لقد كان النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» يغتنم الفرصة في مواسم الحج ؛ فيعرض على القبائل ، قبيلة قبيلة ، أن تعتنق الإسلام ، وتعمل على نشره وتأييده ، وحمايته ونصرته ، بل كان لا يسمع بقادم إلى مكة ، له اسم وشرف ، إلا تصدى له ، ودعاه إلى الإسلام .
ولكن عمه أبا لهب كان يتبعه أنى توجه ، ويعقب على كلامه ، ويطلب منهم أن لا يقبلوا منه ولا يطيعوه في شيء .
هذا بالإضافة إلى اتهامه بالجنون ، والسحر والكهانة ، والشعر ، وغير ذلك .
وكان الناس في الغالب يسمعون من قريش ، إما خشية من سلطانها ونفوذها ، وإما حفاظاً على مصالحهم الاقتصادية في مكة ، لا سيما في مواسم الحج ، وعكاظ .
كما أن تصدي أبي لهب عم النبي «صلى الله عليه وآله» بالذات لإفساد الأمر عليه «صلى الله عليه وآله» كان أبعد تأثيراً في ذلك ، على اعتبار : أنه عمه ، وأعرف الناس به .
ولقد أفادت تحركات النبي «صلى الله عليه وآله» هذه ، حيث إنهم بعد أن ذهبت شوكة قريش ، وخمد عنفوانها ، وأصيب نفوذها بنكسة قوية بسبب ظهور دعوته وانتشار دينه «صلى الله عليه وآله» ، وتوالي انتصاراته عليها ، ولا سيما بعد فتح مكة .
بدأت وفادات العرب تترى إلى المدينة ، بعد أن أمنوا غائلة عداء قريش ، ليعلنوا عن ولائهم ومساندتهم ، لأن دعايات قريش وإشاعاتها الكاذبة قد ذهب أثرها ، وبطل مفعولها ، لأنهم قد رأوا هذا النبي عن قرب ، وعرفوا فيه رجاحة العقل ، واستقامة الطريقة ، منذ اجتمعوا به في تلك المواسم ، وعرض دعوته عليهم .
وقد صرح المؤرخون بأن العرب كانوا ينتظرون بإسلامهم قريشاً و كانوا إمام الناس ، وأهل الحرم ، وصريح ولد إسماعيل لا تنكر العرب ذلك .
فلما فتحت مكة واستسلمت قريش عرفت العرب أنها لا طاقة لها بحرب رسول الله ولا عداوته ، فدخلوا في الدين أفواجاً 1 .
بل إنه «صلى الله عليه وآله» حينما كان يعرض دعوته على القبائل كانوا يردون عليه أقبح الرد ، ويقولون : أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك 2 .
وهذا يدل على أن الخوف من قريش لم يكن هو الدافع الوحيد للامتناع عن الدخول في الإسلام ، لا سيما وأن الكثيرين من العرب كانوا بعيدين عن مكة ، ولا يخشون سطوتها .
ونقطة أخرى لا بد من الإشارة إليها ، وهي أن تحرك النبي «صلى الله عليه وآله» وعرض دين الله على القبائل ، وهجراته المتعددة في سبيله ليعتبر إدانة للمنطق القائل : إن على صاحب الدعوة : أن يجلس في بيته ، ولا يتحرك ، وعلى الناس أن يقصدوه ويسألوه عما يهمهم ، ويحتاجون إليه .
بنو عامر بن صعصعة ، ونصرة النبي صلى الله عليه و آله :
ونشير هنا إلى واقعة هامة ، حدثت في خلال عرض النبي «صلى الله عليه وآله» دعوته على القبائل ، وهي :
أن رسول «صلى الله عليه وآله» قد أتى بني عامر بن صعصعة ، فدعاهم إلى الله ، وعرض عليهم دعوته فقال لهم رجل منهم ، اسمه : «بيحرة بن فراس» : والله ، لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب .
ثم قال له : أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ، ثم أظهرك الله على من خالفك ، أيكون لنا الأمر من بعدك ؟
قال : الأمر لله ، يضعه حيث يشاء .
فقال له : أفنهدف نحورنا للعرب دونك ، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا ؟! لا حاجة لنا بأمرك .
فأبوا عليه ، فلما صدر الناس ، رجع بنو عامر إلى شيخ لهم ؛ فسألهم عما كان في موسمهم ، فقالوا : جاءنا فتى من قريش ، ثم أحد بني عبد المطلب ، يزعم أنه نبي ، يدعونا إلى أن نمنعه ، ونقوم معه ، ونخرج به إلى بلادنا .
فوضع الشيخ يديه على رأسه ، ثم قال : يا بني عامر ، هل لها من تلاف ؟ هل لذناباها من مطلب ؟ والذي نفس فلان بيده ، ما تقولها إسماعيلي قط ، وإنها لحق ، فأين رأيكم كان عنكم! 3 .
ومثل ذلك جرى له «صلى الله عليه وآله» مع قبيلة كندة ، كما ذكره أبو نعيم في دلائل النبوة 4 .
ونحن نسجل هنا ما يلي :
1 ـ الأمر لله
لقد نصت الرواية على أن الأمر لله يضعه حيث يشاء ، ونستفيد من ذلك :
أ ـ إن الرسول لم يعط هؤلاء وعداً بما طلبوه منه ، من جعل الأمر لهم بعده ، بل أجابهم بأن الأمر لله ، يضعه حيث يشاء أي أنه لا يمكن أن يعد بما لا يعلم قدرته على الوفاء به ، تماماً على العكس من السياسيين الذين عرفناهم في عصرنا الحاضر ، وعلى مر العصور الذين لا يتورعون عن إغداق الوعود المعسولة على الناس ، حتى إذا وصلوا إلى غايتهم ، وجلسوا على كرسي الزعامة فإنهم ينسون كل ما قالوه ، وما وعدوا به .
ولكن نبي الإسلام الأكرم «صلى الله عليه وآله» رغم أنه كان بأمس الحاجة إلى من يمد له يد العون لا سيما من قبيلة كبيرة تملك من العدد والعدة ما يمكنها من حمايته ، والرد عنه ، إلا أنه يرفض أن يعد بما لا يملك الوفاء به ، حتى ولو كان هذا الوعد يجر عليه الربح الكثير فعلاً .
ب ـ إن جواب النبي «صلى الله عليه وآله» لهم بقوله : «الأمر لله يضعه حيث يشاء» يؤيد ما يذهب إليه أهل البيت «عليهم السلام» وشيعتهم الأبرار رضوان الله تعالى عليهم ، من أن خلافة النبوة ليست من المناصب التي يرجع البت فيها إلى الناس ، بل هي منصب إلهي ، والأمر لله فيها ، يضعه حيث يشاء .
2 ـ سمو الهدف ، والنظرة الضيقة
وإن عرض هذه القبيلة مساعدتها على النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» بهذا النحو ، إنما يدل على أنها لا تريد في مساعدتها له وجه الله سبحانه ، ولا تنطلق في موقفها ذاك من قاعدة إيمانية قوية ، وقناعة عقائدية راسخة ، ولا طمعاً بثواب الله ، ولا خوفاً من عقابه .
وإنما تنطلق في ذلك من نظرة ضيقة ، مصلحية تجارية بالدرجة الأولى ، وتريد من نصرها له أن تأكل به العرب ، وتحصل على المجد والسلطان .
ومن الواضح ـ بناء على هذا ـ أن نصرها له لسوف ينتهي عندما تجد : أن مصلحتها قد انتهت ، وحصلت على كل ما تريد ، أو حينما ترى : أن تجارتها الدنيوية قد خسرت ، بل لربما تنقلب عليه إذا رأت فيه عائقاً يمنعها من تحقيق أهدافها ، أو الاحتفاظ بالامتيازات الظالمة التي تفرضها لنفسها .
وهكذا يتضح : أن الاعتماد على من يفكر بعقلية كهذه ، ويتعامل من منطلق كهذا ليس إلا اعتماداً على سراب ، إن لم يجر على من يعتمد عليه البلاء والعذاب .
3 ـ الدين والسياسة
وقد لاحظ بعض المحققين هنا : أن هذا العربي ، وهو من بني عامر بن صعصعة ، لما أخبروه بما يدعو إليه النبي «صلى الله عليه وآله» ، ونقلوا إليه ما جرى لهم معه قد أدرك : أن هذا الدين ليس مجرد ترهب في الصوامع ، وصلاة ، ودعاء ، وأوراد ، وأذكار ، بل هو دين يشتمل على التدبير والسياسة ، والحكم ، ولأجل هذا قال : «لو أني أخذت هذا الفتى (يعني محمداً بما له من الدعوة الشاملة) لأكلت به العرب» .
ولقد سبقه إلى إدراك هذه الحقيقة شيخ الأنصار أسعد بن زرارة ، لما قدم إلى مكة ، وعرض عليه النبي «صلى الله عليه وآله» ما يدعو إليه ، فرأى : أن فيه وفي دعوته ما يصلح مجتمعه ، ويعالج مشاكلهم المستعصية بينهم وبين إخوانهم من الأوس ، وعلى هذا كانت الهجرة 5 .
وقد أدرك ذلك أيضاً نفس أولئك الذين اشترطوا على النبي «صلى الله عليه وآله» أن يكون لهم الأمر من بعده ، فرفض «صلى الله عليه وآله» طلبهم .
وسيأتي ذلك عن عامر بن الطفيل ، في غزوة بئر معونة ، فما أبعد ما بين فهم هؤلاء للإسلام ، ولدعوة القرآن ، حتى إن هذا الفهم هو الذي مهد لإسلام الأنصار ، ثم الهجرة ، وكذلك لبيعتهم (بيعة العقبة الأولى والثانية) ، واختيار النقباء والكفلاء على المبايعين وبين ذلك الذي يعتبر الدين منفصلاً عن السياسة ، وأن السياسة أمر غريب عن الدين ، فإن ذلك ولا شك من إلقاءات الاستعمار ، ومن الفكر المسيحي الغريب المستورد ، كما هو ظاهر .
4 ـ نتائج عرضه صلى الله عليه و آله دعوته على القبائل
ويمكننا أن نستفيد مما تقدم :
1 ـ ما تقدمت الإشارة إليه ، من أن مقابلة النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» للناس ، والتحدث معهم مباشرة كان من شأنه : أن يعطي الناس الانطباع الحقيقي عن شخصية الرسول الأكرم «صلى الله عليه وآله» ، وحقيقة ما جاء به ، ويدفع كل الدعايات والإشاعات الكاذبة ، والمغرضة ، التي كانت تبثها قريش وأعوانها ، ككونه ساحراً ، أو كاهناً ، أو شاعراً ، أو مجنوناً ، أو غير ذلك من ترهات .
2 ـ إن ما جرى في قضية بني عامر ليدل دلالة واضحة : على أن عرضه «صلى الله عليه وآله» دعوته على القبائل ، قد أسهم في الدعاية لهذا الدين ، ونشر صيته في مختلف الأنحاء ، والأرجاء ، فقد كان من الطبيعي أن يتحدث الناس ، إذا رجعوا إلى بلادهم بما رأوه وسمعوه في سفرهم ذاك ولم يكن ثمة خبر أكثر إثارة لهم من خبر ظهور هذا الدين الجديد ، وفي مكة بالذات 6 .
- 1. راجع الكامل في التاريخ ج2 ص286 و 287 .
- 2. السيرة الحلبية ج2 ص3 .
- 3. راجع : سيرة ابن هشام ج2 ص66 ، والثقات لابن حبان ج1 ص89 ـ 91 ، وبهجة المحافل ج1 ص128 ، وحياة محمد لهيكل ص152 والسيرة النبوية لدحلان ج1 ص147 ، والسيرة الحلبية ج2 ص3 ، والروض الأنف ج1 ص180 ، والبداية والنهاية ج3 ص139 و 140 ، وعن دلائل النبوة لأبي نعيم ص100 وحياة الصحابة ج1 ص78 و 79 .
- 4. راجع : البداية والنهاية ج3 ص140 .
- 5. راجع : البحار ج19 ص9 وإعلام الورى ص57 عن القمي .
- 6. الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه و آله) ، العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي ، المركز الإسلامي للدراسات ، الطبعة الخامسة ، سنة 2005 م . ـ 1426 هـ . ق ، الجزء الرابع .