البحث في هذا السؤال يحتاج إلى معرفة السياق الموضوعي والزمني، الذي اتصل به الخطاب الإسلامي، وأثر على اتجاهاته وتكويناته، وعلى هذه الحالات والوضعيات التي وصل إليها. إلى جانب عوامل وأسباب أخرى قد تتصل أو تنفصل عن ذلك السياق. فما هو هذا السياق الموضوعي، وما هي الأسباب المعرفية والمنهجية التي أعاقت أو أخرت أو جمدت عملية التجديد في الخطاب الإسلامي؟
أولاً: القطيعة بين الفكر الإسلامي في مرحلتيه الحديثة والمعاصرة، الحديثة التي تنسب إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، مع انبعاث حركة الإصلاح الإسلامي بزعامة السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده. والمعاصرة التي تنسب إلى النصف الثاني من القرن العشرين وتمثلت في مجموع الكتابات الإسلامية الصادرة والمؤثرة في تلك الفترة. والذي كشف عن هذه القطيعة المفارقات الكبيرة التي تظهر بين تلك المرحلتين. فقد أظهرت المقارنات بينهما بأن الفكر الإسلامي في مرحلته الحديثة كان على درجة من التميز والتقدم، يفوق ما كان عليه في مرحلته المعاصرة.
وكثيرة هي الكتابات التي بالغت في وصف تلك المرحلة الحديثة، بأوصاف التجديد والتحديث والإصلاح والتقدم لتأكيد تميز تلك المرحلة وتقدمها. والقطيعة التي حصلت جعلت من الفكر الإسلامي المعاصرة لا يبني تصوراته وأفكاره بالاستفادة من التراكمات الفكرية والثقافية القادمة من تلك المرحلة الحديثة، لكي يواصل أو ينجز عملية التجديد.
ثانياً: إن ظهور الدولة العربية الحديثة ساهم في تراجع وركود الفكر الإسلامي، وذلك حين قطعت هذه الدولة صلتها الثقافية والمعنوية والمرجعية بالإسلام والمنظومة الإسلامية، وارتبطت في المقابل بمرجعية الفكر الأوروبي الذي أخذت منها كل ما يرتبط بتكوين الدولة، وتشكيل مؤسساتها، وصياغة أنظمتها وقوانينها وتشريعاتها. لأنها أرادت أن تكون على صورة الدولة الأوروبية الحديثة، ولكي تكتسب وصف الدولة العصرية، أو المغايرة لصورة دولة الولايات السلطانية التابعة للخلافة العثمانية.
لهذا فقد عملت هذه الدولة العربية الحديثة على إهمال كل ما يرتبط بالثقافة الإسلامية من مؤسسات ومعاهد وجامعات وأوقاف، وضيقت عليها إلى أن تحولت إلى مجرد آثار وذكريات تاريخية، كما هو حال جامعة القرويين في المغرب التي كانت من أقدم جامعات العالم، وجامعة الزيتونة في تونس وغيرها.. وذلك على خلفية أن هذه المؤسسات إنما تنتمي إلى عصور التأخر والجمود، وأنها باتت قديمة وتقليدية، ولا تنسجم أو تتناغم مع مقتضيات ومتطلبات الدولة الحديثة، وكان البديل عنها هو الجامعات الحديثة، والتي نشأت بدورها أيضاً على أساس القطيعة مع منظومة الثقافة الإسلامية، والارتباط الكلي بمنظومة الثقافة الأوروبية باعتبارها تمثل مصدر التعليم الحديث والمعارف الحديثة.
ثالثاً: ما أصاب المؤسسة الدينية في العالم الإسلامي من أزمة في علاقتها بالعصر والمعارف الحديثة، حيث انغلقت على نفسها، وانشغلت بالعلوم القديمة والتقليدية، وقطعت جسور التواصل مع مجتمعاتها، وذلك على خلفية حماية كيانها من الغزو الفكري، والاختراق القيمي، والتحصن من أي تأثر بالثقافة الأوروبية.
وهذا كان حال هذه المؤسسة مع بداية القرن العشرين، وتكرس هذا الوضع بصورة أشد بعد قيام الدولة العربية الحديثة. فهذا الوضع الذي كانت عليه المؤسسة الدينية لم يكن يدفع باتجاه تجديد الخطاب الإسلامي، بل كان يعارض ويصادم من يتبنى مثل هذه النزعات الإصلاحية والتجديدية، ولسنا بحاجة إلى جمع الأدلة والبراهين على ذلك لشدة وضوح هذا الأمر. كما أن كتابات الإسلاميين ورجال الدين منهم في هذا الشأن أصبحت كثيرة ومعروفة، وعلى المستويين السني والشيعي. وهذا يعني أن تجديد الخطاب الإسلامي يتطلب تجديداً وإصلاحاً في واقع هذه المؤسسات الدينية.
رابعاً: انقطاع المثقفين والنخب الفكرية في العالم العربي والإسلامي عن الثقافة الإسلامية، ففي الوقت الذي اندفع فيه هؤلاء نحو الأفكار والمعارف الحديثة، وتمكنوا منها معرفياً ومنهجياً، والتي كانت ترجع في مصادرها إلى مرجعيات الفكر الأوروبي، ويقابل هذا الاندفاع انقطاع عن الأفكار والمعارف الإسلامية، وهذا هو منشأ الخلل والضعف. وهذه القطيعة أو الانقطاع أثرت على طبيعة تكوين رؤية هؤلاء للثقافة الإسلامية وطرائق التعامل معها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن الثقافة الإسلامية كانت بأمس الحاجة إلى خبرة هؤلاء المعرفية والمنهجية الأمر الذي لم يحصل.
خامساً: سلطة التراث وغلبة التقليد. وسلطة التراث قد تمثلت في جهتين، في جهة قوة حضوره وشدّة هيمنته على الأفكار والمعارف الإسلامية، وفي جهة صعوبة التعامل معه، أو الخروج عليه، حيث اكتسب رهبة وهيبة كهيبة السلطة ورهبتها. وهناك العديد من المقولات التي كانت شائعة ومتداولة في مجال الدراسات الإسلامية وتكشف كيف أن التراث اكتسب سلطة، ومن هذه المقولات، مقولة (ليس بالامكان أبدع مما كان) أو (ما ترك السابق اللاحق شيئاً)1.
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الأربعاء / 23 مارس 2005م، العدد 14088.