لم يتوقّف تدفّق الفرضيات التفسيرية لهذا الحدث التاريخي الذي وقع في القرن الهجري الأوّل، فكلّ فريق من موقعه العقدي أو خلفيّاته الفكرية مارس تفسيراً له، وقوّم من منطلق هذا التفسير الحدثَ نفسه، فرأى بعضهم أنّ ما قام به الإمام الحسين لا يعدو أن يكون انتحاراً سياسياً وجسديّاً لم يُنتج أيّ شيء، وأنّه كشف عن سذاجة سياسية وانفعال عاطفي لم يقرأ الأمور بعقليّة واقعيّة، فيما ذهب فريقٌ آخر إلى القول بأنّه كان انتصاراً تاريخياً أبدى نفسه في تفوّق القيم والمبادئ تارةً وفي تداعي الدولة الأموية بعد عقود تارةً أخرى.
يبدو لي ـ إذا أردت استبعاد بعض المنطلقات المذهبية، مع تأييدنا للفريق الثاني من حيث المبدأ ـ أنّ كلّ فريق من هؤلاء فسّر المشهد وقوّمه وفقاً لافتراض أنّ حركة الإمام الحسين من المدينة إلى مكّة ومنها إلى الكوفة فكربلاء، كانت في تلك اللحظة الزمنية مرسومةً وفقاً لهدف واحد، ومن ثمّ فنحن نحاكم هذه الثورة انطلاقاً من حركتها في سياق هذا الهدف الواحد، لكنّ الفرضيّة الأقرب في تفسير الحركة ـ من وجهة نظري المتواضعة التي فصّلتها في كتابي1 ـ أنّه قد حصل فيها تحوّل في الأهداف الاستراتيجيّة بين الخروج من المدينة، والخروج من مكّة، وخيار القتال في كربلاء.
فالخروج من المدينة كان بهدف تجنّب تقديم البيعة ليزيد الذي رآه الحسين لا يملك أدنى مقوّمات الإمامة، ولهذا خرج الحسين بسرعةٍ من المدينة مع أهل بيته خلال ثلاثة أيام على أبعد تقدير بعد وصول خبر وفاة معاوية ومطالبة يزيد بأخذ البيعة من الوجوه والأعيان، في تلك اللحظة لم يكن هناك قرار حرب ولا ثورة ولا انتحار ولا مشروع سياسي محدّد غير رفض البيعة، كانت مكّة المكان الأنسب لدرس الخيارات الممكنة وكانت اللحظة مناسبة أيضاً، لحظة قرب موسم الحج. وبخروجه المريب من المدينة ورفضه البيعة تواترت الأخبار إلى حواضر العالم الإسلامي، وقرّر وجوه الكوفة التواصل معه ليصله سفراؤهم ورسائلهم وهو في مكّة ملقين عليه الحجّة وهو يتعامل مع منطق الأشياء الطبيعي، هنا ظهر الخيار الاستراتيجي الجديد، وهو التوجّه نحو الكوفة لقيادة حركة سياسية انفصاليّة إذا صحّ التعبير، وما عزّز هذا القرار كان تتالي الأخبار بخطّة الاغتيال التي تستهدف الحسين في الحرم، الأمر الذي اضطرّه للخروج باكراً قبيل الحجّ، متجهاً نحو الشمال منتظراً أخبار سفيره مسلم بن عقيل لتحسم الخيارات بشكل نهائي، وبعد مجيء الرسول بأخبار مطمئنة حسم خيار الاستقرار في الكوفة، واستمرّ السير، وفي أواسط الطريق أو أواخره جاءت الأخبار المعاكسة، في لحظة لم توفّر للحسين خيارات جديدة مفتوحة، فلم تكن العودة إلى المدينة أو مكّة أو غيرهما بمجديةٍ، فقد وقع الخذلان، وفي مسيره نحو الشمال جاءه الحرّ الرياحي، وحال بينه وبين دخول الكوفة، فتحرّكت القافلة شمالاً دون هدف محدّد، وكان الاستقرار في كربلاء، ولمّا لم تتوفّر أي خيارات تفاوضيّة عدا خنوعه للذلّ وإقراره بخلافة غير شرعية، قرّر الخيار الاستراتيجي الثالث، وهو الشهادة، ليكون مشعلاً للرفض والإباء، وليكتب بدمه الزاكي معاني العزة والكرامة وقيم التضحية والتفاني في سبيل المبادئ العليا.
وأخيراً، ليس كلّ فشل مادّي تعبيراً عن فشل في الرؤى والتخطيط؛ لأنّ الأمور في الحركات الاجتماعيّة الكبرى لا تكون بيد طرف واحد يمسك بالخيط، بل هي دوائر من الخيوط الملتفة المعقّدة، إذ لا يصحّ القول بأنّ الأنبياء كانوا فاشلين؛ لأنهم لم يوفّقوا إلا لكي يؤمن معهم القليل.
- 1. بحوث في الفقه الإسلامي المعاصر ج3، ص303 ـ 363.