مقالات

تصحيح الحديث في مدرسة الخلفاء برغم ضعف سنده

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

بقلم: زكريَّا بركات

من المهمِّ أن يعرف طالبُ العلم أنَّ كثيراً من علماء المسلمين، على اختلاف طوائفهم، لا يجعلون صحَّة السند هي المعيار الوحيد للحكم بصحَّة الحديث، بل ربما حكموا بالصحَّة برغم ضعف السند عندهم.. وبغضِّ النظر عن صحَّة ذلك من حيث المبنى والأساس العلمي، فإنَّ معرفة أمثلة ذلك قد تفيد في مجال الحوارات التي تجري بين مختلف الطوائف.

ومن أمثلة ذلك في مدرسة الخلفاء: الحديث المرويُّ عندهم عن معاذ بن جبل أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم حِينَ بَعَثَهُ إِلَى ‌الْيَمَنِ، فَقَالَ: “كَيْفَ تَصْنَعُ إِنْ عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟” قَالَ: أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللهِ. قَالَ: “فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللهِ؟” قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه [وآله] وسلم. قَالَ: “فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه [وآله] وسلم؟” قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، لَا آلُو. إلخ الحديث.

فهذا الحديث ضعيف الإسناد عندهم، ومع ذلك قال الخطيب البغدادي (ت 463 هـ) في “الفقيه والمتفقِّه” ج1 ص471 : “أنَّ أهل العلم قد تقبَّلوه واحتجُّوا به، فوقفنا بذلك على صحَّته عندهم كما وقفنا على صحَّة قول رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم: “لا وصية لوارث”، وقوله في البحر: “هو الطهور ماؤه، الحلُّ مَيتتُه”، وقوله: “إذا اختلف المتبايعان في الثمن والسلعةُ قائمةٌ، تحالفا وترادَّا البيع”، وقوله: “الدِّية على العاقلة”، وإن كانت هذه الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد، لكن لما تلقَّتها الكافَّة عن الكافَّة غَنُوا بصحَّتها عندهم عن طلب الإسناد لها، فكذلك حديث ‌معاذ لمَّا احتجُّوا به جميعاً غَنُوا عن طلب الإسناد له”. انتهى.

أقول:
ينبغي ـ هنا ـ أن يقف طالب العلم وصاحب البصيرة عند نقاط مُهمَّة:

1 ـ صحيحٌ أنَّ الاحتجاج بحديث من قبل عالم معيَّن يدلُّ على أنَّه صحيح عنده، ولكن ما الموجب للحكم بصحَّته عند الباحث البصير والفقيه الخبير؟ وهل هناك تلازم بين صحَّته في نظر فقيه سابق وصحَّته في نظر فقيه لاحق؟!

2 ـ إنَّ تصحيح الحديث (الضعيف سنداً) عند اللاحق بناءً على تصحيحه عند السابق، ليس إلَّا مصداقاً للتقليد؛ وهو ـ إن كان سائغاً للعامِّي غير البالغ رتبة الاجتهاد والنظر ـ فما المسوِّغ له عند الفقيه المجتهد؟!

3 ـ نظراً إلى أنَّ تصحيح الحديث (الضعيف سنداً) صدر من غير المعصوم، فإنَّه قد يكون نابعاً من اجتهاد ظنٍّي غير مستوفٍ لشروط الحجِّية، فلا يمثِّل تصحيحُ الفقيه السابق سوى منشأٍ ظنٍّي لم يقم الدليلُ على حُجِّيته بالنِّسبة للفقيه اللاحق، فلا موجب للتمسُّك به والاعتماد عليه.

4 ـ إنَّ (تلقِّي الكافَّة عن الكافَّة) عنوان برَّاق خطابيًّا، لأنه يشبه عنوان الإجماع المورث للاطمئنان عند الكثيرين، وعند الميالين للانسياق وراء ما تختاره الأغلبية، ولكنه فاقد للقيمة بعد التدقيق علميًّا؛ فإنَّ عنوان (الكافَّة) إنما هو أمر نسبي بلحاظ دائرة طائفة معيَّنة ذات نطاق محدود وضيِّق، وهذا النطاق المحدود يحتمل جدًّا أن يتلقَّى فيه اللاحقون حكم القبول والصحة تقليداً واتِّباعاً وتأثُّراً بما حكم به السابقون؛ وذلك لما للسابقين من تبجيل وهالة احترام في نظر اللاحقين، إضافة إلى ما قد يتصف به اللاحقون من ضعف علمي وميل إلى تصحيح ما اختاره السابقون.

5 ـ لو غضضنا الطرف عن الإشكاليَّات المذكورة آنفاً، وفرضنا وجودَ تلازمٍ بين التصحيح والصحَّة، وفرضنا حُجِّيَّةَ استناد اللَّاحق إلى حكم السابق، فإنَّ هذا يلزم أن يُقيَّد في نطاق المسائل الفروعية والمرتبطة بالفقه وما شاكلها، من غير تعديةٍ إلى مجال المسائل العقديَّة؛ لأنَّ النصَّ الدينيَّ ـ في مجال العقيدة ـ هو المستَنَد للحكم بحقَّانية الطائفة، ولا يصحُّ العكس بالقول بأنَّ تصحيح الطائفة هو الدليل على صحَّة النصِّ؛ فيلزم أن يصحَّ النصُّ الديني وفقَ أُسسٍ عقليَّة وعقلائيَّة، كأن يكون متواتراً مثلاً.

والحمدُ لله ربِّ العالمين.

https://chat.whatsapp.com/FBadxXLwsrl8soEwFPWSKb

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى