قال الله تعالى في محكم كتابه: ﴿ … الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا … ﴾ 1.
اليوم المشار إليه في الآية الكريمة هو الثامن عشر من ذي الحجة الحرام من السنة العاشرة للهجرة بعد رجوع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الحج مبلغاً لأمته بمبدأ الإمامة والولاية تنفيذاً للأمر الإلهي: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ … ﴾ 2، والعصمة هنا بمعنى” أنّ الله يحميك ويصونك من تكذيب الناس لك بما ستبللغهم إياه عن الله عزّ وجلّ”.
ومن هنا ندخل إلى ما نريد الوصول إليه وهو دلالات يوم الغدير المبارك التي يمكن أن نوجزها بما يلي:
أولاً: تأسيس مبدأ الولاية
وذلك لأنّ الإسلام هو الدين الخاتم والنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الرسول الخاتم أيضاً، وهذا يعني أنّ لا دين جديد ولا نبي بعد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا يعني أنّه بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا بدّ من وجود مبدأ آخر غير النبوة يتولّى قيادة الأمة وإدارة شؤونها ويأخذ بيدها نحو تحقيق الأهداف الإلهية عبر البقاء في الخط الإلهي وهو خط النبوات والرسالات عبر التاريخ الإنساني الطويل وهذا المبدأ هو مبدأ ” الولاية”.
ثانياً: دور الولاية
والدور المنوط بالولاية هو نفس الدور الذي كان منوطاً بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن مع حفظ الفوارق الذاتية والشخصية بين مقام النبي ومقام الولي والإمام بينما على المستوى التنفيذي فالولي بعد النبي يقوم بنفس الوظائف والمهام التي كان يقوم بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من دون أيّ فارق، ولذا نرى أنّ الآية الكريمة قد أشارت بوضوح إلى أنّ إقرار مبدأ الولاية هو إكمال للدين وإتمام للنعمة.
ثالثاً: الولاية هي الناظم لأمور الدين
وذلك لأنّ أحكام الإسلام تتضمّن جانبين أساسيين الجانب العبادي_ والمراد به تنظيم العلاقة بين المسلم وربّه والجانب المعاملاتي_ والمراد به تنظيم العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان ومن الواضح أنّ هذين الجانبين يتضمّنان أحكاماً كثيرة وتفاصيل متعدّدة والكثير منها قابل للتأويل والتفسير بعدة أوجه ممّا يؤدي فيما لو لم يكن هناك ولي وإمام يتولى قيادة الأمة أن تذهب الأمة مذاهب شتى في التفسير والتأويل ممّا قد يعرّضها للإنقسامات والإهتزازات فوجود الولي يؤدي إلى منع كلّ التفاسير المغلوطة أو التي تتنافى مع التفاسير الصحيحة التي يكون الولي المنطبقة عليه المواصفات الشرعية قادرأ على إبرازها، ويحفظ بالتالي الأمة الأسلامية في اتجاهٍ واحد ومسارٍ واحد ناتجين عن تفسيرٍ واحد لا غير.
رابعاً: معنى الولاية
الولاية هي سلطنة جعلية شرعية من الله لفردٍ أو آخر وتتوافر فيهم الشروط الشرعية المعتبرة لقيادة الأمة وفق المخطّط الإلهي ولتحقيق الأهداف الإلهية لأنّ منصب الولاية ليس من المناصب التي يمكن أن يصل إليها أيّ إنسان.
خامساً: شروط الولاية
بما أنّه قلنا إنّ الولاية هي عبارة عن استمرار لقيادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للأمة، فهذا يستلزم أن يكون الولي أقرب ما يكون إلى النبي في صفاته ومميزاته الشخصية والرسالية، وهذا ما لا تتوفر القدرة عليه إلّا لله عزّ وجلّ الذي خلق الناس، والأعلم بما تحتويه عليه نفوسهم وسرائرهم، ولذا ورد عن الإمام زين العابدين (عليه السلام): (الإمام لا يكون إلّا معصوماً، وليست العصمة في ظاهر الخلق فيُعرف بها، لذا وجب أن يكون منصوصاً)، وبالجملة فمواصفات الإمام هي عين مواصفات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما عدا صفة النبوة لا غير و هذه المواصفات من الواضح أنّها تكاد مختصرة في عددٍ قليلٍ جداً من البشر.
سادساً: من أهم أولياء الأمور بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟
ممّا سبق يتّضح أنّ ولي الأمر للمسلمين بعد النبي لا بدّ أن يكون تعنييه من عند الله عزّ وجلّ وهذا ما حصل في عيد الغدير و عندما أمر الله نبيه الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يعيّن علياً ولياً على المسلمين بعده، وحصل هذا الأمر وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (من كنت مولاه فهذا علي مولاه….) وتمّّ الأمر كما أمر الله عزّ وجلّ حتى قال بعض الصحابة للإمام علي (عليه السلام): (بخٍ بخٍ لك يا علي،أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمنٍ ومؤمنة).
ولا شكّ أنّ الإمامة لأمير المؤمنين (عليه السلام) انتقلت منه إلى ولاية الإمامين “الحسن والحسين”على نحو التوالي الأكبر ثمّ الأصغر ثم، من الإمام الحسين (عليه السلام) لأولاده الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) وآخرهم الإمام المهدي “عج” الغائب المنتظر خروجه ليملأ الأرض عدلاً وقسطاً والذي يؤكد إمامة الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام) هو حديث النبي: (الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا).
وإثبات الولاية لهذه السلسلة الطاهرة ليس مجرّد القرابة للنبي بل بسبب وجود المواصفات والمؤهلات الإيمانية والرسالية والعملية التي جعلتهم أهلاً ليكونوا في ذلك الموقع القيادي للأمة وإن لم تجر الأمور بهذا الشكل بسبب أمور حصلت بعد رحيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ربّه راضياً مرضياً.
والذي يؤكد هذه الدلالات ليوم الغدير المبارك هو الحديث النبوي المشهور عند المسلمين جميعاً والذي جاء فيه: (إنّي تاركٌ فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض) وقد أوضح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّ التمسّك بهذين الثقلين معاً يؤدي حتماً إلى عدم انحراف الأمة الإسلامية عن الصراط المستقيم بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (…. ما إن تمسّكتم بهما فلن تضلّوا بعدي أبداً).
لكن للأسف لم تحفظ الأمة الإسلامية حديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتمسّكت بثقل واحد وهو القرآن الذي عمل الكثيرون من أصحاب الأهواء والميول إلى تفسيره وفق آرائهم وأهوائهم فأدى ذلك إلى انقسام الأمة وتشرذمها، وتسلّط غير المؤهلين لقيادتها حتى أوصلوها في هذا الزمن إلى وضع لا يرتضيه الله للأمة التي جعلها أمة وسطاً وشاهدة على الإنسانية جمعاء. لذا نقول إنّ دلالات يوم الغدير المبارك ينبغي أن نعيرها الإهتمام المطلوب والدراسة المعمّقة لكي نعرف أنّ كلّ بلاءات المسلمين قديماً وحديثاً نتجت عن عدم العمل بهذا المبدأ الذي شرّعه الله وارتضاه لأمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). والحمد لله ربّ العالمين3.
- 1. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 3، الصفحة: 107.
- 2. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 67، الصفحة: 119.
- 3. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ محمد توفيق المقداد حفظه الله.