” رضيت أن يكون روحي لروحك وقاءً، ونفسي لنفسك فداء، بل رضيت أن يكون روحي ونفسي فداء أخ لك أو قريب… وهل أحبّ الحياة إلا لخدمتك، والتصرّف بين أمرك ونهيك، ولمحبّة أوليائك ونصرة أصفيائك ومجاهدة أعدائك؟ “…
تلك بعض الكلمات التي قالها امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام لابن عمه رسول الله صلوات الله عليه وآله، حينما اخبره بأمر ما اوحي اليه بالهجرة عن دار قومه.. وليحل محله ويبيت في مضجعه.. ليخفي أثره عن قريش التي اجتمعت مسبقاً على المكر به بانتخاب أربعين رجلاً من أربعين قبيلة ليجتمعوا على بابه الشريف ويقتلوه في ليلة ظلماء… فنزل الامين جبرائيل على النبي وأخبره بمكيدة القوم، وأمره بالهجرة من مكّة إلى المدينة، فأرسل النبيّ إلى امير المؤمنين وقال له : ” يا عليّ، إن الروح هبط علي يخبرني أن قريشاً اجتمعت على المكر بي وقتلي، وأنه أوحى إلي عن ربي أن أهجر دار قومي، وأن أنطلق إلى غار ثور، تحت ليلتي، وأنّه أمرني أن آمرك بالمبيت على مضجعي لتخفي بمبيتك عليه أثري “.
خاض كثير من الفنانين وفي اغلب مجالات الفن واشكالها شعب التأريخ الاسلامي واقتبسوا من ثقافاته وتراثه الثر ما اسند.. فاستلهموا المفردات والرموز الغنية بالتعبير لتتوالد من بين ايديهم اشكالاً جديدة في فنونهم المعاصرة وبالخصوص الفنون التشكيلية، فقد وظف العديد منهم الروايات في اعمالهم الابداعية.. في محاولة لإعادة تركيبها بشكل جمالي وخلق نوع مميز من الحوار البصري الفعال بين اللوحة والمشاهد من خلال منحها قيمة تعبيرية نابعة من فكرة او حدث اللوحة المراد استعراضه امام المشاهد، فتكون تلك اللوحات حاملة لدلالات عقلية تكون فعالة حين تأخذ مكانتها بين المجتمع ويُتخذُ منها وسائل ايصالية للأفكار المحملة بدلالات شتى.
اللوحة اعلاه من ابداعات الفنان الشاب حسن روح الامين وهو احد قلائل الفنانين المحدثين الذين خاضوا تجربة الرجوع الى الروايات والسير المتواترة وتوظيفها في تصوير شخوص واجواء منجزاتهم الفنية الابداعية.. وقد جسد روح الامين في هذه التحفة الفنية لحظة الهجوم على بيت رسول الله محمد صلى الله عليه واله بغية اغتياله والقضاء على الاسلام، وقد صور الفنان الموضوع بتكوين انشائي بديع تشغل عناصره فضاء اللوحة ومساحتها بالكامل .
صوّر روح الامين اللوحة مستثمراً الفضاء ليكسبها بعداً منظورياً دقيقاً، و استطاع من خلاله رسم الاشخاص بدقة وحرفية عاليتين ليجعل من بعض الشخصيات تكون بارزة امام اللوحة لتكتسب مركزاً سيادياً عن باقي الاشكال من خلال الوانها الغامقة ودقة ملامحها المعتمة وهيئتها وحركتها.. وقد وزع الفنان في هذا المنجز شخوصه على مساحة المشهد بصورة افقية ، حيث وضع في المشهد اشكالا لخمسة رجال ملثمين وهم يهمون باقتحام منزل الرسول الاعظم صلوات الله عليه وآله في جوف الليل وتعم وجوههم وحركاتهم الريبة والخوف مؤكداً ذلك بتدرجات مختلفة من الوان الازرق والبنفسجي التي تسود الجو العام للوحة، ويظهر قسم من ملابسهم باللون البني والأحمر والازرق.
تميزت اللوحة بملمس ناعم وألوان موضوعية وذاتية، نفذها الرسام بدقة متناهية وبدرجات لونية متنوعة ومحايدة.. معتمة وفضفاضة أبرز فيها مستويات الضوء المختلفة باستعمال ريشته بما يتناسب وطبيعة تكوينات اللوحة ودلالاتها المختلفة المتمثلة بالأشخاص والبيوت الطينية ليكوِّن جواً روحانياً وحّد به بنية اللوحة لتصبح عناصرها كلاً متكاملاً لا يتجزأ.
استخدم الفنان الأسلوب الواقعي لتمثيل أشكال الأشخاص ضمن موضوعه الممثل بمحاولة اغتيال رسول الله صلى الله عليه وآله في داره بمكة، فالتكوين العام مستقر لأنه اتخذ شكل مستطيل افقي وزعت فيه شخوص المشهد بعناية، حيث وزع الفنان مساحاته بشكل متوازن من خلال موازنته لأشكال الرجال والباب الذين يحاولون اقتحامه وابواب البيوتات الاخرى التي من خلفهم، اضافة الى مقدرة الفنان الاستثنائية في المناورة بين الضوء والظلام في الاجواء الليلية، فقد اظهر ملامح بعض وجوههم من خلال ضوء القمر الذي ينير عتمة الليل ومن خلال لمعان سيوفهم، اضافة الى اتخاذ يسار اللوحة بالنسبة للمشاهد لتكون المنطقة الاكثر ظلاماً فيها مؤكدا ذلك بأحد شخوص اللوحة وجعله احد مراكز الاهتمام البصري فيها وليزداد الموضوع استقراراً، فأصبح هو العنصر السيادي الممثل لموضوع المنجز الذي يمثل مشهداً للغدر والعداء الذي تعرض له رسولنا الكريم في نشر دين الله .
لقد شكل الفنان مشهده بخطوط متباينة بين القوة والمرونة، والتي ميزت أشكاله عن الخلفية، أما المنظور فيمكن أن نلتمس نوعاً رائعاً من المنظور الخطي الذي ميز الأشكال البعيدة في خلفية اللوحة كالقمر والجدران الطينية والابواب وبعض السلالم في عمق الطريق، وايضاً توزيع الاشخاص من القريب الى البعيد، في وقت قد يكون فيه المنظور اللوني مغيباً بعض الشيء ، لأن الفنان لجأ إلى اختيار الوان قليلة تقترب للسواد بشكل عام.. وهنا يتجلى تأثير الفن الإسلامي ومدارسه التصويرية من حيث أسلوب الاختزال والتجريد والتسطيح وفردانية الالوان، ويمكن ان نلمس ذلك لو تفحصنا الفضاءات التي تخلل أشكال المشهد الذي عبر عنه الفنان بواسطة ألوان الخلفية الحيادية كاللون الابيض والرصاصي والأزرق في أعلى المشهد وعمقه، وقد استخدم الفنان في نفس الموطن الألوان الحارة كالأحمر وتدرجاته في ملابس الشخوص ليمنح الإحساس بالحركة القوية في المناخ الساكن الممثل بالليل، فضلاً عن توزيع اللون الأسود والنيلي في الملابس ليضيف جمالية في تحديد أشكال الشخوص وليمنح المشهد نوعاً من التنظيم الإيقاعي الحر.. حيث زاوج الفنان بين الاشخاص وبين عناصر اللوحة الاخرى.
لقد وظف الفنان ازياء شخوص اللوحة والابنية الطينية التي شيدت بها بيوتات مكة بأبوابها الخشبية لتبوح بمضمون معبر عن الروح الإسلامية، حيث تجلى شكلها الجمالي كل على حدة والذي منح المكان قيمة جمالية وروحانية، كما استخدم الفنان اللون للتأثير في المشاهد بشكل مباشر بعيداً عن التشخيص الشكلي.. فقد منحه قيمة رمزية فالألوان السائدة هي السوداء والزرقاء وهي بحد ذاتها تحمل تأثيرات جمالية ونفسية تفصح عن دلالتها في تمثيلها للهدوء والسكينة التي يحملها الليل، و بذلك يعلن الفنان عن أصالة هويته الإسلامية عبر استلهامه واستحضاره للأحداث التاريخية الاسلامية واحالتها الى اشكال ورموز معبرة تحمل في طياتها دلالات عقائدية دينية واجتماعية وبأشكال جمالية معاصرة .
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة