ليس من السهل تحديد مفهوم ثابت للتراث فهو متعلق بمفاهيم الخصوصية الانسانية المعنوية أو الروحانية المتضامنة والمتفاعلة مع الوظيفة.. التي يمتلك العمران الحضاري من خلال نتائجها واحاسيسها ابعاداً متكاملة ويكتسب في نفس الوقت خاصية العائدية الحضارية.. فالتراث هو ما ينتقل من عادات وتقاليد وعلوم وآداب وفنون ونحوها من جيل إلى جيل، حيث نقول التراث الإنساني التراث الأدبي، التراث الشعبي.. وهو مصطلح شامل لكل الفنون والمأثورات الشعبية من شعر وغناء وموسيقى ومعتقدات شّعبية وقصص وحكايات وأمثال تجري على ألسنة العامة من الناس، وايضاً العادات والتقاليد والمناسبات المختلفة وما تتضمنه من طرق موروثة في الأداء والأشكال ومن ألوان الفنون والألعاب والمهارات.
مصطلح التراث مشتق في الاصل من الورث او الميراث، حيث ورد في بعض المعاجم القديمة كمرادف للإرث و الميراث وهي الفاظ تطلق كاسم لما يرثه الانسان من والديه من مال أو غيره.. وقد جاء هذا اللفظ في القرآن الكريم في الآية المباركة (( وتأكلون التراث اكلاً لماً )) أي بمعنى الميراث.. كما فرق اللغويون بين مصطلحي الورث والميراث والارث على اساس الورث والميراث خاصان بالاموال اما الارث فهو خاص بالحسب.. ومن مجموع هذه الالفاظ اشتقت كلمة التراث ووظفت لتكون بمعنى الموروث الثقافي او الاجتماعي او الفكري في الخطاب الثقافي المعاصر.. وهناك تداخل واضح بين مصطلح التراث ومصطلحات أخرى أهمها الفولكلور، الذي هو مصطلح غربي ( Folklore)يعني التراث الشعبي، وكل ما يندرج تحت باب التراث من الفنون الشعبية المختلفة، والكلمة مكونة من شقين Folk وتعني قوم أو شعب، وLore وتعني التراث والمعتقدات التقليدية وبمجملها تكون تحت مظلة التراث الشعبي لشعب ما.
ان دوافع الاهتمام بالتراث ينبع من كونه يمثل رسالة حضارية من خلالها نقرأ سير الامم بأركانها الأربعة : فكرها … وقيمها .. وسلوكياتها .. ونتاجاتها . فالفكر والقيم والسلوكيات هي في الغالب ادراكات محسوسة غير ملموسة وتبقى عرضة للتلويث والتزيين والتشويه ، إذ تفقد حقيقتها ونقاوتها مع مرور الزمن ، فيصبح ادراكها ضبابياً مشوهاً والركن الوحيد الذي يمكنه الصمود عبر الزمن امام محاولات التشويه هو النتاجات المادية ، والعمارة من بينها ، فالعمارة اذا هي أصدق الروايات وانقاها تحكي لنا من تعابير ثناياها ، وملامح ظواهرها حقيقة الحياة وخلاصة فعل الحضارات فهي الوعاء الذي تتفاعل فيه اركان الحضارات كلها : الفكر .. القيم … والسلوكيات ، فهي- العمارة- تمثل مرآة نقية تستخلص منها عصارة التاريخ كي تبني عليها دعامات المستقبل .
اما ضرورة التراث فتكمن في مفهومه الذي يعني مجمل ما خلفته حضارات الأجيال السابقة الى المجتمع المعاصر ويعني هذا ، ان التراث لا يقتصر على اللغة والأدب فقط ، كما يعتقد الكثيرون، بل يشتمل على جميع الأبعاد الحضارية ، ومن ناحية أخرى فان حتمية ارتباط الحاضر بالقديم هي حتمية تكاد تكون مطلقة وموضوعية تعني بأن التراث الحضاري لامة ما يؤدي دوراً اساسياً في تطور مجتمعها نحو المستقبل ، إذ يؤثر فيه ويتفاعل معه محفزاً اياه الى التجديد والابداع والابتكار ، ذلك لأن التحسس والتأثير بالتراث القومي لا يعني الاستنساخ للماضي والرضوخ المطلق لتقاليده ، بل الاستلهام منه وتجديده بمضمون معاصر .
التراث هو عطاء قومي حضاري متزايد والذي يتجهز به الإنسان في مجتمع من المجتمعات لخوض غمار المستقبل، وهو دائم ومتنامي ولا يرتبط بمرحلة واحدة من مراحل التاريخ …وإنما ينتمي إلى جميع مراحل الإنسان بدا من فجر وجوده، وبهذا فهو يشكل روح الحضارة والتاريخ.. وهو يمثل الذاكرة الحية للفرد والمجتمع وبالتالي يمثل هوية لذلك المجتمع، ولو دققنا في التراث لوجدنا انه هو بعينه المفهوم الاجتماعي للنظم الثقافية والأعراف الاجتماعية المتناقلة من جيل إلى أخر والتي أخذت موقعها في المجتمع وأصبحت جزء من كيانه.. وهوحسب ميثاق أثينا العالمي 1933، هو جميع الممتلكات المنقولة أو الثابتة ذات الأهمية الكبرى لتراث الشعوب.. الثقافي منها كالمباني المعمارية أو الفنية أو التاريخية والديني أو المدني، فضلاً عن الأماكن الأثرية والتحف الفنية والمخطوطات والكتب والأشياء الأخرى ذات القيمة الفنية والتاريخية أو الأثرية، ويعد التراث العربي والعراقي على وجه الخصوص نشاط إنساني عميق الجذور غني في كيفيته وكميته .. فالتراث كما ذكرنا يعد الهوية الثقافية والحضارية لأي مجتمع، وان أي مجتمع مدني يعتمد على جانبين في مسيرة تطوره.. هما الجانب الروحي الثقافي (التراث) والجانب الاقتصادي (المادي)، ويتوجب المحافظة على الاتزان بين هذين الجانبين لضمان تطور المجتمع ،فالتراث الحضاري هو الأساس الذي تكمن عناصره ومؤهلاته في كيان المجتمع وله ارتباط وثيق بالإبداع والأصالة وهذه النظرة موضوعية وشاملة بالتأكيد.. فبدون الربط الجدلي بين التراث والمعاصرة يفقد المجتمع عناصره المؤهلة للإبداع بفقده السياق العقلاني والمنطقي للتاريخ، فالتعامل الواعي مع الإبداع الحضاري القديم بالروح المعاصرة، يعد بحد ذاته تواصل زماني عقلاني.. غايته تفعيل الروح الحضارية من اجل تحديد مفاهيم المعاصرة، فالتراث يؤهل المجتمع المعاصر في التطلع للمستقبل عن طريق قيم الموروث تفترض استبصارا موضوعيا عبر الدراسات الانثروبولوجية للمجتمع .
ومن هذا المنطلق تكون الحاجة الى التراث وضرورات الحفاظ عليه هي مطلب مشروع لجميع ابناء الامم الاصيلة، فهو محاولة للحفاظ على حضارة الأمة العريقة لتكون الدعم والاساس لما يبني عليه ابناءها وبذلك يسير البناء الفعال للمجتمع من جيل لآخر، فهو وسيلة لانعاش المجتمعات فكرياً وثقافياً وفنياً، كونه يعرض للأمم الاخرى الجذور القوية أو الماضي السائد في تلك الأمم قبل ان يكون وسيلة لجلب المدخرات الاقتصادية للشعوب عن طريق السياحة الخارجية، لذلك نرى كثيراً من دول العالم وعن طريق اليونسكو تقدم العون المادي والعلمي لإنقاذ التراث، وعلى الرغم من اختلاف الدوافع وأهميتها التي تدعونا للاهتمام بالتراث الا ان تأثرنا به وتعاملنا معه يجب ان يدفعنا الى الأمام حتى نجعل من تراث الاقدمين مادة حية متجددة تعبر عن عمق حضارتنا وفي نفس الوقت عن مدى تقدمنا الثقافي والفكري.
*الصورة لأطلال قصر بني مقاتل.. وهو من المنازل التي نزل بها الإمام الحسين بن علي عليهما السلام وهو في طريقه إلى كربلاء قبل استشهاده في معركة الطف.
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة