للأسرة في التّشريع الإسلاميّ مكانةً خاصّةً ومتميزةً، لأنّها الركن الأساس في تكوين المجتمع الإسلاميّ الكبير، وذلك لأنّ الأسرة هي عبارةٌ عن “الأب والأم والأبناء” وهم الذين يشكّلون المجتمع الصّغير ، الذي يقوم فيه كلّ فردٍ من أفراده بالمهامّ المطلوبة منه من أجل الوصول إلى المستوى الذي أراده الإسلام أن يتحقّق وهو “الأسرة المتضامنة والمتكافلة والمتعاونة فيما بين بعضها البعض، والتي تغمر حياتها السّعادة والتّفاهم والإحترام المتبادل وفق نظم وضوابط الشرع الإسلاميّ الحنيف”.
ولا شكّ أنّ الأسرة بهذا المعنى الذي صوّرناه هو المدماك الأساس لإنتاج المجتمع الصّالح والمُلتزم والمُتعاوِن والهادِف، لأنّ المجتمع الكبير ليس إلاّ عبارةً عن تجمُّع الأُسر التي تشكِّل بمجموعها المجتمع الواحد وبعدها المجتمع الإنسانيّ الكبير.
وهذا ينتج عنه أنّه كلّما كان بناء الأسرة بناءً سليماً صالحاً واعياً ومُلتزماً كلّما حصلنا على مجتمعٍ مُتجانسٍ ومُتكاملٍ ومُتضامنٍ، يردف بعضه البعض الآخر، ويُكمّل بعضه البعض الآخر، ويعرف كلّ فردٍ دوره وواجبه في المجتمع الذي يعيش فيه ويشكِّل جزءاً منه، وكلّما كان بناء الأسرة بناءً غير سليمٍ وغير ملتزمٍ بالضّوابط الشّرعيّة والأخلاقيّة والسّلوكيّة، فهذا يعني أنّ المجتمع المتشكّل من هكذا نوعٍ من الأسر لن يكون موحّداً ولا مُتجانساً ولا مُتضامناً، بل سيكون مُنفرقاً ومُشتّتاً ومُبعثراً تتنازعه الأهواء والغايات، ويغرق في بحرٍ من المشاكل التي لا يحصد منها إلاّ الخيبة والحسرة والنّدامة وضياع الحاضر والقلق من المستقبل كما هو حاصلٌ اليوم في عالم الغرب عموماً، الذي دمّر الأسرة وشتّتها فصار المجتمع مُفكّكاً ومُنحلاًّ لا يعيش روح الجماعة ولا يهتمّ الفرد إلاّ بنفسه ولا ينظر للآخرين النّظرة الإنسانيّة السّامية، لأنّ الرّوح الماديّة والعوامل الاقتصاديّة صارت هي المعيار لقيمة كلّ فرد في تلك المجتمعات، فتدمّرت القيم الإنسانيّة و الأخلاق الحميدة، وحلّ محلها الإعتبارات الماديّة التي تُبيح الخروج عن كل الضّوابط الإنسانيّة للوصول إلى الأهداف الدنيويّة الرّخيصة على حساب الأسرة وروح التّعاون و الإنسجام بين أفراد المجتمع الواحد.
ومن هنا نفهم لماذا اهتمّ الإسلام بالأسرة وأولاها العناية الخاصّة، لأنّه يعتبرها صمّام الأمان لضمان عدم إنحلال المجتمع وتفكّكه وتقطيع أوصاله.
ولهذا جعل الإسلام لكلّ فردٍ من أفراد الأسرة حقّاً يتناسب مع قابلياته ومؤهلاته تارة، أو مع إحتياجاته تارةً أخرى، لأنّ الأسرة فيها من يستطيع أن يعطي ما عنده من الخبرة والأهلية لمن يحتاجون إليها، وفيها من هو بحاجةٍ لأن يتعلّم ما عليه أن يتعلّمه حتى يتمكّن من إمتلاك المهارات والخبرات المطلوبة لدخول معترك الحياة من موقع العارف والخبير والقادر على التعامل مع كلّ الأمور التي سيواجهها.
وبالإنتقال الى الحقوق التي حدّدها الإسلام ضمن الأسرة فهي التّالية:
“حقّ الولد” و”حقّ الزوجة” و”حقّ الأم” و”حقّ الأب”، ولكلّ حقٍّ من هذه الحقوق دوره في ضمان بناء الأسرة المؤمنة والمُلتزمة والمُتماسكة.
أولاً: “حقّ الولد”، فقد ورد عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) عن حقّ الولد ما يلي: (وحقّ ولدك أن تعلم أنّه منك ومُضافٌ إليك في عاجل الدنيا بخيره وشرّه، وأنّك مسؤول عمّا ولّيته من حُسن الأدب و الدّلالة على ربّه، والمعونة له على طاعته، فاعمل في أمره عمل من يعلم أنّه مُثابٌ على الإحسان إليه، مُعاقبٌ على الإساءة إليه)1.
وإذا أردنا شرح حقّ الولد على أبيه يمكن تحديد ما يلي:
- أنّ الولد هو جزءٌ من أبيه وهو سبب وجوده في هذه الدنيا، وبالتّالي هو مسؤولٌ عنه في السّرّاء والضّرّاء، فإن كان الولد حسن التربية إمتدح النّاس أباه الذي أحسن تربيته، وإن كان الولد سيّء التربية وجّه النّاس اللوم إلى الأب لتقصيره في تأديبه.
- ربطه بالله سبحانه وتعالى من خلال تعليمه الأحكام الشّرعيّة التي تجعله يضع قدماً في خطّ الإيمان والإرتباط بالله عزّ وجلّ، من خلال تعليمه الصلاة والصّيام، وكلّ مفردات الإيمان بالله الواحد الأحد، والتوكّل عليه وإستمداد العون والقوّة منه، وأن يستعمل الأبّ كلّ وسائل التّرغيب والتّشجيع ليسير ولده على الصّراط المستقيم الذي يضمن عدم إنحرافه في المستقبل عندما ينخرط في أمور الحياة و مع المجتمع.
- إنّ تربية الإبن مسؤوليةٌ كبيرةٌ ألقاها الإسلام على عاتق الأب خصوصاً لأنّه المسؤول الأوّل والأخير عنه، فإن أحسن تربيته وتأديبه كان له الأجر والثّواب العظيمان عند الله لأنّه حفظ ولده وصانه من الضّياع وقام بواجبه كما ينبغي، وأمّا إذا أهمله أو لم يُحسن تربيته كما هو المطلوب فهو مُعاقب عند الله لأنّه فرّط في حفظ ولده، ولم يُعلّمه و يؤدّبه بالشّكل الذي يصونه و يحميه في المستقبل، وهذا قدّ يؤدّي إلى ضياع الإبن وإنحرافه مع ما يترتّب على ذلك من مفاسد ومشاكل أخلاقيّة وسلوكيّة وإيمانيّة.
وبالإجمال فإنّ الولد أمانةٌ في يد الأب، وعلى الأمين أن يتعامل مع الأمانة كما أراد الله، فلا يتعدّى ولا يفرّط، خصوصاً أنّ هذه الأمانة لا تُضاهي أيّة أمانةٍ أخرى في القيمة المعنويّة أو الماديّة، فالأمانة هنا هي أمانة الأبوّة التي تُرتِّب على الأب مسؤولياتٍ شرعيةٍ تنبع من الفطرة التّكوينيّة التي غرسها الله في نفوس الآباء تجاه أبنائهم، ولذا نرى أنّ القرآن الكريم يعبّر عن الأبناء بقوله:﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا … ﴾ 2، والزينة هي ما يتجمّل به الإنسان، ولا يكون الولد زينةً إلاّ إذا كان الأب قد أحسن تربيته و تهذيبه وجعله مؤمناً بربّه ومُرتبطاً به إرتباطاً وثيقاً يمنع الولد من إقتراف الذّنوب أو ترك الواجبات أو أن يكون سيّء الأخلاق و السّلوك.
وقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما يلي: (ألزموا أولادكم وأحسنوا أدابهم، فإنّ أولادكم هديّة إليكم)3، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (حق الولد على الوالد أن يعلّمه الكتاب والسّباحة والرّمي) 4، والمراد بالسّباحة “الرياضة”، وبالرّمي “القوة الجسدية والاهتمام بأموره الصحيّة والمهارات القتاليّة” وما شابه ذلك.
ثانياً: “حقّ الزوجة”، وقد ورد في رسالة الحقوق للإمام زين العابدين (عليه السلام) ما يلي: (وحقّ الزوجة أن تعلم أنّ الله عزّ وجلّ جعلها لك سكناً وأنساً، وتعلم أنّ ذلك نعمةً من الله عليك فتكرمها وترفق بها، وإن كان حقك عليها أوجب، فإنّ عليك أن ترحمها لأنّها أسيرك، وتطعمها وتكسوها فإذا جهلت عفوت عنها)5.
من نعم الله على الإنسان أن جعل أمر الزواج فطريّاً يُقدم عليه الإنسان من أجل الحصول على زوجةٍ تعيش معه بكل عواطفها ومشاعرها وأحاسيسها، ويبادلها هو في ذلك، لتحصل بينهما حالةً من الحبّ الروحيّ والإنسجام العاطفيّ الذي يجعل من الزوج سكناً لزوجته وهي سكنٌ له أيضاً، وكلّما كانت الحياة الزّوجيّة سعيدةً وخاليةً من كلّ ما يعكّر صفوها إنعكس ذلك على جوّ الأسرة بالكامل، وكلّما كانت الحياة الزوجيّة غير مُريحةٍ إنعكس ذلك على جوّ الأسرة سلباً، ولذا نجد القرآن الكريم يعبّر عن الزواج بما يلي:﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ 6.
فالزواج أمنٌ وأمانٌ لكلٍّ من الزوجين، وهو محبةٌ ومودةٌ واحترامٌ متبادلٌ، مع ما ينبغي أن يكون عليه الزوجان من الحبّ والعطف والحنان على بعضهما البعض، فتحزن الزوجة لحزن زوجها وتفرح لفرحه، والزواج فرصةٌ للتعاون بين الزوجين وللتفاهم لخلق الأجواء المريحة لهما معاً حتى يتمكّنا من التّفاعل الإيجابيّ والإنفتاح على بعضهما البعض بالنّحو الذي يحقّق الأهداف الشّرعيّة والإجتماعيّة المرجوّة من الزواج.
ولذا نجد أنّ الإمام زين العابدين يؤكّد على حقّ الزوجة بالخصوص لأنّها هي التي تحتاج إلى العطف والحبّ والحنان والرعاية والإهتمام منه، وإذا فعل ذلك فالزوجة سوف تبادله بالمثل إن لم يكن أكثر، لأنّها سوف تشعر بقيمتها الذاتيّة وبدورها المهمّ في حياة الزوج، وكلّما كانت هذه المعاني متوفّرة بالكيفيّة المطلوبة كلّما كان التّعاطف والإحترام وتحقيق رغبات كلّ منهما للآخر موضع إهتمامٍ وتقديرٍ من دون تقصيرٍ أو إهمالٍ، وعندما يُظهر الرجل حبّه لزوجته ويبيّن لها عاطفته نحوها، كلّما ازدادت تعلّقاً به ورغبة، وعندما يصل الزوجان إلى هذه الحالة من الإنسجام العاطفيّ والرّوحيّ والإنسانيّ فإنّ المرأة سوف تعطي زوجها وأسرتها كلّ ما يمكنها أن تعطيه وأن تضحّي بكل ما يمكن لتحفظ زوجها وأسرتها.
وعندما تكون الزوجة على هذه الصورة الجميلة والحسنة، فإنّ على الزوج أن يحترمها ، وأن يكون خير معينٍ لها على القيام بالمطلوب منها فيقوم بإكرامها وتقديرها واحترامها ويوفّر لها كلّ الإمكانات التي تعينها في منزلها، وأن يفتح لها عقله وقلبه وأن يبرز لها حبّه وعاطفته وتمسّكه بها، وأن يتغاضى عن بعض الهفوات التي كثيراً ما تحصل فيما بين الزوجين، وأن لا يُحمِّل هذه الأمور الصّغيرة أكثر ما تحمل ويجعل منها مشكلة، لأنّه إذا تكرّر ذلك، فإنّ صورة الحياة الزوجيّة سوف تهتزّ وتتفكّك ممّا قد يؤدّي الى ما لا تُحمَد عُقباه لا سمح الله.
من هنا نقول إنّ إهتمام الزوج بزوجته وإشعارها بأنّها محبوبةٌ وبأنّها محترمةٌ وبأنّها محلّ تقديرٍ، فإنّ ذلك سوف يجعل الزوجة حاضرةً لأن تعطي كلّ ما تقدر عليه لتحافظ على زواجها ولتكون خير معينٍ للزوج في مسار حياته، لأنّ الزوجة الصّالحة تقدر على القيام بالكثير من الأمور التي تخفّف من أعباء الحياة ومسؤولياتها عن الزوج.
ثالثاً: “حقّ الأمّ”، وقد قال الإمام زين العابدين في رسالة الحقوق ما يلي: (فحقّ أمّك أن تعلم أنّها حملتك حيث لا يحمل أحدٌ أحداً، وأطعمتك من ثمرة قلبها ما لا يُطعِم أحدٌ أحداً، وأنّها وَقَتكَ بسمعها وبصرها، ويدها ورجلها،… فتشكرها على قدر ذلك، ولا تقدر عليه إلا بعون الله وتوفيقه)7.
حقّ الأمّ من أعظم الحقوق في الإسلام، لأنّها هي التي حملت ولدها في بطنها تسعة أشهرٍ ثمّ عانت مشقّات ومتاعب الحمل والولادة، ثمّ الرّضاعة والسّهر والعناية في التّربية والرعاية الصحيّة والنّفسيّة والروحيّة، هي التي تفيض على ولدها كل ما فيها من معاني الحبّ والعطف والحنان والرّحمة، ومهما حاول الإنسان أن يعطي أمّه حقّها فلن يقدر على ذلك مهما كان مطيعاً لها ومنفّذاً لما تريده، لأنّه يكفي أنّها من أسباب وجوده في هذه الحياة الدنيا، ولولاها لما أبصر النور ولما كان له وجود في هذا العالم.
ولذا عندما نرجع إلى النّصوص الشّرعيّة الواردة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام)، نجد أنّ الكثير منها يدلّ على أهميّة موقع الأمّ ورفعة منزلتها التي ينبغي على الأبناء تقديرها وإحترامها وإعطاءها ما تستحقّ من الرعاية والعناية.
وقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (أن رجلاً جاءه وهو يحمل أمه ويطوف بها حول الكعبة وسأله “هل أدَّيت حقها؟” قال (صلى الله عليه وآله وسلم): “لا.. ولا بزفرة واحدة”)8. وقد ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله:(الجنة تحت أقدام الأمهات)9، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (من أصبح ووالداه راضيان عنه فله بابان مفتوحان إلى الجنة)10، ومن أروع ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حق الأم قوله: (حق الوالد أن تطيعه ما عاش، وأما حق الوالدة فهيهات هيهات لو أنّه عدد “رمل عالج” و “قطر المطر” أيام الدنيا قام بين يديها ما عدل ذلك يومٌ حملته في بطنها)11.
من هنا كان حق الأم كبيراً جداً على أولادها، وكما اعتنت بهم ورعتهم عندما كانوا بحاجةٍ لذلك،فعلى الأولاد أن يردّوا بعض الجميل والمعروف لوالدتهم بعد أن يكبروا وتصبح بحاجةٍ إليهم، فعليهم أن يحوطوها بالرعاية والإهتمام والسّهر على راحتها وتأمين كلّ ما تحتاج إليه وفق القدرة المُتاحة لديهم، وهذه العناية من الأبناء بأمّهم إمّا أن تكون وفق الدّافع الفطريّ الموجود في عموم النّفس البشريّة، وإمّا للدّافع الشّرعيّ الذي يأمر الأبناء بالإهتمام بأمّهم عندما تكون بحاجةٍ لذلك.
وعندما لا يحترم الأبناء أمّهم فهم عند الله من “أهل العقوق” وقد ورد أن “العاقّ لأمّه” لا يدخل الجنّة كما في الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (ليعمل البّارّ ما شاء فلن يدخل النّار، وليعمل العاقّ ما شاء فلن يدخل الجنّة)12، ولذا ورد أنّ الولد الصّالح نعمةٌ من الله للأب وللأم خصوصاً كما في الحديث: (الولد الصالح ريحانة من رياحين الجنة)13 أو: (من سعادة الرجل الولد الصالح)14.
رابعاً: “حقّ الأب”، وقد ورد عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) في رسالة الحقوق: (وحق أبيك أن تعلم أنّه أصلك، وأنّه لولاه لم تكن، فمهما رأيت في نفسك ما يعجبك فاعلم أنّ أباك أصل النّعمة عليك فيه، فاحمد الله واشكره على قدر ذلك، ولا قوّة إلا بالله)15.
ممّا لا شك فيه أنّ الأب هو سبب وجود ولده في الدّنيا ولذا يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام له إلى ولده الإمام الحسن (عليه السلام): (وجدتك بعضي بل وجدتك كلي)16، وهذا تعبيرٌ أنّ الإبن هو نفس الأب وروحه، فيسعد الأب لسعادة ولده ويحزن لحزنه، وكذلك ينبغي أن يكون الولد البارّ بأبيه، لأن الإبن أوّل ما يتعرف على شيء في هذه الدنيا هو “أبواه”، وإظهار الإحترام والتقدير والإيثار، وأن يعمل بكل جهده لينال رضا والده وعطفه وحنانه،
ويمكن أن نتصوّر حقّ الأب على ولده في جملةٍ مهمّةٍ من الأمور التالية:
- حبّ الولد لأبيه: لأنّ الإبن أوّل ما يحبّ في هذه الدنيا والديه، والحبّ أمرٌ فطريٌّ مودَعٌ في الإنسان، والحبّ يكون كبيراً كلّما كانت العلاقة بين الشّخصين قريبة، فكيف اذا كان الحبّ هو موضع العلاقة بين الإبن وأبيه، فممّا لا شك فيه أنّ الحبّ يجب أن يكون أكبر من حبّ الإبن لأيّ شيءٍ آخرٍ في هذا العالم، والوالد عندما يشعر بحبّ إبنه الكبير له سوف يكون سعيداً جداً لأنّه يكون قدّ رأى ثمرة تعبه وسهره في سبيل ولده.
- شكر الولد لأبيه: وهذا الشكر يجب أن يظهر في تصرفات الولد تجاه أبيه من خلال إظهار الولد الرعاية والإهتمام بشؤون أبيه وتأمين كل ما يحتاج إليه مع القدرة على ذلك، وشكر الولد لأبيه هو شكرٌ لله أيضاً، وهذا ما يضفي على سهر الولد على راحة أبيه مسحةً من العبادة والطاعة لله سبحانه وتعالى، وليس هناك شيءٌ يجعل الأب سعيداً في هذا العالم أكثر من رؤية ولده يهتمّ به ويعتني بأموره، ويقوم بكلّ ما يجعل أباه راضياً عنه.
- طاعة الولد لأبيه: لأنّ طاعة الولد لأبيه هي عنوان الحب والإخلاص والوفاء، ولأنّ الإبن يدرك أنّ لولا أبوه لما كان له وجودٌ في الدنيا، فهذا السبب وحده كافٍ لكي يطيع الإبن أباه في كل ما يقدر إذا لم يكن فيه معصيةً لله عزّ وجلّ، وطاعة الأب هي التي تجعل الأب سعيداً و مرتاحاً.
من هنا نجد أنّ كلّ ما ذكرناه من حقّ الأبوين على ولدهما قد أوجزه الله عزّ وجلّ في قوله تعالى:﴿ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ 17.
من كل الحقوق التي ذكرنا يتّضح أنّ الأسرة عندما تلتزم بهذه الحقوق وتعمل وفق مقتضياتها ومستلزماتها وما ترتّبه من مسؤولياتٍ شرعيّةٍ وأخلاقيّةٍ وأدبيّةٍ وماليّةٍ، فإنّ هذه الأسرة تكون سعيدةً ومتضامنةً، ويسهر كلّ فردٍ منها على راحة الآخرين، ويعطي كلّ فردٍ ما أمكنه من جهدٍ ونشاطٍ لتبقى الأسرة موحّدةً وقويّةً ومتماسكةً.
والإسلام من خلال هذه الحقوق التي ذكرنا يسعى إلى بناء الأسرة القويّة والمؤمنة والتي تكون عاملاً مُساعداً في بناء المجتمع الصّالح المؤمن الذي يريد الله من النّاس الوصول إليه ليعيش الجميع بأمنٍ و سلامٍ وتعاونٍ يعود على كلّ فردٍ وكلّ أسرةٍ وكلّ مجموعةٍ بالخير والنّفع و الفائدة، ومثل هذا المجتمع إذا تحقّق قادرٌ على تجاوز الصّعاب وتحمّل المشاقّ، والوقوف في مواجهة الفساد والإنحراف والضّياع، ولا يمكن لأيّة قوةٍ في العالم أن تتسلّط عليه لتسلبه أمنه وهدوءه وسلامه.
وفي الختام نسأل الله عزّ وجل أن يجعلنا من السّاعين والعاملين في سبيل الوصول إلى الأسرة النّموذجية التي يريد الإسلام منّا أن نحقّقها لأن مثل هذه الأسرة هي المصداق الحقيقي لمعنى الخلافة الإلهيّة في أرضه.
والحمد لله رب العالمين18.
- 1. شرح رسالة الحقوق للقبانجي/ ص 581.
- 2. القران الكريم: سورة الكهف (18)، الآية: 46، الصفحة: 299.
- 3. شرح رسالة الحقوق للقبانجي/ ص 582.
- 4. ميزان الحكمة / ج 4 /ص 3679 عن كنز العمال.
- 5. شرح رسالة الحقوق للقبانجي/ ص 517.
- 6. القران الكريم: سورة الروم (30)، الآية: 21، الصفحة: 406.
- 7. تحف العقول / ص 263.
- 8. الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل / ج8 / ص 454.
- 9. جامع أحاديث الشيعة / ج21 / ح 22.
- 10. شرح السير الكبير للسرخسي / ج 1 / ص 182.
- 11. مستدرك الوسائل / ج 15 / ص 182 / ح 8 عن عوالي الآلي.
- 12. كنز العمال / ج 16 / ص 476 / ح 45528.
- 13. الكافي / ج6 / ص3 / ح10.
- 14. المصدر السابق / ح 6.
- 15. شرح رسالة الحقوق للقبانجي/ ص 561.
- 16. مناقب آل أبي طالب / ج 3/ ص 199.
- 17. القران الكريم: سورة الإسراء (17)، الآية: 23 و 24، الصفحة: 284.
- 18. نقلا عن موقع سبل السلام لسماحة الشيخ محمد التوفيق المقداد (حفظه الله).