ونلاحظ : أن ابن هشام وغيره يذكرون إسلام حمزة (رحمه الله) بعد الهجرة إلى الحبشة ، أي في حوالي السنة السادسة للبعثة ، ونحن نرجح ذلك ؛ لأنه حين أسلم ـ كما يقول المقدسي ـ عز به النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل الإسلام ، فشق ذلك على المشركين ، فعدلوا عن المنابذة إلى المعاتبة ، وأقبلوا يرغبونه في المال والأنعام ، ويعرضون عليه الأزواج 1 .
كما أنه إنما أسلم بعد الإعلان بالدعوة ، وبعد مفاوضات قريش مع أبي طالب وعروضها عليه ، وبعد أن عدلوا عن ذلك إلى العداوة والأذى .
وعلى كل حال ، فقد كان إسلام حمزة تطوراً جديداً لم يكن قد دخل في حسابات قريش ، حيث قلب الموازين رأساً على عقب ، وفتّ في عضد قريش ، وزاد من مخاوفها ، وكبح من جماحها .
فقد مر أبو جهل بالرسول عند الصفا ، فآذاه وشتمه ، ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه ، والتضعيف لأمره ، فلم يكلمه الرسول (صلى الله عليه وآله) .
وكان حمزة صاحب صيد وقنص ، وكان إذا رجع بدأ بالبيت ، وطاف به ، وسلم على من فيه ، ورجع إلى بيته .
وفي هذه المرة كان حمزة راجعاً من صيده ، فأخبرته إحدى النساء بما كان من أبي جهل تجاه الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ، فاحتمل حمزة الغضب ، ودخل المسجد ، فرأى أبا جهل جالساً مع القوم ، فأقبل نحوه ، حتى إذا قام على رأسه رفع القوس ، فضربه بها ضربة شجه بها شجة منكرة .
ثم قال : أتشتمه وأنا على دينه ، أقول ما يقول ؟
فرد علَيّ ذلك إن استطعت وكان ذلك بعد أن تضرع إليه أبو جهل ، وأخذ بثوبه ، فلم يقبل منه .
فقام رجال من بني مخزوم لينصروا أبا جهل ، فقالوا لحمزة : ما نراك إلا قد صبأت ؟
فقال حمزة : وما يمنعني ؟
وقد استبان لي منه أنه رسول الله ، والذي يقول حق ؟! فوالله لا أنزع ، فامنعوني إن كنتم صادقين .
فقال أبو جهل : دعوا أبا عمارة ، فإني والله لقد سببت ابن أخيه سباً قبيحاً .
يقول المقدسي : (فلما أسلم حمزة عُزّ به الدين والنبي (صلى الله عليه وآله) 2 ، وسرّ رسول الله بإسلامه كثيراً .
وعلمت قريش : أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد عز وامتنع ، فكفوا عما كانوا ينالونه منه .
وقال حمزة للنبي (صلى الله عليه وآله) : فأظهر يا ابن أخي دينك ، فوالله ما أحب أن لي ما أظلته السماء ، وأني على دين الأول 3 .
وكان حمزة أعز فتى في قريش ، وأشدهم شكيمة 4 .
إسلام حمزة كان عن وعي لا حمية
والظاهر ، بل الصريح من كلام حمزة (رحمه الله) ، ولا سيما قوله الأخير : (وما يمنعني ، وقد استبان لي منه : أنه رسول الله ، والذي يقول حق) أنه لم يكن في إسلامه منطلقاً من عاطفته التي أثيرت وحسب ، وإنما سبقت ذلك قناعة كاملة ، كوّنها مما شاهده عن قرب من مواقف وسلوك ، وسمعه من أقوال النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) .
وقد يستفاد من قوله : أتشتمه وأنا على دينه ؟! أن إسلامه كان متقدماً على ذلك الوقت ، ولكنه كان يتكتم به مراعاة للظروف ، وحفاظاً على الإسلام والمسلمين ، الذين كانوا أضعف من أن يتمكنوا من مواجهة قريش وجبروتها .
ولربما كان بعضهم بحاجة إلى المزيد من التربية النفسية الخاصة ، ليتمكن من مواجهة تلك الظروف القاسية مع المشركين .
سر جبن أبي جهل في مواجهة حمزة
ولا بد من التذكير هنا : بأن أبا جهل ، عظيم المشركين وجبارهم مع أنه كان بين أهله وعشيرته ، ومع أن عشيرته قد أعلنت عن استعدادها لنصرته ، فإنه كان أجبن وأذل من أن يقف في وجه أسد الله وأسد رسوله ، وما ذلك إلا لأنه كان من جهة :
يعلم فتوة حمزة وعزته ، وشدة شكيمته وبطولته ، ورأى مدى تصميمه وإصراره ، وعرف مقدار استعداده للتضحية والفداء في سبيل دينه ، وعقيدته .
ومن الجهة الأخرى : فإن أبا جهل إنما كان يحارب النبي (صلى الله عليه وآله) ويناقضه ، حباً بالحياة ، ومن أجل الدنيا ، فهو إذاً لا يريد الموت إطلاقاً ، بل هو يهرب منه ، ويعده خسارة له ، ما بعدها خسارة .
أما حمزة (رحمه الله) ، فكان يعتبر الموت في سبيل هذا الدين نصراً وفوزاً ، تماماً بالمقدار الذي يعتبره أبو جهل ، ومن هم على شاكلته خسراناً وضياعاً فلماذا إذاً يخشى الموت ويخافه ؟
بل لماذا لا يكون الموت عنده أحلى من العسل ، وألذ من الشهد ؟ .
ومن جهة ثالثة : فإن أبا جهل لم يكن على استعداد لأن يحارب بني هاشم في تلك الفترة ، التي كان له فيها أنصار كثيرون فيهم ، لأن حربه لهم لسوف تؤدي إلى أن يخسر هؤلاء الذين يلتقي معهم فكرياً وعقيدياً ، لأنهم بحكم المنطق القبلي الذي يهيمن على مواقفهم وتصرفاتهم لن يتركوا ابن أخيهم ، حتى ولو كان على غير دينهم ، وقد وعدوا أبا طالب باستثناء أبي لهب أن يمنعوا محمداً ممن يريد به سوء كما تقدم .
بل إن تحرك أبي جهل في ظروف كهذه لربما يؤدي إلى ترسيخ أمر محمد ، وإلى دخول الكثيرين من بني هاشم في دينه ، حمية وانتصاراً .
وهذا ما لا يريده أبو جهل ، ولا يرغب فيه .
إذاً ، فقد كانت جميع الظروف تدفعه إلى الاستسلام للذل والهوان في مقابل أسد الله وأسد رسوله .
والخلاصة
أن حب أبي جهل للحياة ، وجبنه ، ثم ما كان يراه من الصلاح في عدم التصعيد في مناهضة محمد وبني هاشم ، قد جعله في موقف الذليل المهان ، وجعل الله كلمة الباطل هي السفلى ، وكلمة الحق هي العليا .
ملاحظة هامة
والملاحظ هنا : أنه بعد إسلام حمزة بن عبد المطلب تتراجع قريش ، وتليّن من موقفها ، وتدخل في مفاوضات معه (صلى الله عليه وآله) ، وتعطيه بعض ما يريد ، لأنها رأت أن المسلمين يزيد عددهم ويكثر ، فكلمه عتبة ، فأبى (صلى الله عليه وآله) كل عروضهم 5 6 .
- 1. البدء والتاريخ ج4 ص148 و149 ، وهو الظاهر من سيرة ابن هشام ، حيث ذكر هذه العروض بعد ذكره لإسلام حمزة (عليه السلام) .
- 2. البدء والتاريخ ج5 ص98 .
- 3. راجع : تاريخ الأمم والملوك ج2 ص72 و73 والسيرة النبوية لابن هشام ج1 ص312 .
- 4. راجع : تاريخ الأمم والملوك ج2 ص72 .
- 5. راجع : كنز العمال : ج14 ص48 عن البيهقي في الدلائل ، وابن عساكر .
- 6. الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) ، العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي ، المركز الإسلامي للدراسات ، الطبعة الخامسة ، 2005 م . ـ 1425 هـ . ق ، الجزء الثالث .