علي فاضل الخزاعي
الحمد لله الذي لا تدركه المشاعر والآراء، ولا تحتويه الجهات والأرجاء، ولا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء، وأفصح من نطق بالضاد من العرب العربَاء، وآله معادن الحكمة وفصل القضاء، ما أشرق الصبح وأضاء.
أما بعد..
فمن النعم الإلهية التي وهبها رب العزة للمخلوقات هي نعمة (دحو الأرض) حيث يقول أغلب المفسرين والعلماء بالاعتماد على الروايات الواردة عن أهل بيت النبي (صلوات الله وسلامه عليهم) إلى أن خلق الأرض حصل قبل خلق السماء، والآية التي تصف دحو الأرض في قوله تعالى: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا* أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا)[1]، حيث وصف الله تعالى كيفية خلق الأرض بعد وصف كيفية خلق السماء ، وذكر صفاتا ثلاثا : هي دحو الأرض، أي بسطها وتمهيدها الذي حصل قبل خلق السماء، وإخراج الماء والمرعى من الأرض ، والمرعى : يشمل جميع ما يأكله الناس والأنعام ، وإرساء الجبال وتثبيتها في أماكنها[2]، مع أن آية النازعات تدل على أن دحو الأرض بعد خلق السماء ، لأنه قال فيها (أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها)، ثم قال : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا)، وفي هذه الآية التصريح بأن جميع ما في الأرض مخلوق قبل خلق السماء لأنه قال فيها: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء)، فأصل خلق الأرض قبل خلق السماء ، ودحوها بجبالها وأشجارها ونحو ذلك ، بعد خلق السماء [3].
والوقت الذي حدث فيه دحو الأرض هو في يوم الخامس والعشرين من ذي القعدة من تحت الكعبة، وفي هذا اليوم أيضا ولد إبراهيم وعيسى على قول، وفيه استقرار السفينة على الجودي، وفيه خروج الرّضا (عليه السلام) من المدينة إلى مرو، وفيه بناء آدم الكعبة، وفيه ولد محمّد ابن أبي بكر واُمّه أسماء بنت عميس[4].
وجاء في كتاب مفاتيح الجنان للشيخ عباس القمّي، أنّ لهذا اليوم سوى الصّيام والعبادة وذكر الله تعالى والغُسل أعمالاً منها: الصلاةُ المرويّة، وهي ركعتان تُصلّى عند وقت الضحى بالحمد مرّة والشّمس خمس مرّات في كلّ ركعة، ويقول بعد التّسليم: (لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلّا بِاللهِ الْعَليِّ الْعَظيمِ) ثمّ يدعو بهذا الدعاء: (يا مُقيلَ العَثَراتِ أَقِلْني عَثْرَتي، يا مُجيبَ الدَّعَواتِ أَجِبْ دَعْوَتي، يا سامِعَ الْأَصْواتِ اِسْمَعْ صَوْتي وَارْحَمْني وَتَجاوَزْ عَنْ سَيِّئاتي وَما عِنْدي يا ذَا الْجَلالِ وَالْإكْرامِ).
وما جاء في فضل هذا اليوم عن الحسن بن راشد، قال: (كنت مع أبي وأنا غلام فتعشينا عند الرضا عليه السلام ليلة خمس وعشرين من ذي القعدة فقال له ليلة خمس وعشرين من ذي القعدة ولد فيها ابراهيم عليه السلام وولد فيها عيسى بن مريم عليه السلام وفيها دحيت الارض من تحت الكعبة فمن صام ذلك اليوم كان كمن صام ستين شهرا[5].
وقال الإمام علي (عليه السلام): «إنّ أوّل رحمة نزلت من السماء إلى الأرض في خمس وعشرين من ذي القعدة، فمن صام ذلك اليوم، وقام تلك الليلة، فله عبادة مائة سنة صام نهارها وقام ليلها، وأيّما جماعة اجتمعت ذلك اليوم في ذكر ربّهم عزّ وجلّ، لم يتفرّقوا حتّى يُعطوا سؤلهم، وينزل في ذلك اليوم ألف ألف رحمة، يضع منها تسعة وتسعين في حلق الذاكرين والصائمين في ذلك اليوم، والقائمين في تلك الليلة»[6].
وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «لما أراد اللَّه تعالى أن يخلق الأرض أمر الرياح فضربن متن الماء حتى صار موجا ثم أزبد فصار زبدا واحدا فجمعه في موضع البيت ثم جعله جبلا من زبد ثم دحا الأرض من تحته وهو قول اللَّه عز وجل «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً»، فأول بقعة خلقت من الأرض الكعبة ثم مدت الأرض منها)[7].
ومن خطبة لأمير المؤمنين (عليه السّلام) في بدء الخليقة، وفيها يذكر النبي الأعظم والأئمّة الطّاهرين عليهم السّلام قال: (اِنَّ اللهَ تَعالى حينَ شاء تَقْديرَ الْخَليقَةِ، وَذَرْأَ الْبَرِيَّةِ، وَاِبْداعَ الْمُبْدَعاتِ، نَصَبَ الْخَلْقَ في صُوَرٍ كالهباء قَبْلَ دَحْوِ الْأَرْضِ وَرَفْعِ السماء وَهُوَ في انْفِرادِ مَلَكُوتِهِ، وَتَوَحُّدِ جَبَرُوتِهِ، فأتاح نُوراً مِنْ نُورِهِ فَلَمَعَ، وَنَزَعَ قَبَساً مِنْ ضيائه فَسَطَعَ، فَقالَ لَهُ عَزَّ مِنْ قائل: اَنْتَ الْمُخْتارُ الْمُنْتَخَبُ)[8].
يبين أمير المؤمنين (عليه السلام) البداية التكونية لبدء الخليقة، حيث أن الله عز وجل حين شاء تكوين الخلق والخليقة وتكثيرهم أوجد لهم البرية وهي الأرض وأوجد الخلق بعد أن كانوا هباء وهو: الغبار أي دقائق تراب ساطعة ومنشورة في الجو أو الأرض حيث (لما أراد الله أن ينشئ المخلوقات ويبدع الموجودات أقام الخلائق في صورة واحدة قبل خلق الأرض ورفع السماوات . . . )[9]
ووردت خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) تبين صفة خلق الأرض ودحوها على الماء حيث يقول (عليه السلام): «كَبَسَ الأرْضَ عَلى مَوْرِ أَمْوَاج مُسْتَفْحِلَة، وَلُجَجِ بِحَار زَاخِرَة، تَلْتَطِمُ أَوَاذِيُّ أمْواجِهَا، وَتَصْطَفِقُ مُتَقَاذِفَاتُ أَثْبَاجِها، وَتَرْغُو زَبَداً كَالْفُحُولِ عِنْدَ هِيَاجِهَا، فَخَضَعَ جِمَاحُ الْمَاءِ الْمُتَلاَطِمِ لِثِقَلِ حَمْلِهَا، وَسَكَنَ هَيْجُ ارْتِمَائِهِ إِذْ وَطِئَتْهُ بِكَلْكَلِهَا، وَذَلَّ مُسْتَخْذِياً، إِذْ تَمعَّكَتْ عَلَيْهِ بِكَوَاهِلِهَا، فَأَصْبَحَ بَعْدَ اصْطِخَابِ أَمْوَاجِهِ، سَاجِياً، مَقْهُوراً، وَفِي حَكَمَةِ الذُّلِّ مُنْقَاداً أَسِيراً، وَسَكَنَتِ الأرْضُ مَدْحُوَّةً، فِي لُجَّةِ تَيَّارِهِ، وَرَدَّتْ مِنْ نَخْوَةِ بَأْوِهِ وَاعْتِلاَئِهِ، وَشُمُوخِ أَنْفِهِ وَسُمُوِّ غُلَوَائِهِ، وَكَعَمَتْهُ عَلَى كِظَّةِ جَرْيَتِهِ، فَهَمَدَ بَعْدَ نَزَقَاتِهِ، وبَعْدَ زَيَفَانِ وَثَبَاتِهِ»[10].
فكبس الأرض على الماء أي أوقفها عليه وحبسها به[11]، وقيل إدخال الأرض في الماء، وقيل كبس النهر والبئر يكبسهما طمهما بالتراب، ورأسه في ثوبه أخفاه وأدخله فيه[12]، ولو تمعنا النظر في هذه الخطبة أعلاه لرأينا الصورة الدقيقة والبديعة في عملية دحو الأرض على الماء وركوزها أمام تلاطم أمواج المياه الهائجة التي يصعب التغلب عليها وكيف اصطفقت هذه الأشجار في الأرض وركوزها أمام هذه الأمواج والرياح العاتية وإن دل على شيء إنما يدل على العظمة الإلهية في الصنع والتكوين ليبين لنا عز وجل عظيم قدرته وكيفية خلقه لهذ الكون العجيب الذي يذهل العقول فسبحان رب العزة.
وآخر دعوانا إن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين.
الهوامش:
[1] – سورة النازعات: 30- 31.
[2] – ينظر: التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، وهبة بن مصطفى الزحيلى: 30/ 48.
[3] – ينظر: أضواء البيان، الشنقيطي، 7/ 14.
[4] – ينظر: سداد العباد ورشاد العباد، حسين آل عصفور، 223.
[5] – الحدائق الناظرة، المحقق البحراني: 19/ 363.
[6] – إقبال الأعمال: ۲ /۲۷.
[7] – الكافي، الكليني: 4/190.
[8] – مصباح البلاغة، الميرجهاني: 2/228.
[9] – ينظر: نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، الشيخ الحمدوني: 3/ هامش 10.
[10] – نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح، الخطبة 91/ 131.
[11] – الوافي، الفيض الكاشاني: 8/802.
[12] – ينظر: ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الاخبار: 3/629.
المصدر: http://inahj.org