مقالات

حول النهضة الحسينية…

النهضة

قيام جماعة أو فرد بما يقتضيه نظام الشرع أو المصلحة العامة كالحركة التي قام بها الحسين بن علي ( عليهما السلام ) 1 و حقيقة النهضة سيالة في الأشخاص و الأمم و في الأزمنة و الأمكنة ، و لكن بتبدّل أشكال و اختلاف غايات و مظاهر ; و ما تاريخ البشر سوى نهضات أفراد و جماعات و حركات أقوام لغايات ، فوقتاً الخليل ( عليه السلام ) و نمرود ، و حيناً محمّد ( صلى الله عليه وآله ) و أبو سفيان 2 و لم يبرح يثير الأقوام و يشكّل الأحزاب ضدّ رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) كما في بدر الكبرى و بدر الصغرى و في أُحد و الأحزاب و في وقايعه الأخرى . و لم يهدأ ساعة عن معاداة النبي في السر و العلانية و بإثارة النفوس و الجيوش ضدّه ، و يجاهد المسلمين جهده إلى يوم فتح مكة حيث أسلم مع بقية قريش .
و أوّل مشاهد بني سفيان مع المسلمين كان في غزوة حنين فمنحه المصطفى ( صلى الله عليه وآله ) مائة بعير من غنائم الحرب منوّهاً به و بمكانته . ثم اشترك أبو سفيان يوم الطائف فأصابته نبله في احد عينيه ففقئت و استعمل جابياً ، ثم اشترك في واقعة اليرموك في السنة الثالثة عشر للهجرة على عهد أبي بكر فأصابت نبلة عينه الثانية ففقأتها و اصبح أعمى . و مقالته فيها تنم عن ميله للروم .
و مات في دمشق عند ولده معاوية سنة احدى و ثلاثين هجرية عن ثماني و ثمانين سنة و دفن بها . و يوماً علي و معاوية .
ولم تزل و لن تزال في الأمم نهضات أئمة هدى تجاه أئمة جور ، و نهضة الحسين من بين النهضات قد استحقّت من النفوس إعجاباً أكثر لا لمجرد ما فيها من مظاهر الفضائل و إقدام معارضيه على الرذائل ، بل لأنّ الحسين ( عليه السلام ) في إنكاره على يزيد 3 كان يمثّل شعور شعب حي 4 ، و يجهر بما تضمره أُمة مكتوفة اليد ، مكمومة الفم ، مرهقه بتأثير أمراء ظالمين ، فقام الحسين ( عليه السلام ) مقامهم في إثبات مرامهم ، و فدى بكل غال و رخيص لديه باذلاً في سبيل تحقيق أمنيته و أُمته من الجهود ما لا يطيقه غيره فكانت نهضته المظهر الأتم للحق ، حينما كان عمل معارضيه المظهر الأتم للقوّة فقط من غير ماحقّ أو شبهة حق .

خلافة يزيد و خلاف الحسين له

خلافة النبي ( صلى الله عليه و آله ) : نيابة عنه في الولاية على الأُمّة في جميع شؤونها ، أو جميع شؤونه إلاّ الوحي ، فهي أُخت النبوة و شريكتها في البيعة و العهد و الرئاسة العامة ، و سمي المتولي لهذا العهد « إماماً » يجب الاقتداء بأفعاله و الاهتداء بأقواله ، لذلك أجمعت أُمّة محمّد ( صلى الله عليه و آله ) : على اشتراط العدالة فيه مع الفضل الديني ما نص عليه القرآن الحكيم في آية إبراهيم : ﴿ … إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ 5 كذلك اشترطوا في متن بيعته : العمل بكتاب الله و سنة رسوله خوفاً من حصول سوء الاختيار أو فسوق المختار .
و لقد ثار المهاجرون و الأنصار و مسلمو مصر و الأمصار على عثمان بن عفان حتى كان ما كان من أمره و أمر مروان ، كل ذلك إنكاراً منهم لأحداث تخالف الكتاب و السنة ، و لقد كان الأحرى بالجمهور و أولياء الأُمور : أن يعتبروا بهذا الحادث و يأخذوا دروساً من الحوادث فلا يُؤمّروا إلا من ائتمنوه على الدين لكي يسير فيهم على الهدى و الصلاح ، لكن ابن هند و عصبته ـ المستخفّة بالحق ـ لم يتبعوا سبيل المؤمنين يوم ملكوا رقاب المسلمين و أخضعوا أمام قوتهم حتى المهاجرين .
هذا ; و لم يحس من الحسين بعد الحسن ( عليهما السلام ) موجة خلاف أو رغبة الخلافة ، بل أقام مسيرته الهادئة برهاناً ساطعاً على زهده عنها ، إذ كان يفضل هدوء الشعب على الشغب ، و لكن على شريطة حفظ الشرع و ظواهره و الدين و شعائره ـ و لو نوعاً ما ـ أمّا أن يرى يزيد ممثّلاً عن جدّه الأمين و خليفته في المسلمين مع استهتاره و فسقه و فسق عمّاله فشيء لا يستطيع حمله صدر الحسين و أمثاله !
و بالرغم من صبر الحسين و احتسابه مدّه أربعين عاماً من إمارة معاوية مرّت حوادث مُرّة ضاق عنها صدر ابن علي الرحب و أوغرت صدر يزيد من الجهة الأخرى أخص بالذكر منها حدثين بارزين استثار الواحد منهما حنق يزيد و كل ما في حفايظه من ضغائن ، و هو ما سنقصّه عليك من أمر أُرينب بنت إسحاق سيدة الجمال 6 ، كما استثار الحدث الثاني من حسين الفتوة كل شهامة و مروة ، و حول و قوة ، و ذلك اهتمام ابن هند لاستخلاف ولده يزيد إماماً للمسلمين و أميراً على المؤمنين إذ كان معاوية الدهاء يحاول ذلك من شتّى الوجوه بين الجد و الهزل على ألسنة المتزلفين إليه .
تذاكر معاوية يوماً مع الناس في بيعة يزيد و الاحنف بن قيس جالس لا يتكلم فقال : مالك لا تقول يا أبا بحر ؟ قال : أخافك إن صدقت و أخاف الله إن كذبت .
و رووا عن معاوية أنه أظهر بعد موت زياد بن أبيه كتاباً مفتعلاً عن خطه بتحويل الخلافة و ولاية عهدها إلى يزيد 7 .
و عن الحسن البصري أنه قال : « أفسد أمر هذه الأُمة اثنان : عمرو بن العاص في التحكيم و المغيره بن شعبة ، فإنه كان عامل معاوية على الكوفة ، فكتب إليه معاوية : إذا قرأت كتابي فأقبل معزولاً . فأبطأ عنه ، فلما ورد عليه قال : ما أبطأ بك ؟ قال أمر كنت أُوطؤه و أهيئه . قال : ما هو ؟ قال البيعة ليزيد من بعدك . قال : أو قد فعلت ؟ قال : نعم . قال : فارجع إلى عملك فلما خرج ، قال له أصحابه : ما وراؤك ؟ قال : وضعت رجل معاوية في غرز غي لا يزال فيه إلى يوم القيامة » .
ثمّ حجّ معاوية و في صحبته يزيد يقدّمه إلى المهاجرين كمرشح للخلافة بعده ، فدخل عليه الحسين في المدينة و هو على ما هو عليه من التظاهر بالفجور و شرب الخمور فلم يسؤه يومئذ إلاّ التجاهر بإنكار هذا العمل و انضم إلى صوته أصوات ثلة من أكابر الصحابة ، و ابن صخر من ورائه ينثر الذهب و الفضة و يبث المواعيد حتى انحصرت أصوات المعارضين في أربعة ، فحس ابن الرسول بأول خذلان من أُمته في مدينة جدّه . و ما عاد ابن صخر إلى الشام حتى راجت في المدينة و صايته بمباراة معارضيه الأربعة و لا سيما الحسين ابن فاطمة ، فهدأت سورة ابن البتول إذ وجد أمامه متسعاً ، و يرى أثر هذه الصدمة في قلوب الأمة و موجة الحركات العامة إن قضى طاغية الشام نحبه ، فدبّر ابن علي أمره حسبما تسمح له الظروف و تساعده الأحوال ، إلاّ أنّه فوجىء من يزيد بأخذ البيعة منه خاصة و من الناس عامة و صحت مكيدة ابن هند في تخديره الأعصاب من وصيته بالحسين ( عليه السلام ) بينما كان ابن الرسول قالعاً منهم بالسكوت عنه ، لكنهم لم يقنعوا منه بالحيدة و لا بالعزلة و لا بالخروج إلى الثغور أو إلى أقصى المعمور .

أهلية الحسين للخلافة

ربّما اتّخذوا استجابة الحسين ( عليه السلام ) لدعوة الكوفة و إرساله ابن عمه إليها لأخذ العهد منها دليلاً على أنّه رشّح نفسه للخلافة ، غير أنّ ذلك لا ينافي خطته الدفاعية و لا يوجد نحوه مغمزاً ، حيث اجتمعت لنهضة الحسين و تلبيته لدعوة الكوفة أسباب أربعة لو تعلّق كل رجل من المسلمين بواحد من تلكم الأسباب لأصبحت مقاومة يزيد عليه حتماً و إلزاماً :

أوّلاً

أهلية يزيد للمخالفة و عدم أهليته للخلافة . فقد امتلأت بطون التواريخ عن سوء سيرته و سريرته : من شرب الخمر ، و صيده بالنمر ، و خلاعته في فجوره حتى بالمحارم .
ثم إنّه لم ينل عهد ملكه بوصاية أو وراثة ممّن استحقها من قبل ، فقد ابتز أبوه الإمارة بالمكر و الغدر ، و أخذ البيعة له بالعنف و القهر ، و بتهديد ألسنة الأسنة و الحراب ، دون أدنى حرية للمسلمين في الشورى و الانتخاب .
فكان الواجب على الأُمّة خلع هذا الخليع الغاصب ، و فيما صح عن رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) قوله 8 : « سيد الشهداء عمي حمزة ، و رجل قام في وجه إمام جائر يأمره و ينهاه ثم قتله » و قد تم هذا التنبؤ في عمل الحسين قبل غيره .

ثانياً

علم ابن النبي من نفسه و من آثار جّده و أبيه و أخيه : أنّه إمام المسلمين دون سواه ، و رشحته ألسنة المتجاهرين بالحق ، و صدَّقته البقية تحت ستار التقيّة . فهل يكون لأحد من الوجوه مثل هذا ثم لا ينهض ؟!

ثالثاً

تلوح من السيرة الحسينية المثلى أنّه مسبوق العلم بأنباء من جدّه و أبيه و أُمه و أخيه و حاشيته و ذويه بأنّه مقتول بسيف البغي ـ خضع أو لم يخضع ، و بايع أولم يبايع ـ فهلا يرسم العقل الناضج لمثل هذا الفتى المستميت خطة غير الخطة التي مشى عليها حسين الفضيلة ، قوامها الشرع و زمامها النبل و لسان حاله :
مشيناها خطىً كتبت علينا *** و من كتبت عليه خطىً مشاها

رابعاً

تواتر الكتب إلى ابن النبي ( صلى الله عليه وآله ) من العراق و خلاصة أكثرها : « أقدم علينا يا بن رسول الله ، فليس لنا إمام غيرك ، و يزيد فاسق فاجر ليس له بيعة في أعناقك ، فعجّل بالمسير إلينا ، و إن لم تفعل خاصمناك عند جدّك يوم القيامة » .
فماذا يكون ـ يا ليت شعري ـ جواب مثل الحسين لمثل هؤلاء ؟ و هلا تراه ملوماً لو لم يستجب دعوتهم ؟!

الحسين رمز الحق و الفضيلة

لا عجب إن عدّت نهضة الحسين ( عليه السلام ) المثل الأعلى بين أخواتها في التاريخ و حازت شهرة و أهميّة عظيمتين ، فإنّ الناهض بها الحسين رمز الحق و مثال الفضيلة ، و شأن الحق أن يستمر ، و شأن الفضيلة أن تشتهر . و قد طبع آل علي ( عليهم السلام ) على الصدق حتى كأنّهم لا يعرفون غيره ، و فطروا على الحق فلا يتخطونه قيد شعرة .
و لا بدع فقد ثبت في أبيهم عن جدهم عن النبي ( صلى الله عليه و آله ) : « عليّ مع الحق و الحق مع علي يدور معه حيثما دار » 9 ، فكان علي لا يراوغ أعداءه و لا يداهن رقباءه ، و هو على جانب عظيم من العلم و المقدرة و تاريخه كتاريخ بنيه يشهد على ذلك ، فشعور التضحية ـ ذلك الشعور الشريف ـ كان في علي و بنيه و من غرائزهم و لا سيما في الحسين بن علي ( عليه السلام ) و ما في الآباء ترثه الأبناء .
و قد تفادى علي لرسول الله ( صلى الله عليه و آله ) بنفسه كرّات عديدة ، كذلك الحسين تفادى لدين الرسول ( صلى الله عليه و آله ) و أُمته ، إذ قام بعملية أوضحت أسرار بني أُمية و مكائدهم و سوء نواياهم في نبي الإسلام و دينه و نواميسه .
و في قضية الحسين حجج بالغة برهنت على أنّهم يقصدون التشفّي منه و الانتقام ، و أخذهم ثارات بدر و أحقادها . و قد أعلن بذلك يزيدهم طغياناً ـ و هو على مائدة الخمر و نشوان بخمرتين خمرة الكرم و خمرة النصر ـ إذ تمثلّ بقول ابن الزّبعرى 10 :
ليـت أشياخي ببـدر شهدوا ***جزع الخـزرج من وقع الأسل
و أضاف عليها :
لعبـت هاشـم بالملـك فلا *** خبر جـاء و لا وحـي نـزل
لست من خندف 11 إن لم أنتقم *** من بني أحمد ما كان فعل

الحركات الإصلاحية و الضرورية

إذا كان نجاح الأُمة على يد القائد لزمامها ، و إصلاحها يتوقف على صلاح إمامها فمن أسوء الخيانات و الجنايات ترشيح غير الأكفّاء لرياستها و رياسة أعمالها . و سيان في الميزان أن ترضى بقتل أُمتك أو ترضى برياسة من لا أهلية لها عليها ، و أية أُمة اتخذت فاجرها إماماً ، و خونتها حكاماً ، و جهالها أعلاماً ، و جبناءها أجناداً و قواداً فسرعان ما تنقرض و لا بد أن تنقرض .
هذا خطر محدق بكل أُمة لو لم يتداركه ناهضون مصلحون و علماء مخلصون و ألسنة حق تأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر فيضربون المعتدي على يده ، أو يوقفونه عند حدّه .
و بتشريع هذا العلاج درأ نبي الإسلام عن أُمته هذا الخطر الوبيل ، ففرض على الجميع الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بعد تهديده المعتدين و ضمانه للناهضين و صح عنه ( صلى الله عليه و آله ) : « كلكم راع و كلكم مسؤول عن رعيته » ذلك لكي لا يسود على أُمته من لا يصلح لها فيفسد أمرها و تذهب مساعي الرسول و من معه أدراج الرياح . و قد كان هذا الشعور الشريف حيّاً في نفوس المسلمين حتى عصر سيدنا الحسن السبط ( عليه السلام ) .
و ناهيك انّ أبا حفص خطب يوماً فقال : « إن زغت فقوّموني » فقام أحد الحاضرين يهز في وجهه السيف و يقول : « إن لم تستقم قومناك بالسيف » .
غير أنّ امتداد السلطان لمعاوية بن أبي سفيان ، و إحداثه البدع ، و إماتته السنن و إبادته الأبرار 12 و الأحرار بالسيف و السمّ و النار 13 ، و غشّه الأفكار و بثّه الأموال في وجوه الأمة أخرست الألسن ، و أغمدت السيوف ، و كمت الأفواه ، و صمت الآذان ، و حادت بالقلوب عن جادة الحق و الحقيقة و رجالهما فمات أو كاد أن يموت ذلك الشعور الإسلامي السامي . و أوشك أن لا يحس أحد بمسؤوليته عن مظلمة اخيه و لا يعترف بحق محاسبة آمريه أو معارضة ظالميه .
و كاد أن تحل قاعدة : « قبّلوا يداً تعجزون عن قطعها » محل آية : ﴿ … فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ … ﴾ 14 .

آثار الحركة الحسينية

كان مآل الأحوال السالفة محق الحق بالقوة ، و سحق المعنويات بالماديات ، و انقراض الأئمة و الأُمة بانقراض الأخلاق و المعارف لو لا أن يقيض الرحمن لإنقاذ هذه الأمة حسيناً آية للحق ، و راية للعدل ، و رمزاً للفضيلة ، و مثالاً للإخلاص يوازن نفسه و نفوس الأُمة في ميزان الشهامة ، فيجد الرجحان الكافي لكفة الأُمة فينهض مدافعاً عن عقيدته ، عن حجته ، عن أُمته ، عن شريعته ، دفاع من لا يبتغي لقربانه مهراً ، و لا يسألكم عليه أجراً ، و دون أن تلوي لواءه لائمة عدو أو لائمة صديق ، و لا يصده عن قصده مال مطمع ، أو جاه مصطنع ، أو رأفة بآله ، أو مخافة على عياله .
هذا حسين التاريخ و الذي يصلح أن يكون المثل الأعلى لرجال الإصلاح و قلب حكم غاشم ظالم دون أن تأخذه في الله لومة لائم ، و قد بدت لنهضته اّثار عامة النفع جليلة الشأن فإنها :

أولاً

أولدت حركة و بركة في رجال الإصلاح و المنكرين لكل أمر منكر حيث اقتفى بالحسين السبط أبناء الزبير ، و المختار الثقفي ، و ابن الأشتر ، و جماعة التوابين ، و زيد الشهيد ، حتى عهد سَمِّيه الحسين بن علي شهيد فخ ، و حتى عهدنا الحاضر ممن لا يحصون في مختلف الأزمنة و الأمكنة ، فخابت آمال أُميه

فيه ، إذ ظنت أنها قتلت حسيناً فأماتت بشخصه شخصيته و أبادت روحه و دعوته . كلا ! ثم كلا ! لقد أحيت حسيناً في قتله و أوجدت من كل قطرة دم منه حسيناً ناهضاً بدعوته داعياً إلى نهضته .
أجل ! فإن الحسين لم يكن إلاّ هاتف الحق ، و داعي الله ، و نور الحق لا يخفى ، و نار الله لا تطفى ، و يأبى الله إلاّ أن يتم نوره و يعم ظهوره .

ثانياً

إنّ الحسين ( عليه السلام ) ـ بقيامه في وجه الجور و الفجور مقابلا و مقاتلاً ـ أحيا ذلك الشعور الإسلامي السامي الذي مات في حياة معاوية أو كاد أن يموت ، و نبه العامة إلى حب الحياة ، و رعاية الذات و اللذات ، و التخوف على الجاه و العائلات . لو كان تبرر لأولياء الدين مصافات المعتدين لكان الحسين أقدر و أجدر من غيره ، لكنه أعرض عنها إذ رآها تنافي الإيمان و الوجدان ، و تناقض الشهامة و الكرامة ، فجددت نهضته في النفوس روح التديّن الصادق و عزّة في نفوس المؤمنين عن تحمل الضيم و الظلم و عن أن يعيشوا سوقة كالأنعام و انتعشت إحساسات تحرير الرقاب و الضمائر من أغلال المستبدين و أوهام المفسدين .

ثالثاً

إنّ النهضة الحسينية هزّت القرائح و الجوارح نحو الإخلاص و التفادي ، و أتبعت الصوائح بالنوائح لتلبية دعاة الحق و استجابة حماة العدل في العالم الإسلامي و إنعاش روح الصدق و هو رأس الفضائل .
و بوجه الإجمال عدت نهضة الحسين ( عليه السلام ) ينبوع حركات اجتماعية باقية الذكر و الخير في ممالك الإسلام ، خففت ويلات المسلمين بتخفيف غلواء المعتدين ، فأي خير كهذا الينبوع السيال و المثال السائر في بطون الأجيال .

الفضيلة و الرذيلة

الفضيلة محبوبة الجميع و الرذيلة مكروهة إلاّ لدى صاحبها ، و إذا عدّت الفضائل فضيلة ، فضيلة : من وفاء ، و سخاء ، و صدق ، و صفاء ، و شجاعة ، و إباء ، و علم ، و عبادة ، و عفة ، و زهد ، فحسين التاريخ رجل الفضيلة بجميع مظاهرها ; كما أنّ معارضيه رجال الرذائل بكل معانيها لا يتناهون عن منكر فعلوه .
فأتت من أجل ذلك نهضة الحسين ( عليه السلام ) أُمثولة الحق و العدل ، إذ بطل روايتها أقوى مثال للفضيلة ، قد كانت حركة يزيد 15 أُمثولة الباطل و الظلم ، إذ بطل روايتها أقوى مثال للرذيلة و الفجور . و ما حربهما إلاّ تمثيلاً لصراع الحق و الباطل . و الحق مهما قلّ مساعده و ذلّ ساعده في البداية فإن النصر و الفخر حليفاه عند النهاية : ﴿ … وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ﴾ 16 17 .

  • 1. الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) أمه فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) بنت محمّد المصطفى ( صلى الله عليه وآله ) من زوجته الكبرى خديجة أم المؤمنين ( عليها السلام ) . و هو أحد السبطين الريحانتين ، و خامس أهل الكساء ، ولد في المدينة عام الخندق في السنة الرابعة للهجرة في خامس شعبان الموافق شهر كانون لسنة 626 م ، و عاش مع جده النبي ( صلى الله عليه و آله ) ست سنوات و شهوراً و بقي معه أخيه الحسن أعواماً و شهوراً و كان مجموع عمره ستة و خمسين عاماً ، و كانت شهادته بعد الظهر من يوم الجمعة عاشر محرم الحرام سنة 61 هـ الموافق سنة 680 م بحاير الطف من كربلاء في العراق . و اشترك في قتله شمر بن ذي الجوشن و سنان بن أنس و خولى بن يزيد من قواد جيش عمر بن سعد الذي أرسله والي الكوفة عبيد الله بن زياد بأمر من أمير الشام يزيد بن معاوية ليحصروا الحسين و رجاله و يقتلوهم و هم عطاشى . فقتلوه و رجاله و نهبوا و سبوا عياله مسفَّرين إلى الكوفة ثم إلى الشام فالمدينة . و إن اشتهار فضائل الحسين و الآثار المرويه فيه و منه و عنه في كتب الحديث و التاريخ ليغني عن التوسع في ترجمته الشريفة .
  • 2. هو صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس . كان في الجاهلية بياع الزيت و الأدم ، ذميم الخلقة ، هو من كبار قريش حتى قامت به قيامة قريش على الهاشميين قبيل الهجرة فترأس في المحالفة القرشية و أخذ على عاتقه مناوأة الإسلام و مقاتلة المسلمين . و له في عام الهجرة نحو سبع و خمسين سنة . ولم تقصر عنه أخته أم جميل العوراء في ايذاء رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) و سعيها بالنميمة و الفساد بين بني هاشم و القبائل ، إذ كانت تحت أبي لهب و المقصود من آية ﴿ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ﴾ القران الكريم : سورة المسد ( 111 ) ، الآية : 4 ، الصفحة : 603 .
  • 3. يزيد بن معاوية أُمه ميسون الكلابية ولد سنة خمس و عشرين فسماه أبوه باسم اخيه ، و كان بديناً ، مجدراً ، رفيع الصوت ، على أنفه قرحة ، شديد السمرة ، ولعاً بلعب النرد و الصيد بالفهد ، شغوفاً بمعاقرة الخمور و الفجور بأنواعها ، متجاهراً بالفسق حتى في سفر الحج . و في مدينة الرسول ( صلى الله عليه و آله ) أخذ معاويه له بيعة الخلافة في حياته ثم استقرت له بعد وفاته في رجب سنة 60 هـ و مات بذات الرية في منتصف ربيع الأول سنة أربع و ستين عن ثلاثة عشر ولداً أكبرهم معاوية بن يزيد .
  • 4. إنّ مشاهير الفضلاء يومئذ في الأمة الإسلامية ـ كسيدنا الحسين ( عليه السلام ) و سعد بن أبي وقاص ، و عبد الله بن عمر . و عبد الله بن الزبير ، و عبد الرحمن بن أبي بكر ـ أنكروا على معاويه استخلافه ليزيد الخمور و الفجور ، و قد توجس يزيد من مخالفة هؤلاء الوجوه خيفة ان يكون الرأي العام في جانبهم ، و اهتم في اضطهاد هؤلاء و إرغامهم ، فثبت انّ الحسين ( عليه السلام ) يومئذ كان يمثّل في قيامه على يزيد رأي الجمهور و شعور الشعب الحي .
  • 5. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 124 ، الصفحة : 19 .
  • 6. العقد الفريد : 2 / 100 .
  • 7. العقد الفريد .
  • 8. صححه الحاكم و الطبراني عن جابر و ( علي ) .
  • 9. استدل الرازي في تفسيره بهذا الحديث و ثبوته المتواتر على الجهر بالبسملة .
  • 10. بكسر الزاي و فتح الباء و سكون العين و فتح الراء المهملتين : كنية شاعر الحزب السفياني .
  • 11. خندف : لقب أم مدركة بن إلياس بن مضر جد قريش .
  • 12. من سنة 40 هـ إلى سنة 60 بعد ما استعمل على العراق المغيرة بن شعبة و زياد بن سمية لاستيصال شأفة الحزب العلوي و قتل صلحاء الصحابة و التابعين ـ كحجر بن عدي و أصحابه ـ سراً و جهراً و غدراً و غيلة أو دفناً في التراب حياً و شق بطونهم و سمل عيونهم . عدا من قتلوا حرباً أو صلباً أو نفيهم و قطع أرزاقهم أو التعرض بأعراضهم ، كل ذلك ليحملوا الأمة بكل وسيلة على سب أبي تراب و الترحّم على عثمان و تسويغ المظالم .
  • 13. و قد أفرط معاوية في قتل صلحاء الصحابة و التابعين بدسّ السمّ في مأكلهم ـ أمثال ابن أبي وقاص ، و الحسن بن علي ، و مالك الأشتر النخعي .
    و قال أبو الفرج الأموي في مقاتله : و أراد معاوية البيعة لابنه يزيد فلم يكن شيء أثقل عليه من أمر الحسن بن علي و سعد بن أبي وقاص فدس إليهما سماً فماتا منه . . . الخ .
  • 14. القران الكريم : سورة الحجرات ( 49 ) ، الآية : 9 ، الصفحة : 516 .
  • 15. طفحت مدونات التاريخ بمظالم يزيد و هتكه لحرمات الدين و الحرمين في أيامه القصيرة ، و يشترك معه ـ طبعاً ـ في الإثم كل من ساعده عليه أو ساعده على استخلافه ، كالمغيرة بن شعبة الذي حمل معاوية على استخلاف يزيد و قصته معروفة ، فصار أبوه لا يتريّث في ترشيحه للخلافة فولاه إمارة الحج مرتين بعد أن استتب له الأمر ، و ولاه الصائفة تارة و قيادة الجيش أخرى ـ و الصائفة غزوة الروم ، لأنّهم كانوا يغزون صيفاً ، و صائفة القوم ميرتهم في الصيف ـ . كما و أخذ له البيعة من المسلمين في حياته طوعاً و كرهاً غير مبال بمن خالفوه و شنعوا عليه حتى مات معاوية سنة ستين و نادى يزيد بنفسه ملكاً على المسلمين و خليفة عن أسلافه .
    و قد استمرت ولايته ثلاث سنوات تقريباً فكان عمله في السنة الأولى قتل الحسين ريحانة النبي ( صلى الله عليه و آله ) و البقية من آله ـ على الوجه المشروح في هذا الكتاب ـ و سبي ذراريه و عياله إلى الشام بأسوء من سبايا المشركين .
    ولم تقف سوء نيّته عند هذا الحد حتى ثنى الفاجعة الأولى بالأخرى و تسمى « الحرة » فأخاف مدينة الرسول و جيرانه سنة 63 هـ لأجل إنكارهم عليه منكرات أعماله المخالفة للشريعة ، و في صحيح مسلم عنه ( صلى الله عليه و آله ) : « من أخاف أهل المدينة أخافه الله و كانت عليه لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين » و أمر يزيد بإباحة حرم النبي ( صلى الله عليه و آله ) لجيشه ثلاثة أيام فعبثوا بها سلباً و نهباً و قتلاً و بغياً . حتى قيل في سفك دمائها و هتك نسائها ما يقشعر منه الإنسان . فلم يبق بعدها بدري في العرب ، و أخذ منهم بالقهر إقرارهم على أنّهم عبيده و إماؤه لا يملكون في جنب أوامره مالاً أو عرضاً أو رقبة ، و قتل كل ممتنع عن هذه البيعة القاسية ما عدا علي بن الحسين ( عليه السلام ) ، و ختم سني إمرته بحصار الكعبة و رميها بالحجارة من المنجنيق المنصوب على جبل أبي قبيس ، و باستباحة القتل في البلد الحرام و في الشهر الحرام : أي محرم سنة أربعة و ستين بفرض إرغام عبيد الله بن الزبير ـ المستجير هو من معه بالمسجد الحرام ـ و رمى الكعبة بالنار يوم السبت ثالث ربيع الأول فأحرق أستارها و سقفها و قرني كبش إسماعيل فيها ، و بقيت النار مضطرمة أحد عشر يوماً ، في أثناء ذلك كان هلاك يزيد في رابع عشر ربيع الأول الموافق لعاشر نوفمبر سنة 682 م .
  • 16. القران الكريم : سورة الشعراء ( 26 ) ، الآية : 227 ، الصفحة : 376 .
  • 17. نهضة الحسين ( عليه السلام ) للعلامة الفقيد السيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني : 35 ـ 52 .
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى