يمثل الدعاء الابراهيمي محورا مهما من الدعاء القرآني عموما لما يحتويه من المضامين العالية التي تكرّس جملة من المبادئ المهمة على مستوى الفرد والمجتمع والتنظيم والبناء واتخاذ الخطوات الناجحة اللازمة لذلك .
فقد استجاب العبد لربه الذي اختاره لهذه المهمة بعد ان انطلق العهد الالهي اليهما, فكانت الاستجابة بعدة خطوات من طلب الامن بقوله تعالى: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (البقرة-126) لأعظم بيت في الوجود كيف لا وينتسب الى الاعظم مطلقا .
واليوم سنتناول المقطع الثاني من الدعاء الابراهيمي بعد صدور العهد بالتطهير من الباري تعالى وهو: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (البقرة-127) .
وبقدر تعلّق الامر بهذا الدعاء أي: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} (البقرة-127) يكون تقسيم البحث فيه على محورين وكالآتي:
المحور الاول: وهو متعلّق بتحصيل التّسديد الالهيّ ورضا الله وتوفيقه في كل مورد عن طريق جعل كل عمل خالص لوجهه، وتفصيل ذلك:
لما كان الانسان لا يملك لنفسه حولا ولا قوة ولما كان محتاجا في شؤونه كافة إلى من يرعاه ويقف بجانبه ويصحح له الاخطاء جاءت الضرورة الالهية باقامة المرشد الانساني الذي يمثل حلقة الوصل بين الباري تعالى وخلقه, ومن ابرز مصاديق هذه الواسطة هم الانبياء الذين بُعثوا للتعليم والارشاد والهداية، ولو تأملنا الدعاء نجد أن ابراهيم واسماعيل(عليهما السلام) يخاطبون ربهم برسالة مفادها (تقبل منا), فهم يدعون الخالق بذلك لأن أي عمل لا قيمة له ويكون هباءً إذا لم يتقبله الله ولم نحصل على النتيجة الناجحة في تصحيح الباري لأعمالنا ، فالمؤمن لا يريد ان يتقبل الله العمل فقط وانما لا يعمل عملا الا بما يأمره به ففرق بين من يعمل الخير لأجل انه عمل صالح ويريد من الله أن يتقبله وبين من يعمل الخير لأجل أن الله أمره به ويريد أن يتقبله منه، فتقبل منا تعني أننا نعمل بتطهير البيت لأجل عهدك الينا ونريد أن تتقبل طاعة الأمر والعهد .
ومن الملاحظ كذلك أن إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) يستشعران في مشهد رائع الباري تعالى وقربه منهم فهو أقرب من أحدهما للآخر بل من أحدهما لنفسه, لذلك جاءت عبارة تقبل منا أي نحن ندعوك في حالة العمل برفع قواعد البيت لأنك تشاهدنا وتسمعنا ولا نغيب عنك برهة أبدا فتقبل منا تعني احساسنا بك وانت تراقبنا وتنظر إلينا .
ونلاحظ أيضا أن إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) كانا في اتصال دائم لا ينقطع في مراحل عملهم كلها من رفع البيت وقواعده بل في كل حياتهم مع الباري تعالى فتقبل منا تعني الاتصال اللانهائي باللامحدود .
ونلاحظ ايضا أن إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) كانا يعلمان جيدا أن ما يفعلانه لم يكن تمردا وعصيانا وسهوا وغفلة عن الباري تعالى ولو في صغيرة أو جزئية من عملهما لأن هذه الصفات لا يناسبها الدعاء منهما بالقبول منه جل وعلا , فتقبل منا تعني الاعتقاد التام والجازم بمشروعية ما يعملانه .
وعلينا نحن كذلك أن نجعل ذلك نصب أعيننا في أي مشروع ومبادرة وعمل صغيرا كان او كبيرا , استثماريا وربحيا كان ام تكافلا اجتماعيا , سكنيا كان ام تجاريا ام ترفيهيا ، من واجبنا وتكليفنا كان العمل ام خارجا عنه ، وان نراقب الله في السر والعلن كما فعل إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام), ونبتغي من اعمالنا رضا الباري تعالى كما فعل ابراهيم وإسماعيل (عليهما السلام), وألا نغفل أو نسهو عنه بل نكون في اتصال دائم مع الباري تعالى كما فعل ابراهيم واسماعيل (عليهما السلام), وألا نخوض في أي عمل مهما كان إلّا بعد الفحص والتّأني والاعتقاد الجازم بمشروعيته واذا اتضح لنا العدم نتركه حالا ونستغفر عما سلف من سهونا او خطئنا فتقبل منا تعني ان نكون مع الله والى الله جل وعلا .
أما المحور الثاني: فقد كان من المؤمل التعرض فيه لشروط قبول الاعمال ولكن تبادر للذهن جعل القارئ الكريم يفكر ويبحث عن قبول شروط اعماله من قراءة وكتابة وافعال جسدية وروحية وأفكار ومعتقدات وجلوس وقيام ونوم وسكوت وتكلم وسكون وحركة وصعود ونزول وسفر وحضر وتعامل مع الناس وفي داخل الاسرة وربح وخسارة و…
فما هي يا اعزائي القرّاء شروط قبول هذه الاعمال وغيرها عند الله تعالى ؟
السيد علي الموسوي