] . انظر: ترجمة الامام علي عليه السلام من تاريخ دمشق ٢: ٤٣٨/ ٩٤٥، المناقب ـ للمغازلي ـ ١٢٩/ ١٧٠.
[٤] . انظر: تاريخ بغداد ١٤: ٣٢١، مستدرك الحاكم ٣: ١٢٤، ترجمة الامام علي عليه السلام من تاريخ دمشق ٣: ١١٧/ ١١٥٩.
[٥] . نقل مثل هذا القول عن عمر بن الخطاب ـ لما طعن ـ مشيراً إلى ما يفعله علي عليه السلام لو ولي أمرالمسلمين. انظر: أنساب الاشراف ١: ٢١٤، ترجمة الامام علي عليه السلام من تاريخ دمشق ٣: ٨١/ ١١٢٧، ورب سائل يسأل: إذا كان ذلك قول عمر فلم جعلها بين ستة أينما دارت تصب في جعبة عثمان ؟! وكذا سأله ولده عبدالله فأجاب [ كما في تأريخ دمشق المذكور ] قال: أكره أن أتحملها حياً وميتاً !!!.
[٦] . للاطلاع على مزيد من الايضاح يراجع كتاب «النص والاجتهاد» للامام عبد الحسين شرف الدين قدس الله سره الشريف.
[٧] . يجد الباحث عند استقراء بعض جوانب حياة الرسول صلى الله عليه وآله محاولات واضحة للتعرض لشخصيته بالتجريح بصورة مباشرة أو غير مباشرة، مركزها الاول محاولة نفي العصمة عنه، والتي هدفها الحقيقي نفي العصمة عن الائمة عليهم السلام ورفع شأن بعض الصحابة على حساب شخصيته العظيمة، وإلصاق بعض الأفعال التي يتنزه عن فعلها بسطاء المؤمنين، ناهيك عن رسول الله صلى الله عليه وآله! للاطلاع بوضوح تراجع أبواب فضائل الصحابة في كتب الحديث المختلفة.
[٨] . انظر في متن الرسالة المحققة وكيف تحمل ظواهر الكلمات والاحاديث على وجوه تهدف إلى دفع الأمر عن حقيقته.
[٩] . نقلت المصادر عنه صلى الله عليه وآله قوله: «اني تارك فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الارض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما». انظر: سنن الترمذي ٥: ٦٦٢/ ٣٧٨٦ و ٦٦٣/ ٣٧٨٨، مسند أحمد ٣: ١٧ و ٥: ١٨١، مستدرك الحاكم ٣: ١٠٩ و١٨٤، اُسد الغابة ٢: ١٢.
[١٠] . انظر: صحيح مسلم ٤: ١٨٧/ ٢٤٠٤، سنن الترمذي ٥: ٦٣٨/ ٣٧٢٤ و ٦٤٠/ ٣٧٣١، اسد الغابة ٥: ٨، الرياظ النضرة ٣: ١١٧، تأريخ بغداد ٤: ٢٠٤، ترجمة الامام علي عليه السلام من تأريخ دمشق ١: ١٢٤/ ١٥٠، حلية الاولياء ٧: ١٩٤، ولعل الغريب في الامر أن يحملها البعض على أن ذلك يكون في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله متناسين أن ذلك يطعن فيما ذهبوا إليه، حيث أن من لا ينسى أن يولي من ينوب عنه في حياته لا يمكن قطعاً أن يغفل عن ذلك بعد وفاته، بالإضافة إلى أن ذي الامر يوضح وبجلاء لا يقبل الشك أن عليا كان أحق من غيره بخلافة رسول الله صلى الله عليه وآله،وهذا يعني ـ وبلا ريب ـ إعلان من رسول الله صلى الله عليه وآله للمسلمين بعده أن أحقهم وأولاهم بالخلافة علي بن أبي طالب عليه السلام، فإن أعرضوا عن النص وكذبوه كان أولى بهم أن لا يولوها إلا من كان أولى بها منهم.
[١١] . أًنظر متن الرسالة وفيها تعليق ـ ولو كان مختصراً ـ لوجوه كلمة «ولي».
[١٢] . سنن الترمذي ٥: ٦٣٢/ ٣٧١٢، مسند أبي داود الطيالسي: ١١١/ ٨٢٩، مصنف ابن أبي شيبة ٢: ٧٩، سنن النسائي: ١٠٩/ ٨٩، مسند أحمد ٤: ٤٣٧، الرياض النضرة ٣: ١٢٩، اسد الغابة ٥: ٩٤، مستدرك الحاكم ٣: ١١٠، تأريخ بغداد ٤: ٣٣٩.
[١٣] . المناقب ـ للمغازلي ـ: ٤٥/ ٦٨.
[١٤] . انظر متن الرسالة المحققة وهوامشها.
[١٥] . نقلت المصادر بعد سردها لحادثة الغدير قول أبي بكر وعمر بن الخطاب لعلي عليه السلام: بخ بخ لك يا علي لقد أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة. انظر: انساب الاشراف ١: ٣١٥، ترجمة الامام علي عليه السلام من تأريخ دمشق ٣: ٨١/ ١١٢٧، تقسير الرازي ١٢: ٥٠، وغيرها كما هو مذكور في هوامش الرسالة المحققة ولعل السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان عند ذلك هل كانت هذه التهنئة ـ ومن قبل هذه الجموع الحاشدة ـ لأمر بسيط كما يصوره البعض ويريد أن يقنع الاخرين به ؟! لست معتقدا أن يقولة من يتأمله بإمعان.
[١٦] . اثبت وجود هذا النص في المناشدة جملة من المؤرخين منهم: الخوارزمي في المناقب: ٢٢٢، المغازلي في مناقب الإمام علي عليه السلام: ١١٢/ ١٥٥، ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه لنهج البلاغة ٦: ١٦٧، وبالرغم من انهم حملوا كلمة «ولي» على غير وجهها المراد حيث اشرنا إليها سابقاً، إلا أن لهذه العبارة في هذا المجلس دلالة خاصة لا تخفى.
[١٧] . انظر: البداية والنهاية ٨: ١٤، والغريب في الامر أن هذا السؤال نقلته المصادر عن عبدالله بن جندب، وكان في حقيقته بهذا الشكل: قلت له [ أي عبد الله ] لعلي عليه السلام: يا أمير المؤمنين، إن فقدناك فلا نفقدك، فنبايع الحسن؟ قال: نعم. انظر: المناقب ـ للخوارزمي ـ: ٢٧٨، وما يدل عليه: الاغاني ١٢: ٣٢٨، فجاءت النقل وجعلت محل «نعم» إما «لا» أو «لا آمركم ولا أنهاكم».
[١٨] . الكتاب طبعته ونشرته المكتبة السلفية في المدينة المنورة.
[١٩] . أقول: ما ذكرته لا يعدو غيضا من فيض، فيمكن للباحث أن يحقق في كتب الفضائل التي نقلت قبل مئات السنين جملة وافرة من فضائل اهل البيت عليهم السلام ومن مصادر معروفة مشهورة، غير أنه بعد أن اعيد طبع هذه المصادر ـ بحجة التحقيق أو النشر ـ اسقطت الكثير من هذه الاحاديث بصلافة غريبة وتجرأ عجيب، والشواهد على ذلك كثيرة ومتعددة، ومثال على ذلك ما وجدته عند تتبع بعض ما نقله ابن الصباغ في فصوله المهمة من روايات في فضائل أهل البيت عليهم السلام ومن كتب معروفة أمثال: مسند أبي داود الطياسي وغيره، تبين لي عند مراجعتي لها أنها غير موجودة!! ومثل ذلك في تفسير الطبري (٩: ١٢١) حيث أبدلت عبارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي اشار بها إلى علي عليه السلام: ان هذا اخي، ووصيي وخليفتي من بعدي، ابدلت بعبارة: ان هذا اخي، وكذا، وكذا!!
[٢٠] . استقلت الكثير من المدن الاسلامية الكبرى ابان تلك الحقبة عن الحكومة المركزية التي لم يعد لها سوى وجود رمزي في بغداد، فقد استقلت الموصل واطرافها بأيدي الحمدانيين، واستقل بنو بويه بفارس والري واصفهان والجبل، وأما خراسان فكانت حصة السامانيين، والاهواز والبصرة وواسط للبريدين، والبحرين للقرامطة، وطبرستان للديلم، وكرمان لمحمد بن الياس.
[٢١] . أمثال القاضي عبد الجبار بن أحمد المعتزلي المتوفى عام (٤١٥ هـ) والباقلاني محمد بن الطيب البصري المتوفى عام (٤٠٣ هـ).
يتبع …..
المصدر: http://arabic.balaghah.net