كانت النهضة الحسينية وعلى رأسها دماء الإمام الحسين (عليه السلام) المسفوحة على أرض الكرب والبلاء، وما صاحبها من جرائم يندى لها الجبين وسبي نساء أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إيذاناً بمرحلةٍ جديدة من حياة الأمة الإسلامية وتاريخها، فقد أيقظت تلك النهضة المباركة النفوس وأحيت العقول الغافلة وكشفت لهم عن زيف الذي يحكمهم باسم الإسلام زوراً وبهتاناً، وأسقطت عنه كلّ شرعية لحكمه ونظامه الجائر والظالم، وأنّ الجالس على ذلك المقعد الشريف لا يليق به ولا هو أهلٌ له.
ومنذ كربلاء أخذت الأحداث مساراً مختلفاً عمّا كان يخطّط له بنو أمية، وبدأت بذور الثورات بالتكوُّن والبروز من الرافضين للحكم الظالم، وكانت أول ثورة بدأت بالظهور شيئاً فشيئاً هي الثورة التي قادها “الصحابي سليمان بن صرد الخزاعي” مع مجموعة من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) الذين أرادوا التكفير عن عدم نصرة الإمام الحسين (عليه السلام) بعدما بايعوه بالإمامة والخلافة، وكان الهدف من ثورتهم هو قتلُ من قتل الإمام الحسين (عليه السلام)، أو أن يموتوا في سبيل الوصول إلى ذلك الهدف ليكونوا شهداء من جهة، وحافزاً لآخرين من المتردّدين في الثورة على الحكم الأموي الجائر.
وكان الإعداد للثورة قد بدأ بعد استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) بوقتٍ قصير، إلّا أنّ ضغط الحكم الأموي من خلال ولاته على الأمصار الإسلامية وعلى الكوفة خصوصاً جعل مهمة تجهيز الثورة بطيئاً جداً، بحيث أخذت المسألة وقتاً طويلاً استمر إلى ما بعد موت يزيد بن معاوية بقليل، ويقول أبو مخنف كما ينقل عنه تاريخ الطبري: (كان أول من ابتدعوا به من أمرهم سنة إحدى وستين، وهي السنة التي قُتِل فيها الحسين (عليه السلام)، فلم يزل القوم في جمع آلة الحرب والاستعداد للقتال، ودعاء الناس في السر من الشيعة وغيرها إلى الطلب بدم الحسين (عليه السلام) فكان يجيبهم القوم بعد القوم، والنفر بعد النفر).
وهذا النص إن دلّ على شيء فيدلّ على قسوة الأوضاع التي فرضها حكام بني أمية على الناس خصوصاً من شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وظلّ الإعداد للثورة متواصلاً حتى هلك يزيد وأماته الله سنة أربع وستين، وأحدث موته بلبلة بين الأمويين، ممّا سمح لأركان الثورة بأن يبادروا إلى المسارعة فيها، وجاء أصحاب سليمان وقالوا له: (قد مات هذا الطاغية، والأمر الآن ضعيف، فإن شئت وتبنا على عمرو بن حارث فأخرجناه من القصر “قصر الأمارة في الكوفة” ثمّ أظهرنا الطلب بدم الحسين (عليه السلام)، وتتبّعنا قتلته، ودعونا الناس إلى أهل هذا البيت المستأثر عليهم، المدفوعين عن حقهم).
إلّا أنّ سليمان لم يستجب لطلبهم لعلمه بعدم إمكان تحقيق ذلك لأنّ من شارك في قتل الإمام الحسين (عليه السلام) كان معظمهم من أشراف أهل الكوفة وسادتها، وهؤلاء لهم أتباع وعشائر وستهب للدفاع عنهم، وسينشأ عن ذلك فتنة لا يستفيد منها إلّا بني أمية أنفسهم.
وكان من أمر سليمان أيضاً أن مضى إلى قبر الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء وهناك نادى هو وأصحابه صيحة واحدة: (يا ربِّ إنَّا قد خذلنا ابن بنت نبينا، فاغفر لنا ما مضى منّا، وتب علينا إنّك أنت التواب الرحيم، وارحم حسيناً وأصحابه الشهداء الصدِّيقين، وإنَّا نُشهدك يا رب أنَّا على مثل ما قُتلُوا عليه، فإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين)، وأقاموا عند قبره يوماً وليلة وهم يصلّون عليه ويبكون ويتضرّعون، فما انفكَّ ذلك اليوم من الناس يترحمون على الحسين وأصحابه، حتى صلّوا الغداة من الغد عند قبره، وزادهم ذلك شوقاً، ثمّ ركبوا، فأمر سليمان بالمسير، فجعل الرجل لا يمضي حتى يأتي قبر الإمام الحسين (عليه السلام) فيقوم عليه، فيترحم عليه ويستغفر له، قال: فوالله لرأيتهم ازدحموا على قبره أكثر من ازدحام الناس على الحجر الأسود).
وهكذا تجهّز سليمان بن صرد ومن معه من القادة والجند للقتال والاستشهاد في سبيل الله تكفيراً عن عدم نصرتهم للإمام الحسين (عليه السلام)، وساروا نحو مقصدهم الرئيس والتقى الثائرون مع جيشٍ أرسله عبيد الله بن زياد في منطقة تسمى بـ”عين الوردة”، وهناك ألقى سليمان خطبته الأخيرة، وكان ممّا قال فيها: (… أمّا بعد، فقد أتاكم الله بعدوّكم الذي رأيتم في المسير إليه آناء الليل والنهار، تريدون فيما تُظهرونه التوبة النصوح، ولقاء الله معذرين…).
وهناك كانت المعركة التي دارت رحاها والتي دامت ثلاثة أيام إلى أن قُتِلَ سليمان وكلّ من كان معه وكان تعداد جيشهم قرابة أربعة آلاف ثائر استشهدوا جميعاً فداءً وتوبة إلى الله لخذلانهم عن نصرة الحسين (عليه السلام).
وهكذا كانت نهاية ثورة التوابين، إلّا أنّها كانت الحركة الأولى التي تبعتها ثورات أخرى كثيرة كثورة المختار بن زياد الثقفي، وثورة زيد بن علي بن الحسين وثورة ابنه يحيى بن زيد، إلى أن تمكّن العباسيون وبشعار “يا لثارات الحسين (عليه السلام)” الذي كان قد أطلقه سليمان بن صرد بثورته من الإنتصار على الأمويين وإرسال حكمهم إلى مزابل التاريخ كمثلٍ سيء للحكم الظالم والغاشم والمستبد. والحمد لله ربّ العالمين1.
- 1. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ محمد توفيق المقداد حفظه الله.