الصلاة البتراء
من أجل توثيق أي قضية وتحديد تاريخ بدايتها فأننا نحتاج الى نصوص تاريخية وإذا لم توجد تلك النصوص فيمكن الاعتماد على المعطيات التحليلية والقرائن الإثباتية التي يمكن انتزاعها من خصوصيات تلك القضية وظروفها.
ونحن في إثباتنا لبداية ظهور الصلاة البتراء سنعتمد كلا الأمرين فأما المعطيات التحليلية والقرائن فتتمثل في النقاط التالية:
1 ـ إنّ الصلاة على الآل منقبة سامية ومقام عظيم اختصّ به آل البيت(عليهم السلام)، وقد تميزت هذه المنقبة ببعد عملي حوّلها من مجرد منقبة الى عقيدة متحركة تمثل ذلك بكونها عبادة يمارسها المسلم يومياً فعزّز ذلك موقعها ودورها في تأصيل العلاقة بين المسلم وأهل البيت(عليهم السلام) وتوجيه نظره نحوهم، وفي إذكاء شعور في نفوس المسلمين بأنّ لهؤلاء الذين يصلي عليهم شأن ومقام خاص يجب رعايته والوقوف على حقيقته.
2 ـ إنّ المسلم بما يحمله من مرتكزات ومسلّمات في التعاطي مع الشريعة، حريص كلّ الحرص على الالتزام بالسنّة كما هي، وحريص أيضاً على مودّة الآل، وتكريمهم وتعظيمهم كما أمره الله تعالى بذلك، وهو يعلم أن من أوضح مصاديق المودّة هي الصلاة عليهم مع النبيّ صلّى الله عليه وآله فلماذا إذن انتشرت بينهم الصلاة البتراء الخالية من الآل، وحصروا ذكر الآل، والعمل بالصلاة التامة في التشهد الثاني فقط، بل وصل الحال ببعضهم الى القول بكراهة ذكرهم عند الصلاة على النبيّ في التشهد الأوّل! فخالفوا بذلك الثابت من السنّة، والمأمور به من مودّة الآل، وهم لا يريدون ذلك حتماً، لحرصهم ـ كما قلنا ـ على الالتزام بالسنّة بحكم
المتبادر من فلسفة التعبد، والطاعة والسعي لتحصيل الأجر، وأن كل ذلك مرتبط بالتقيّد بالمأمور به وإلاّ لا يكون تعبداً وطاعة.
وعليه فمن غير المتصور أبداً أن يكون المسلم قد تحول من العمل بالصلاة التامة الى البتراء حتى انتشر ذلك بينهم ـ بشكل تلقائي وعفوي إنّما لابدّ أن تكون هناك جهة ما لها مصلحة كبيرة في هذا التحول هي التي حملتهم عليه بالترغيب كان ذلك أم بالترهيب.
3 ـ لو بحثنا في علاقة بني أمية مع أهل البيت(عليهم السلام) لوجدناها وباعتراف المؤرخين والمحققين ـ حتى أصبح ذلك من المسلّمات التاريخية ـ أنّهم كانوا يعادون أهل البيت ويسعون بكل الوسائل الى تغييبهم وإماتة ذكرهم وحجب الناس عنهم واشاعة الأخبار السيئة عنهم وغيرها من الوسائل الظالمة والمخالفة للخلق والدين حتى وصل الأمر بهم الى سنّ لعنهم على المنابر وفي كل ذلك كان الناس يجارون بني أُمية ويتابعونهم فيه تقية منهم ورغبة في السلامة والعافية فكان من نتيجة ذلك أن أميتت سنن كانت معروفة بين الناس لمجرد أن أهل البيت كانوا يعرفون بها فضلاً عن محاربة فضائلهم وما ثبت لهم من مقام ومنزلة بين المسلمين حتى أصبح ذكرهم واسمهم جريمة يعاقب عليها السلطان. فالذي يكون حالهم هكذا مع بني أُمية فكيف يحتملون لهم أن تصلي الناس عليهم وقد عرفت منزلة الصلاة ودورها وتأثيرها في النفوس.
فإذا ضممت الى كل هذه القرائن والمعطيات نصوص تاريخية تصرّح بتلاعب بني أُمية بشعيرة الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله أيّما تلاعب وشوّهوها أيّما تشويه، وإذا أضفنا الى هذه التصريحات اعترافات أخرى من عدّة من علماء أهل السنّة يصرحون فيها بأنّ الناس والعلماء إنّما تركوا الصلاة على
الآل تقية من بني أُمية وهذا إقرار صريح بأن بني أُمية كانت تمنع من الصلاة على الآل وتعاقب عليه فخافت وامتنعت من الصلاة على الآل ، فمرّ على ذلك أجيال لطول تسلط بني أُمية على المسلمين فانتشرت الصلاة البتراء وتحوّلت الى سنّة غمرت السنّة الصحيحة.
وكلّ هذا سنبينه لك بعد قليل وعندها لا يبقى لديك أدنى شك بأنّ حذف الآل والعمل بالصلاة البتراء جرى من قبل بني أُمية وهم المؤسسون له والحاملون الناس عليه بالترغيب والترهيب.
ونبدأ بحثنا في بيان موقف بني أمية من السنة النبوية وأهل البيت(عليهم السلام).
علاقة بني أُمية بالسنّة النبوية وبأهل البيت(عليهم السلام)
من المسلّمات التاريخية أن بني أُمية كانوا يحملون حقداً وعداءاًسافراً لأهل البيت(عليهم السلام) توارثوه جيلاً بعد جيل ولهذا العداء أسبابٌ عديدة كان أهمها خوفهم على سلطانهم الذي يشعرون أنّه مهدد بوجود أهل البيت(عليهم السلام) لعلمهم أن أهل البيت أولى منهم بهذا السلطان والناس أيضاً يعلمون ذلك، ولهذا ولأسباب أخرى لا يسع المقام لتفصيلها سعى البيت الأُموي بقيادة معاوية بن أبي سفيان الى تغييب أهل البيت وإماتة ذكرهم وإبعاد الناس عنهم فعملوا لأجل ذلك كلّ شيء ولم يبقوا وسيلة إلاّ واتبعوها ، فمن قتل وسبي وترويع ومطاردة وقطع أرزاق وتهديم دور وترحيل ومحاصرة وغيرها من الأساليب التي سطرها المؤرخون ولا مجال لتفصيلها هنا(1)، وكان من أقبح تلك الأساليب وأسوأها والتي يعنينا أمرها هنا هو
ما ارتكبوه بحقّ السنّة النبوية حيث كانت في ذاك الوقت عبارة عن ذكريات في أذهان الصحابة ولم تكن مدوّنة بسبب حضر التدوين الذي فرضه الخليفتان الأوّل والثاني(2)، بل منعا حتى من التحدّث بها كما حصل ذلك لقرضة بن كعب وغيره(3). وهذا الحضر الطويل الذي استمرّ أكثر من قرن من الزمن، هيأ الأرضية الملائمة للسلطة الأُموية وغيرها أن تستخدم هذه السنّة كسلاح ضد أهل البيت(عليهم السلام) حيث استطاعت من خلال السنّة أن تحقق أُموراً كثيرة أهمها أمران؛ الأوّل: استطاعت من خلالها أن تُوجد لرجالاتها عمقاً شرعياً ومكانة إسلامية كانوا بأمسّ الحاجة لها لتمرير شرعية سلطتهم التي أخذوها بطريقة مغايرة لما عُرف في الحكومات السابقة، وتمَّ لهم ذلك من خلال وضع الأحاديث في فضل معاوية ومن ينتمي لهم، وفي فضل مركز سلطتهم الشام.
والأمر الثاني: هو إنكار ما ثبت من فضل لأهل البيت(عليهم السلام) والمنع من التحدث به أو ذكره بأي شكل من الأشكال وعاقبوا على مخالفة ذلك وفي نفس الوقت وضعوا أحاديث في فضل خصومهم نكاية بهم أو أشركوا غيرهم معهم فيما ثبت لهم من فضل لكي يذهبوا بمزية إختصاصهم بتلك الفضيلة، كذلك سعوا إلى منع كلّ سنّة قد عمل بها المسلمون لمجرد أن أهل البيت كانوا يُعرفون بها، إمعاناً منهم في تغييبهم وإماتة ذكرهم، ولم يكتفِ معاوية بهذا بل عمد الى سنّ سبّهم على المنابر واستمرّ ذلك عشرات السنين وتعاقبت عليه الأجيال فأصبح سنّة لا تعرف الناس غيرها بحقّ أهل البيت(عليهم السلام)، وكلّ هذا سنبينه لك ضمن النقاط
الأربع التالية:
1 ـ وضع الأحاديث في فضل معاوية وغيره.
2 ـ محاربة فضائل أهل البيت.
3 ـ سنّهم سبّ الإمام علي(عليه السلام).
4 ـ تغييرهم للسنّة لمجرد أن علياً عُرف بها.
5 ـ وضع الأحاديث
أشرنا إلى أن الدولة الأُموية سعت الى أن تُوجد لنفسها وشيخها عمقاً إسلامياً تشرعن من خلاله تسلطها على الأُمة وتعطف قلوب المسلمين نحوها، فهي تعلم أنها خلية من هذا الجانب، وان خصمها يتوفر على أعلى مستوى منه، وأنها لا تستطيع مواجهته إلاّ بهذه الطريقة، فاحتاجت لأجل ذلك أن تضع الحديث في الرموز التي تدعي الانتماء لهم، وفي شيخها معاوية، وفي مركز سلطانها الشام لتوحي للناس أن سلطانها سلطاناً موعوداً وهو سلطان خير للمسلمين.
فأما ما وضعته في الرموز الإسلامية فقد أمر معاوية بوضع الحديث في فضل الخليفة الثالث عثمان بن عفان ثم في بقية الصحابة، وكان هدفه من وراء وضع الفضائل لهؤلاء ـ كما أشرنا إليه ـ هو تضخيمهم على حساب أهل البيت من جهة، ومحاولة إيهام الناس في أنّه مهتم بهذه الرموز، وأنه منتمٍ إلى خطهم ومقتفٍ أثرهم وأن وجوده امتداد لوجودهم من جهة أخرى.
أما ما وضعه في فضائل عثمان فهو ثابت ومعروف، وقد وضعه لغايات سياسية لا تخفى، فقـد ذكـر أبو الحسن المدائني (ت/224 هـ)(4)، في كتابـه “الأحداث” كما نقل عنه ابن أبي الحديد في “شرح النهج” أن معاوية كتب إلى عماله في جميع الآفاق >أن انظروا من قِبَلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل ولايته، والذين يروون فضائله ومناقبه، فادنوا مجالسهم وقربوهم وأكرموهم، واكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم، واسمه واسم أبيه وعشيرته.
ففعلوا ذلك حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه، لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطائع، ويفيضه في العرب منهم والموالي، فكثر ذلك في كل مصر، وتنافسوا في المنازل والدنيا، فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملاً من عمال معاوية، فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلاّ كتب اسمه وقرّبه وشفّعه، فلبثوا بذلك حيناً، ثم كتب إلى عماله أن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل وجه وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرّواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين… فقرئت كتبه على الناس، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها، وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر، وألقي إلى معلمي الكتاتيب، فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع، حتى رووه وتعلموه
كما يتعلمون القرآن، وحتى علّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم فلبثوا بذلك ما شاء الله.
إلى أن قال: فظهر حديث كثير موضوع وبهتان منتشر ومضى على
ذلك الفقهاء والقضاة والولاة، وكان أعظم الناس في ذلك بلية القراء المرائين، والمستضعفين، الذين يظهرون الخشوع والنّسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم، ويقرّبوا مجالسهم، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل، حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان، فقبلوها ورووها، وهم يظنون أنها حقّ، ولو علموا أنها باطلة لما رووها ولا تديّنوا بها”(5).
وأما ما وضعته في فضل معاوية فكان كثيراً وقد اتفق الجميع على أنه موضوع وأنه لم يصحّ في معاوية شيءٌ مما هو منتشر في مصادر الحديث عند أهل السنّة، وقد صرّح بذلك عددٌ من جهابذة الحديث عند أهل السنّة ومنهم الحافظ ابن حجر حيث ذكر أن النكتة التي من أجلها عدل البخاري في الباب الذي عقده لمعاوية في كتابه >فضائل الصحابة< من عنوان (باب مناقب معاوية) ، كما هو في بقية الصحابة إلى (باب ذكر معاوية) قال: >إنّ النكتة في ذلك هو اعتماده على شيخه إسحاق بن راهويه أنه قال: لم يصحّ في فضائل معاوية شيء، وأشار إلى قصة الشافي، وقال إنّها مشهورة، ثم قال: وأخرج ابن الجوزي أيضاً من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت أبي ما تقول في علي ومعاوية؟ فأطرق ثم قال: اعلم أنّ علياً كان كثير الأعداء، ففتش أعداؤه له عيباً فلم يجدوا، فعمدوا إلى رجل قد
حاربه فأطروه كيداً منهم لعلي، فأشار بهذا إلى ما اختلقوه لمعاوية من الفضائل مما لا أصل له، وقد ورد في فضائل معاوية أحاديث كثيرة لكن ليس فيها ما يصحّ من طريق الإسناد، وبذلك جزم إسحاق بن راهويه والنسائي، وغيرهما والله أعلم(6).
وقال ابن تيمية: >وطائفة وضعوا لمعاوية فضائل ورووا أحاديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم في ذلك كلها كذب”(7).
وقال ملاّ علي القاري: “ومن ذلك ما وضعه بعض جهلة أهل السنة في فضائل معاوية، قال إسحاق بن راهويه: “لا يصح في فضل معاوية بن أبي سفيان عن النبيّ (صلّى الله عليه وسلّم) شيء”(8).
وهذه التصريحات من هؤلاء المتخصصين في هذا الميدان تغنينا عن تتبع تلك الموضوعات.
وأما ما وضعوه في فضل بلاد الشام فكثير جداً جمع أغلبه الحافظ ابن عساكر في ترجمته لمعاوية في تاريخ دمشق. ومن إراده فليراجعه هناك فهو مشهور معروف، وكل هذه الروايات موضوعة بلاشك وكان الغرض من وضعها واضحاً وهو إيجاد عمق شرعي لمركز سلطتهم وإيهام الناس إن هذا المكان موعود بقيادة المسلمين وعليه فالحكومة شرعية وموعودة أيضاً، وفي ذلك يقول أحد الباحثين السلفيين المعاصرين: >ومن آثار الدولة الأموية أن قوي في الشام تيار النواصب
الذي ركّز على فضيلة الأرض؛ لأنه لمـّا رأى هذا التيار أن صاحبهم لا يوازي علياً ولا يكاد، نشرت النواصب فضل الوطن بدلاً من فضل الشخص!! ثم يستعرض بعض تلك الروايات الموضوعة وينتهي إلى القول: وقد صحح بعض أهل الحديث تلك الأحاديث متناسين أن هذه الأحاديث وضعت للالتفاف على فضل علي ومن معه (من المهاجرين والأنصار وأهل بدر) والرفع من معاوية ومن معه من أعاريب لخم وجذام وكلب”(9).
وللاُستاذ محمود (أبو رية) كلام دقيق حول هذا الموضوع ذكره ـ وهو يتحدث عن الوضع في الحديث ـ تحت عنوان : (الوضع السياسي أو الوضع للسياسة) قال: >ولابد لنا قبل أن نختم هذا الفصل أن نكشف عن ناحية خطيرة من نواحي الوضع في الحديث كان لها أثر بعيد في الحياة الإسلامية ولا يزال هذا الأثر يعمل عمله في الأفكار العفنة والعقول المتخلفة والنفوس المتعصبة، ذلك أن السياسة قد دخلت في هذا الأمر وأثرت فيه تأثيراً بالغاً فسخرته ليؤيدها في حكمها وجعلته من أقوى الدعائم لإقامة بناءها.
وقد علا موج هذا الوضع السياسي وطغى ماؤه في عهد معاوية الذي أعان عليه وساعده بنفوذه وماله، فلم يقف وضاع الحديث عند بيان فضله والإشادة بذكره بل أمعنوا في مناصرته والتعصب له حتى رفعوا مقام الشام الذي يحكمه الى درجة لم تبلغها مدينة الرسول صلوات الله عليه ولا البلد الحرام الذي ولد فيه، وأسرفوا في ذلك إسرافاً كثيراً وأكثروا حتى الفت في ذلك مصنفات خاصّة<(10).
2 ـ محاربة فضائل أهل البيت(عليهم السلام)
من الطبيعي أنّ الذي يضع كل هذه الأحاديث من أجل نصرة سلطانه لا يمكن أن يسكت عمن يهدد ذلك السلطان وهو يعلم أنّ هذا التهديد متأتٍ مما يحمله خصمه من عمق شرعي وكيان إسلامي ثبت له بالكتاب والسنّة والأُمّة كلّها تعلم ذلك، من هنا سعى الأُمويون الى تحطيم هذا الكيان وتشويهه، فأنّ سلطان بني أُمية قام على معاداة هذا الخصم المتمثل بأهل البيت(عليهم السلام) وكيانهم المتمثل بما ثبت لهم من فضل ومقام وما بثوه في المسلمين من معارف وعلوم إسلامية وقد اتّبعت لأجل ذلك أساليب متعددة منها: إنكار الفضيلة من أصل، ومنع التحدّث بها، أو وضع مثلها في غيرهم، أو إشراك غيرهم معهم فيها؛ كي لا تبقى لهم ميزة الاختصاص بها وما يحمله ذلك الاختصاص من مدلولات لا تخفى، ولكل واحد من هذه الأساليب مصاديق عديدة مبثوثة في كتب التراث لا يسع حجم البحث وغرضه إلى استقصائها إنّما نترك متابعتها للقارئ الكريم، والذي يعنينا في المقام هو إثبات أصل القضية وهذا يكفي فيه النصوص التوثيقية. ومن تلك النصوص ما نقلناه عن المدائني، وتقدّم بعضه والآن ننقل منه ما يتعلق بالمقام، فقد نقل المدائني في كتابه “الأحداث” قال: >كتب معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله بعد عام الجماعة: أن برئت الذمّة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته، فقامت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر، يلعنون علياً ويبرأون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته…
ثم قال: ولا تتركوا خبراً يرويه أحدٌ من المسلمين في أبي تراب إلاّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة، فإن هذا أحبّ إليّ وأقرّ لعيني، وأدحض لحّجة أبي تراب وشيعته، وأشدّ عليهم من مناقب عثمان وفضله.
ثم كتب إلى عمّاله نسخة واحدة إلى جميع البلدان انظروا من قامت عليه البيّنة أنه يحب علياً وأهل بيته، فأمحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه، وشفّع ذلك بنسخة أخرى: من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم، فنكّلوا به واهدموا داره”(11).
ونقل ابن أبي الحديد المعتزلي عن شيخه أبي جعفر الإسكافي قوله: >إنّ بني أمية منعوا من إظهار فضائل علي(عليه السلام)، وعاقبوا ذلك الراوي له، حتى أن الرجل إذا روى عنه حديثاً لا يتعلق بفضله، بل بشرائع الدين لا يتجاسر على ذكر اسمه فيقول عن أبي زينب ” (12).
ومثلها نقلها المزّي عن الحسن البصري في روايته عن رسول الله بدون واسطة، فقال: “كل شيء سمعتني أقول: قال رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)، فهو عن علي بن أبي طالب غير أني في زمان لا أستطيع أن أذكر علياً< (13).
ونقل ابن الأثير عن المغيرة بن شعبة ـ والي الكوفة من قبل معاوية ـ قوله لصعصعة بن صوحان: إياك أن يبلغني عنك أن تظهر شيئاً من فضل علي… فإن هذا لا يحتمله الخليفة لنا “(14).
وهذا الحضر الذي أسسته الدولة الأُموية لكل ما ثبت لأهل البيت(عليهم السلام) من فضل ومقام وما بثوه من معارف وعلوم بين المسلمين لم يتوقف بغياب الدولة الأُموية بل استمرّ وإلى هذه الساعة حيث تجد التراث الإسلامي خلياً من علوم أهل البيت(عليهم السلام) بعد أن انكمش المحدث عن فضائلهم واحتمى الفقيه عن العمل
بحديثهم وامتنع المفسّرون عن الأخذ بتفسيرهم وهكذا في بقية المعارف الإسلامية حتى أصبح ذلك من المسلمات التي لا ينكرها إلاّ المكابر العنيد، وقد أشار الى جانب من هذه الحقيقة الإمام أبو زهرة حيث قال: >واذا كان لنا أن نتعرف السبب الذي من أجله اختفى عن جمهور المسلمين بعض مرويات علي وفقهه فإنا نقول إنه لابد أن يكون للحكم الأموي اثر في اختفاء كثير من آثار علي في القضاء والافتاء، لأنه ليس من المعقول أن يلعنوا علياً فوق المنابر، وأن يتركوا العلماء يتحدثون بعلمه، وينقلون فتاواه وأقواله للناس، وخصوصاً ما كان يتصل منها بأسس الحكم الاسلامي<(15).
ولم يكتفِ الأُمويون بمنع ما ثبت لأهل البيت(عليهم السلام) بل منعوا من السنن التي يعمل بها المسلمون لمجرد أن أهل البيت عرفوا بها إمعاناً في محاربتهم وإماتة ذكرهم ، ولم يتوقفوا عند هذا الحدّ بل ذهبوا الى منحى خطير لم يسبقهم إليه أحد في مستوى الخسّة والإنحطاط حيث أُمروا بسبهم على المنابر واتخذوا ذلك سنّة وعاقبوا عليه، وإليك جملةً منه إتماماً للفائدة.
3 ـ سنّهم سبّ الإمام علي(عليه السلام)
وقد سنّ هذه الموبقة الشنيعة والفعلة القبيحة شيخ الأُمويين معاوية بن أبي سفيان حيث أمر بذلك واتخذه سنّة يعاقب على تركها، وهو يعلم أن هذا العمل مخالف للسنّة وأن النبيّ صلّى الله عليه وآله نهى عنه واعتبره سبّاً له والعياذ بالله وقد ارسلت له أُمّ سلمة رضوان الله عليها تخبره بذلك وتنهاه عن هذا الفعل
ـ وسيأتي كلامها بعد قليل ـ ولكنه لم ينتهِ ، بل تمادى في غيّه وتجبّر وأمعن في معاقبة من يخالف سنته الخبيثة هذه بالقتل والحبس وأنواع العذاب، واستمر ذلك الى عهد عمر بن عبدالعزيز حيث منع منها مدة خلافته (99 هـ إلى 101 هـ)، وإليك ذرواً من النصوص التي توثق هذه السنّة الأُموية ونمهد لها بما قاله الإمام محمد أبوزهرة حول هذا الموضوع: “إنّ معاوية سنّ سنّة سيئة في عهده، وفي عهد ابنه ومن خلفه من ا?مويين حتى عهد (عمر بن عبدالعزيز) وتلك السنّة هي لعن إمام الهدى علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ عقب تمام الخطبة، ولقد استنكر ذلك بقية الصحابة ونهوا معاوية وولاته عن ذلك حتى كتبت أم سلمة زوج رسول الله صلّى الله عليه وآله إليه كتاباً تنهاه”(16).
ونبدأ بالنصوص بما أخرجه مسلم في صحيحه وكيف إن معاوية أمر سعد بن أبي وقاص بسبّ الإمام علي(عليه السلام) وأبى عليه سعد، فبسنده إلى عامر بن سعد عن أبيه قال: > أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً، فقال ما يمنعك أن تسبّ أبا التراب؟ قال: أمّا ما ذكرت ثلاثاً قالهن له رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) فلن أسبّه، لأن تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ من حمر النعم، سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) يقول له إذ خلفه في بعض مغازيه، فقال له علي يا رسول الله خلّفتني مع النساء والصبيان فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبوّة بعدي، وسمعته يقول يوم خيبر لأعطينّ الراية رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله قال فتطاولنا لها فقال ادعوا لي علياً فأتي به أرمد فبصق في عينه ودفع الراية إليه ففتح الله عليه ولما نزلت هذه الآية {فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ} دعا رسول الله (صلّى الله عليه
وسلّم) علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً، فقال اللهم هؤلاء أهلي”(17).
وعلّق القرطبي في كتابه المفهم على هذا الحديث بقوله: >وقول معاوية لسعد ابن أبي وقاص: ما منعك أن تسبّ أبا تراب، يدل على أن مقدم بني أُمية كانوا يسبّون عليّاً ويتنقصونه<(18).
وعن ابن ماجه بسند صحيح، قال : >قدم معاوية في بعض حجاته، فدخل عليه سعد، فذكروا علياً، فنال منه، فغضب سعدٌ، وقال: تقول هذا لرجل سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول فيه، وذكر حديث الموالاة والمنزلة والراية<، وأقرّ الألباني _الذي تولى الحكم على الأحاديث_ بصحة هذا الحديث وأن معاوية سبّ الإمام علياً(عليه السلام) حيث قال: >صحيح (فنال منه) أي: نال معاوية من علي، وتكلم فيه<(19).
وأما محمد فؤاد عبد الباقي فعلّق على هذا الموضع في النسخة التي حقّقها، قال: >أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد، قوله (فنال منه) أي: نال معاوية من علي، ووقع فيه وسبّه”(20).
وذكر ابن الأثير أن من الشرائط التي طلبها الإمام الحسن(عليه السلام) في صلحه مع معاوية، طلب منه أن لا يشتم علياً، فلم يجبه إلى الكف عن شتم علي، فطلب أن لا يشتم وهو يسمع فأجابه إلى ذلك ثم لم يفِ له به أيضاً(21).
وذكر أيضاً أن معاوية كان إذا قنت سبّ علياً وابن عباس والحسن والحسين والأشتر(22).
وكان معاوية يرعى هذه السيئة ويوصي بها عمّاله ويشدّد على ذلك لحرصه عليها، فقد نقل ابن الأثير في الكامل من وصية معاوية لواليه المغيرة بن شعبة قال: >وقد أردت ايصاءك بخصلة لا تترك شتم علي وذمّه والترحم على عثمان، والاستغفار له، والعيب لأصحاب علي والإقصاء لهم، والإطراء بشيعة عثمان، والإدناء لهم، فقال له المغيرة: قد جرّبت وجُرّبت، وعملت قبلك لغيرك فلم يذممني، وستبلو فتحمد أو تذمّ. فقال بل نحمد إن شاء الله<(23).
واستمر معاوية في رعاية هذا الفعل الخبيث، ونشره وحمل الناس على فعله بكل الوسائل، ولم يتراجع عنه أبداً حتى بعد أن اختفى من كان يخافه على سلطانه، كما يحدثنا بذلك الجاحظ قال: >إن قوماً من بني أمية قالوا لمعاوية: يا أمير المؤمنين إنك قد بلغت ما أمّلت، فلو كففت عن هذا الرجل، فقال لا والله حتى يربو عليه الصغير، ويهرم عليه الكبير، ولا يذكر له ذاكر فضلاً<(24).
ومثلها أوردها ابن أبي الحديد مروية عن الزهري قال: >قال ابن عباس لمعاوية: ألا تكفّ عن شتم هذا الرجل؟ قال: ما كنت لأفعل حتى يربو عليه
الصغير، ويهرم فيه الكبير، فلمّا ولّي عمر بن عبد العزيز كفّ عن شتمه، فقال الناس: ترك السنّة<(25).
وفعلاً تم له ما أراد وأصبح سنّة، كما يقول الحافظ ابن حجر: >واتخذوا لعنه سنّة<(26)، وأي سنّة فقد جعلوها ركيزة حكمهم وعماد دولتهم حتى ما عادوا يرون لكيانهم بقاءً إلاّ بها كما صرّح بذلك مروان بن الحكم نفسه، نقل ذلك عنه البلاذري (ت/ 279 هـ) والدار قطني (ت/385هـ)، حيث قال: >ما كان أحدٌ أدفع عن عثمان من علي، فقيل له ما لكم تسبّونه على المنابر؟ قال: إنه لا يستقيم لنا الأمر إلاّ بذلك<(27).
وأكّدها ابنه عبد العزيز كما ينقل لنا البلاذري ذلك عن عمر بن عبد العزيز قال: >نشأت على بغض علي لا أعرف غيره !!! وكان أبي يخطب فإذا ذكر علياً نال منه، فلجلج فقلت يا أبه إنك تمضي في خطبتك فإذا أتيت على ذكر علي عرفت منك تقصيراً قال أفطنت لذلك؟ قلت نعم قال: يا بنيّ إن الذين من حولنا لو نعلمهم من حال علي ما نعلم لتفرقوا عنّا<(28)، وفي لفظ ابن الأثير >تفرقوا عنّا إلى أولاده<(29).
فلابدّ أن لا يعرفوا لأن معرفتهم لذلك تعني معرفتهم بأن الحق مع علي وأولاده، وهذا يعني انتهاء دولتهم، ووفق هذا المنطق سعوا بكل ما لديهم من
طاقة، وبكل وسيلة مهما كانت، لمحاربة علي وأولاد علي وإخفاء ذكرهم وحجب الناس عنهم ووجدوا أن من أفضل الوسائل لتحقيق ذلك، هو الأمر بسبّه والبراءة منه، فإن السلطان إذا أمر بسبّ شخص والبراءة منه، فإن ذكره سيخمل لا محالة، خصوصاً إذا تعاقبت أجيال على ذلك؛ لأن الجيل الأوّل سيكتم ذكره خوفاً فيبقى الجيل اللاحق لا يعرف عنه إلاّ ما تقوله الدولة التي تمثل الشرعية، وهو السبّ والبغض، وهذا ما صرّح به عمر بن عبد العزيز آنفاً في قوله: نشأت على بغض علي لا أعرف غيره!! فإذا كان كذلك فكيف لا تصبح سنّة تأخذ موقعها من النفوس، وتترسخ بمرور الأجيال حتى يُعتقد أن تركـها مخالفـة للسنّـة كمـا ظهـر مـن بعضهـم عندمـا امتنعـوا على عمر بن عبدالعزيز حين أمر بتركها!!(30).
من هنا ما كانوا يعذرون أحداً فيها ولهذا لم ينجُ منها أحدٌ حتى كبار الصحابة الذين لم يدخلوا في عمل لبني أُمية فأمروهم بها، كما حصل لسعد بن أبي وقاص ـ وقد ذكرنا خبره قبل قليل ـ فأنّ معاوية ومن خلفه كان يعاقب من يمتنع من السبّ فإذا نجا سعد بن أبي وقاص من العقوبة لموقعه من المسلمين وكونه سادس أصحاب الشورى فأن الصحابي الجليل حجر بن عدي وأصحابه لم ينجوا حيث خيّرهم معاوية بين القتل والسبّ فأبوا عليه فقتلهم صبراً. وكثير غيرهم امتحنهم بنو أُمية بسبّ الإمام علي(عليه السلام) فمنهم من استجاب ومنهم من أبى فكان مصيره القتل أو السجن أو الجلد وغيرها من العقوبات.
ولقد أسس معاوية هذا الفعل الشنيع الفضيع، وهو يعلم ومن تبعه في ذلك، أنه مخالف لسنّة النبيّ صلّى الله عليه وآله في نهيه الصريح عن سبّ المؤمن عموماً لأنه فسوق، ونهيه الصريح عن سبّ الإمام علي خصوصاً لما فيه من تعدّ خطير على حدود الله تعالى وشرعته المتمثلة في شخص علي(عليه السلام) لذلك ورد النهي عن سبّه في روايات صريحة وصحيحة، وبأشدّ الألـفاظ وأبلـغها في الإنكار، والتحـذير، وقد أخبرتـه بذلك أمّ سلمة ـ رضوان الله عليها فقد أخرج الحاكم بسند صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وكذا ذكره الهيثمي في “مجمع الزوائد”، وقال رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير أبي عبد الله الجدلي وهو ثقة، وصححه أبو إسحاق الجويني في “تهذيبه لخصائص النسائي”، وأخرجته مصادر أخرى، واللفظ للحاكم، فبسنده إلى أبي عبد الله الجدلي قال: >دخلت على أمّ سلمة رضي الله عنها فقالت لي أيسبّ رسول الله صلّى الله عليه وآله فيكم؟ فقلت معاذ الله أو سبحان الله أو كلمة نحوها، فقالت سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: من سبّ علياً فقد سبّني<(31).
ولشدّة ما دخل على أمّ المؤمنين أمّ سلمة ـ رضوان الله عليها ـ من غضب واستنكار لهذا العمل الشنيع لم تكتف بكلامها لأبي عبد الله الجدلي، بل أرسلت إلى معاوية تحذّره من مغبة هذا العمل القبيح، فقد أخرج ابن عبدربّه أنها أرسلت إلى معاوية تقول له: >إنكم تلعنون الله ورسوله على منابركم، وذلك أنكم تلعنون
علي بن أبي طالب ومن أحبه، وأنا أشهد أن الله أحبه ورسوله<. فلم يلتفت إلى كلامها(32).
وخبر آخر عن ابن عباس أخرجه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي قال: “عن عبيد الله بن أبي ملكية قال: جاء رجل من أهل الشام فسبّ علياً عند ابن عباس، فحصبه ابن عباس فقال: يا عدو الله آذيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعدّ لهم عذاباً مهيناً، لو كان رسول الله صلّى الله عليه وآله حياً لآذيته<.
وروايات أخرى كثيرة كلها تحذّر من سبّ علي (عليه السلام) وتعتبره كبيرة من الكبائر المخرجة من الدين بتقريب أن سبّ علي هو سبّ لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسبّ رسول الله صلّى الله عليه وآله هو سبّ لله تعالى، ومن سبّ الله تعالى فقد خرج من الدين، والعياذ بالله!!!
وكل ذلك معروف، مشهور بين المسلمين، ومع ذلك استطاع معاوية أن يحوّل كل هذا إلى ما يناقضه من سبّ وبغض لعلي، وأهل بيته(عليهم السلام)!! فإنّا لله وإناّ إليه راجعون.
وعليه فمن يقدر على تأسيس ما يناقض السنّة ويجعله هو السنّة من أجل الانتقاص من خصمه والناس يعلمون ذلك، فكيف يسكت عن منع سنّة فيها فضل صريح لخصمه يعرفه كل أحد؟!
4 ـ تغييرهم للسنن لمجرد أن عليّاً عُرف بها
لم يكتفِ معاوية بالأعمال التي أشرنا لها بالنقاط السابقة بل دفعه بغضه لأهل البيت(عليهم السلام) ورغبته في إماتة ذكرهم الى أن يمنع من السنن التي اعتادها المسلمون وعملوا بها اتباعاً لنبيهم صلّى الله عليه وآله لمجرد أنّ علياً عُرف بها، فأشّر لنا هذا العمل على المستوى الذي وصلته الجرأة الأُموية على تغيير السنّة، وعلى حالة الحرص الأُموي والإصرار على إخفاء وإماتة ما يذكّر بأهل البيت(عليهم السلام) ولهذا الفعل الأُموي الشنيع أمثلة كثيرة منها، ما أخرجه النسائي في سننه بسنده إلى سعيد ابن جبير قال: >كنت مع ابن عباس بعرفات فقال: ما لي لا أسمع الناس يلبّون، قلت يخافون من معاوية فخرج ابن عباس من فسطاطه فقال: لبيك اللّهم لبيك، فإنهم قد تركوا السنّة من بغض علي<. وعلّق عليه السندي صاحب الحاشية قال: (من بغض علي) أي لأجل بغضه أي وهو كان يتقيد بالسنن فهؤلاء تركوها بُغضاً له<(33).
وإذا تأملت أيها القارئ العزيز بهذه الواقعة المؤلمة لألحّ عليك سؤال يقرح القلوب، وهو إذا كانت السنّة بهذا الشكل من الثبوت، والانتشار وأن المسلمين يؤدونها مجتمعين من كل بقاع الإسلام، وبحضور الصحابة، وفي يوم مشهود منذ عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله، ومع ذلك تجرأ معاوية وسعى لحذفها لمجرد أن العمل بها يذكّر المسلمين بعلي(عليه السلام)، فكيف إذن ببقية السنن التي ليس لها هذا الانتشار، وليس لها مثل ابن عباس، فماذا حلّ بها؟! وهذا السؤال سيجيبك عنه أنس ووهب بن كيسان بعد قليل فانتظر!!
ومثال آخر، وهو ما يتعلق برواية أنس بن مالك في مسألة قراءة البسملة في الصلاة؛ حيث روى عدّة روايات تفيد أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وأبا بكر وعمر كانوا يجهرون بالبسملة، ولكن العجيب أنه روى روايات، وقال إنهم كانوا يخفتون، وفي إحداها أنه سئل عن المسألة فقال لا أدري(34)، وهذا الاضطراب في رواية صحابي واحد في مسألة واحدة حتى وصلت به الحال أن ينكر معرفته بتلك المسألة التي روى فيها ست روايات.
هذه الحالة لابدّ أن يكون لها سبب حقيقي يبررها بشكل منطقي ومعقول؛ وإلاّ لا يعقل أن يروي أنس روايات متناقضة في مسألة واحدة لا يحصل الشك والتردد في مثلها؛ لأنها أثر حسّي يحصل كل يوم عشر مرات، دون أن يكون لهذا التناقض سبب وجيه، ولو فتشت، فلن تجد له سبباً إلا الدولة الأموية وسياستها؛ حيث تبنت السياسة الأموية عدم الجهر بالبسملة في الصلاة خلافاً لما هو معروف عن الإمام علي(عليه السلام) ولما أجمع عليه الصحابة ، فقد روى الشافعي بإسناده أنّ معاوية قدم المدينة فصلّى بهم، ولم يقرأ (بسم الله الرحمن الرحيم)، ولم يكبرّ عند الخفض إلى الركوع والسجود، فلمّا سلّم ناداه المهاجرون والأنصار، يا معاوية سرقت منّا الصلاة، أين بسم الله الرحمن الرحيم؟ وأين التكبير عند الركوع والسجود؟ ثم أنّه أعاد الصلاة مع التسمية والتكبير.
قال الشافعي: >إنّ معاوية كان سلطاناً عظيم القوة شديد الشوكة فلولا أنّ الجهر بالتسمية كان كالأمر المتقرر عند كل الصحابة من المهاجرين والأنصار؛ وإلاّ لما قدروا على إظهار الإنكار عليه بسبب ترك التسمية<(35).
ومن كلام الشافعي نستفيد أمراً مهماً، وهو أنّ الإنكار على معاوية ليس بالأمر السهل، وإن كان في فعل يخالف السنّة إلاّ إذا كان في أمر واضح اجتمع عليه الصحابة، وتوفر الظرف المناسب للردّ على مخالفة معاوية، وهذا أمرٌ خطير لابد من التأمل فيه جيداً، فإنه ينبئ عن رغبة معاوية وقدرته على تغيير ما يريد تغييره من السنة وخصوصاً ما كان فيه مخالفة لما اشتهر عن الإمام علي(عليه السلام)، وهذه لعمري نكاية عظيمة في الدين ما زلنا ندفع ثمنها، فعلى المسلمين الغيارى التنبه لذلك والبحث بشكل جدي عمّا غيّره معاوية وحزبه وما زال العمل قائماً عليه لحد الآن.
و مما لا شك فيه أنّ الدافع لمعاوية لتغيير ما عليه الصحابة من سنّة الجهر بالبسملة ليس لعلم تفرّد به عنهم، أو سنة نسوها أراد تذكيرهم بها بعدما آل الأمر إليه، بل لأمر آخر لا يخفى، وهو علمه أنّ الجهر بالبسملة من السنن التي عرف الإمام علي(عليه السلام) بالعمل بها، والتأكيد عليها فأراد إبطال هذه السنّة النبوية بغضاً لعلي وإبطالاً لآثاره وذكره، وإلا ما شأن معاوية والجهر بالبسملة أو عدمه حتى يتحمل مخالفة الصحابة كلّهم له وتألبهم عليه؟!
وهذا ما ذهب إليه الفخر الرازي في معرض توجيهه لاضطراب روايات أنس؛ حيث قال: >وأيضاً ففيها تهمة أخرى، وهي أنّ علياً(عليه السلام)، كان يبالغ في الجهر بالتسمية، فلمّا وصلت الدولة إلى بني أمية بالغوا في المنع من الجهر سعياً في إبطال آثار علي(عليه السلام)، فلعلّ أنساً خاف منهم فلهذا السبب اضطربت أقواله فيه<(36).
ومراد الفخر الرازي من قوله هذا أنه يُرجع اضطراب أقوال أنس إلى خوفه من بني أمية، وحيث إنّ بني أمية يريدون المنع من الجهر فيعني ذلك أنّه وضع
خوفاً منهم روايات توافق مبناهم وخالف ما رواه أولاً؛ وإلاّ لو كان مبناهم يوافق ما رواه أولاً لما حصل الاضطراب!! فتأمل.
والأمر واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان، ويؤيده أنّه لو كان هناك روايات تؤيد ما تريده الدولة الأموية لاستعان بها معاوية عندما احتجّ عليه الصحابة، ولا أقل لما حصل هذا الإجماع من الصحابة على خلاف فعل معاوية فاضطر إلى إعادة الصلاة.
وهكذا يتضح أنّ روايات أنس المانعة من الجهر بالبسملة أمّا هو وضعها خوفاً من بني أمية، أو وضعتها الدولة الأموية على لسانه، وبذلك تغيرت سنّة النبيّ صلّى الله عليه وآله في الصلاة واستبدلت بسنّة بني أمية كما هو عليه أغلب المسلمين الآن.
وهكذا ضاعت صلاة رسول الله صلّى الله عليه وآله كما صرّح بذلك أنس بن مالك نفسه في دمشق فقد أخرج البخاري في “صحيحه” عن الزهري قال: >دخلت على أنس بدمشق وهو يبكي فقلت ما يبكيك ؟ فقال: لا أعرف شيئاً مما أدركت إلاّ هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت”(37).
وأخرى له في هذا المعنى أخرجها أحمد في مسنده قال: >ما أعرف فيكم اليوم شيئاً كنت أعهده على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) غير قولكم لا إله إلاّ اللّه، قال: فقلت: يا أبا حمزة الصلاة؟ قال: قد صليت حين تغرب الشمس، أفكانت تلك صلاة رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)؟!(38).
وفي نفس المعنى أخرج الشافعي عن وهب بن كيسان قال: >كل سنن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد غيرت حتى الصلاة”(39).
ومثله أخرجه مالك بن أنس في الموطأ عن أبي سهيل بن مالك عن أبيه قال: >ما أعرف شيئاً مما أدركت عليه الناس إلاّ النداء للصلاة”(40).
وأخيراً نقل الذهبي عن معاوية بن قرة المزني قوله: >أدركت سبعين من الصحابة لو خرجوا فيكم ما عرفوا شيئاً مما أنتم فيه إلاّ الأذان”(41).
ولم تكن هذه التصريحات وحدها هي التي أعلنت أن السنّة النبوية تغيّرت في زمن بني أمية، بل سبقتها إلى ذلك السنّة النبوية نفسها؛ حيث أخبرت أن أول من سيتولى تغييرها والتلاعب بها هم بنو أمية، فقد جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: >أول من يغيّر سنتي رجل من بني أمية”(42)، ورجّح الألباني ـ الذي أخرج هذا الحديث في “صحيحته” ـ أن ذلك الرجل هو معاوية!! حيث قال: >ولعلّ المراد بالحديث تغيير نظام اختيار الخليفة، وجعله وراثة، والله أعلم”(43).
وأخرج الحاكم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: >سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول إذا بلغت بنو أمية أربعين اتخذوا عباد الله خولاً ومال الله نحلاً وكتاب الله دغلاً”.
وأخرج البخاري في “صحيحه” عن أبي هريرة قال: “سمعت الصادق المصدوق يقول: (هلكة أمتي على يدي غلمة من قريش). فقال مروان لعنة الله عليهم غلمة. فقال أبو هريرة: لو شئت أن أقول بني فلان وبني فلان لفعلت”.
والرجل كان يخاف أن يصّرح ففي لفظ آخر قال لو قلت، لقطع مني هذا الحلقوم، إلاّ أنه كشف عن أحدهم بتعوذه من رأس الستين وإمارة الصبيان. ويشير بذلك إلى إمارة يزيد بن معاوية حيث بدأت إمارته في سنة ستين وأيّد ابن حجر أن يكون يزيد من الغلمة ورجّح راوي الحديث عن أبي هريرة أن يكون غلمان مروان منهم، هذا وغيره مما لم نذكره في توضيح هذا الحديث كلّه ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري(44).
إلى هنا اجتمعت لدينا ما أخبرت به السنّة، وتصريحات أنس، وغيره التي سبقتها منّا بعض التطبيقات(45)، فنخرج من ذلك بنتيجة لا شكّ فيها، تقول إن الكثير من السنّة النبوية غيرّها بنو أمية بما يتلائم مع مصالحهم!!! وهذه لعمري مصيبة كبيرة ونكاية موجعة في الإسلام لو مات الإنسان كمداً لأجلها، لكان مرضياً عند الله تعالى، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
إلاّ أن المصيبة الأعظم، والرزية الأكبر أن تجد بعض هذه السنن التي غيرّها بنو أمية ما زال العمل قائماً عليها لحد الآن!!!
حصيلة ما تقدّم
ثبت من خلال النقاط الأربع السابقة أن معاوية وحزبه كانوا يرون أن وجودهم وبقاء دولتهم واستقرار ملكهم مرتبط بتغييب أهل البيت وإماتة ذكرهم لذلك سعوا وبكل ما أُوتوا من قوة الى منع وإنكار وتشويه كلّ ما له صلة بأهل البيت وإن كانت صلة ضعيفة، والسنة الدالة عليها سنة عظيمة ولها مكانـة كبيرة ومقدسة بين المسلمين كما رأينا ذلك في منع معاوية لتلبية الحج لمجرد أن علياً عرف به ليس إلاّ! كما وأن السعي الأموي لم يتوقف عند منع ما ثبت لأهل البيت من فضل ومقام، بل تعدّاه إلى ما هو أفضع عندما استبدلت ذلك إلى نقيضه جاعلة من ذلك النقيض كما في سبّ الإمام علي(عليه السلام) هو السنّة! وهذا الواقع يفرض علينا معادلة واضحة الطرفين يلزمنا الأخذ بها، وهي إذا كان بنو أمية لهم هذه الجرأة، والقدرة، والرغبة، والإصرار على منع كل ما له صلة بأهل البيت وإن كانت سنّة لها مكانة عظيمة بين المسلمين، والمصلحة المرجوة من منعها قليلة لصلتها الضعيفة بأهل البيت، وكذا إذا كانوا لا يتورعون عن استخدام أي أسلوب مهما كان شنيعاً وقبيحاً لتشويه تلك السنن ومنعها! فإن ذلك يقتضي لا محالة أن تكون جرأتهم، وقدرتهم، ورغبتهم وإصرارهم أكبر بكثير على منع وتشويه ما هو أسهل ومصلحته أعظم، وصلته بأهل البيت أكثر وأوضح، وهذا ما نجده منطبقاً على الصلاة على الآل، فمن المسلّم عند الجميع أن الصلاة على الآل تعدّ من أبرز فضائل أهل البيت، وأعظمها كما أوضحناه سابقاً وفي ذلك يقول الفخر الرازي: >إن الدعاء للآل منصب عظيم ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهد في الصلاة،
وقوله: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد وارحم محمداً وآل محمد، وهذا التعظيم لم يوجد في حق غير الآل”(46).
فهي منقبة سامية وفضيلة عظيمة لم يسبقهم إليها أحد، ولم يشركهم فيها أحد، ولها حضور يومـي متكرر وامتـداد واسـع ودلالات عميقـة وواضحـة، وذات تأثير فاعل في توجيه أنظار الناس إلى أهل البيت، فكل هذه الامتيازات التي تعكسها هذه الفضيلة لا يمكنها أن تبقى بعيدة عن السعي الأموي الآنف الذكر، بل لا بد أن تكون وبحكم المعادلة السابقة قد تعرضت للمنع الرسمي من قبل الدولة الأموية، فمن غير المعقول أن تسمح الدولة الأموية لمنقبة بهذا المستوى أن تفعل فعلها في توجيه أنظار الناس لأهل البيت، وهم لا يحتملون أن تذكر أسماؤهم، كما بيناه سابقاً، فمن غير المعقول أن يصلي معاوية(47) وبنو أمية على من سنّوا لعنهم وبغضهم ومحاربتهم!
ويمكننا إعادة تقرير تطبيق ما تقّدم بشكل أوضح، وهو إننا وبحسب الاستقراء والتتبع وجدنا أن بني أمية قد منعوا وشوّهوا كل ما له أدنى صلة بأهل البيت، وقد سعوا إلى ذلك بكل الوسائل.
والصلاة على الآل مع النبيّ هي من أبرز فضائلهم وأوسعها حضوراً، فيلزم على هذا أن يكون التشويه، والحذف قد شملها بالأولوية.
وبهذا يكون قد اتضح لك أن الصلاة البتراء لابدّ وأن تكون قد ظهرت في زمن بني أمية، فكانوا هم المؤسسون لها، والحاملون الناس عليها، حتى أصبحت هي السنّة(48).
وهذا الدليل صريح فيما ادعيناه، وهو يغنينا عن تلمس التصريح المباشر من معاوية، أو بقية بني أمية على ترك الصلاة على الآل؛ لاتفاق كل المعطيات المتقدّمة على حقيقة أن حذف الآل، والعمل بالصلاة البتراء تعدّ من بديهيات السياسة الأموية التي لا تحتاج إلى تصريح والتي تصدر منهم تلقائياً ودون توجيه مسبق والناس تتابعهم على ذلك دون سؤال؛ لما وقر في نفوسهم من أن ما يريده بنو أمية لا يمكن تجاوزه، وخصوصاً ما كان يتعلق بحربهم على أهل البيت(عليهم السلام).
وهذا الدليل مع كونه كافياً لإثبات المطلوب؛ إلاّ أن الواقع لا يخلو من حقائق تاريخية مؤيدة لما ذهبنا إليه، فإن الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله لم يكن نصيبها من التشويه في ظل الدولة الأموية مقتصراً على حذف الآل، بل جرت عليها تشويهات أخرى رافقتها مقولات، ومواقف حملت دلالات صريحة في أن سبب هذه التشويهات هو عدم تحمّلهم لتفرّد الآل بهذه المنقبة.
وسيتضح لك بشكل جلي بعد اطّلاعك على الموجز الذي سننقله عن تلك التشويهات أن الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله كانت مستهدفة، والسبب في ذلك هو اشتمالها على ذكر الآل، فإن المنحرفين عنهم ما كانوا يحتملونها لهم.
فمن لا يطيق الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله لوحده لمجرد أن في ذكره ذكراً للآل، فكيف يطيق الصلاة عليهم أنفسهم؟
ومن يتزلف إلى سلاطينه بالصلاة عليهم، ويتجرّأ على سنّة خصّها الله تعالى بنبيّه صلّى الله عليه وآله، فكيف تريده أن يصلّي على الآل ويغضب سلاطينه الذين يرجو الزلفى عندهم؟
فإذا ثبت أنها مستهدفة، وعلى هذا المستوى الذي تكشفه هذه التشويهات، فيكون استهدافها على مستوى أقلّ، وهو حذف الآل ـ لكونه أقلّ مؤونة وأيسر في التطبيق، وأقرب للغاية ـ أولى.
ومنه يتضح لك أن هذه التشويهات هي دليل برأسه على أن المؤسسين للصلاة البتراء هم بنو أمية، وخصوصاً إذا تأملنا بتفاصيل هذه التشويهات وما صدر فيها من تصريحات.
وإليك عرضاً، وتحليلاً موجزاً لما أشرنا إليه من تشويهات، وتشويهات أخرى أيضاً، وكما يلي:
أولاً: الصلاة على الخلفاء والأمراء
ومعناه أن الناس في زمن بني أمية لمـّا علمت أن الصلاة فضيلة عظيمة ومنقبة سامية، أرادوا أن يتقربوا بها إلى خلفائهم وأمرائهم، فأخذوا يصلّون عليهم كما يصلّون على رسول الله صلّى الله عليه وآله.
وهذا التشويه الجديد عكس لنا حالة الاستخفاف بمقام النبيّ صلّى الله عليه وآله وما خصّه الله تعالى به، التي عمّت المجتمع الإسلامي بجميع طبقاته من حكّام، وغيرهم!
فإن هذه البدعة انتشرت بين الناس، وعمّت البلاد الإسلامية سنين طويلة وبقيت هكذا تتوارثها الأجيال حتى مجيء عمر بن عبد العزيز إلى السلطة سنة (99 هـ)، فبعث برسالة إلى أمراء الأجناد يأمرهم فيها بمنع هذه البدعة، فكانت هذه الرسالة الوثيقة الوحيدة التي أرّخت، وكشفت عن حجمها، وسعة انتشارها، ولولاها لما عرف عنها شيء ولبقيت في طي النسيان والإهمال، وهذه الرسالة نقلها بتمامها الشيخ الألباني في تحقيقه لكتاب “فضل الصلاة” للجهضمي، حيث قال: >وقد جاءت هذه الرسالة في كتاب عمر بن عبد العزيز للإمام ابن الجوزي وإليك نصها بتمامها:
وكتب عمر بن عبد العزيز: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى أمراء الأجناد: أما بعد، فإن الناس ما اتبعوا كتاب الله، نفعهم في دينهم ومعاشهم في الدنيا ومرجعهم إلى الله فيما بعد الموت، وإن الله أمر في كتابه بالصلاة على النبيّ، صلّى
الله عليه وسلم، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (الأحزاب: 56) صلوات الله على محمد رسول الله، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته.
ثم قال لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلم: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (سورة محمد: 19)، فقد جمع الله تبارك وتعالى في كتابه أن أمر بالصلاة على النبيّ (صلّى الله عليه وسلّم)، وعلى المؤمنين والمؤمنات، وإن رجالاً من القصّاص قد أحدثوا صلاة على خلفائهم، وأمرائهم عدل ما يصلّون على النبيّ وعلى المؤمنين، فإذا أتاك كتابي هذا، فمر قصّاصكم فليصلّوا على النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وليكن فيه إطناب دعائهم وصلاتهم، ثم ليصلّوا على المؤمنين والمؤمنات وليستنصروا الله، ولتكن مسألتهم عامة للمسلمين، وليدعوا ما سوى ذلك، فنسأل الله التوفيق في الأمور كلها، والرشاد والصواب والهدى فيما يحب ويرضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والسلام عليك”(49).
إلاّ أن المتداول من هذه الرسالة مقطع منها فقط نقله القاضي إسماعيل بن إسحاق الجهضمي (ت/282 هـ) و نقله عنه ابن كثير، وابن حجر، ولفظه عند الأخير قال: >وقد روى إسماعيل بن إسحاق في كتاب “أحكام القرآن” له بإسناد حسن عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب: (أما بعد، فإن ناساً من الناس التمسوا عمل الدنيا بعمل الآخرة، وإن ناساً من القصّاص أحدثوا في الصلاة على خلفائهم وأمرائهم عدل الصلاة على النبيّ، فإذا جاءك كتابي هذا فمرهم أن تكون صلاتهم على النبيّين، ودعاؤهم للمسلمين ويدعوا ما سوى ذلك)”(50).
والملاحظ في هذه الرسالة، أن المتداول منها يختلف عن نصها الكامل في بعض الكلمات مما أدى إلى اختلاف بعض مدلولاتها لذلك، فنحن سنتناول في ملاحظاتنا كلا اللفظين، مع ملاحظة أن الاختلاف في هذه الكلمات لا يؤثر على ثبوتها.
وهذه الرسالة فيها دلالات كثيرة أبرزها وهو ما يعنينا هنا، دلالتها على أن العمل في فترة صدورها كان بالصلاة البتراء، ويدلّ عليه أمران ـ أشارت إليهما الرسالة ـ وهما:
الأوّل: إن الرسالة لم تذكر الصلاة على الآل، ففي لفظها الأوّل أمـرت بالصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله وعلى المؤمنين، وفي لفظها الثاني أمرت بالصلاة على جميع الأنبياء، والحال أن النصوص النبوية جاءت بذكر، الآل ولم تأتِ بمن ذكرهم عمر بن عبد العزيز، فيكون الرجل؛ إمّا نسيهم لتوارث الطباع على ذلك، وإمّا تعمّده تماشياً مع المتعارف، والمنتشر بين الناس من العمل بالصلاة البتراء، ولولا ذلك، لذكرهم كما ذكر بقية الأنبياء والمؤمنين، ممن لم يرد فيهم نص، كما سيأتي توضيحه.
الثاني: أن الناس كانوا يتقرّبون إلى السلاطين والأمراء بالصلاة عليهم، كما يصلّون على رسول الله صلّى الله عليه وآله، كقولهم (معاوية صلّى الله عليه وسلّم!)، أو (مروان صلوات الله عليه!)(51)، وغيرها من العبارات، والذي يتجرأ على
هذه الأعمال مع شناعتها، وصراحة مخالفتها للسنّة كيف يصلّي على الآل، وهو يعلم أن ذلك لا يرضي الحكام الذين يسعى للتقرّب إليهم بما هو أعظم من ترك الآل؟
وعلى كل الاحتمالات فإن هذا الأمر يدلل لك بوضوح، على أن العمل في ذلك الوقت كان قائماً على الصلاة البتراء، وعدم ذكر الآل!
ولكي تتم الفائدة نحاول أن نسجل بعض الملاحظات حول الرسالة؛ لنكشف من خلالها حقيقة الموقف السائد في ذلك الزمان من الصلاة على الآل من حيث العمل، ومن حيث التنظير أيضاً:
الملاحظة الأُولى: عدم ذكر الآل في كيفية الصلاة التي أمر بها عمر، فيه إقرار صريح بصحّة العمل بالصلاة البتراء، وبنفس الوقت أعطاها بعداً شرعياً جديداً كانت تفتقد إليه؛ بسبب ما يتمتع به عمر بن عبد العزيز من موقع علمي، ورسمي له تأثير في نفوس الناس، وله حسابه في النظرية السنّية.
الملاحظة الثانية: أجاز عمر بن عبد العزيز في رسالته الصلاة على المؤمنين، وفي اللفظ الثاني أجاز الصلاة على بقية الأنبياء(عليهم السلام)، ولم يجوز ذلك على الآل؛
حيث لم يذكرهم كما ذكر الآخرين! مع أن الروايات أجمعت على ذكر الآل كما بيّناه سابقاً! وبنفس الوقت لا يوجد دليل صحيح على جواز الصلاة على من ذكرهم، فأمّا الصلاة على الأنبياء فلم يرد دليل على مشروعيتها إلاّ حديث ضعيف جداً أخرجه الجهضمي في “فضل الصلاة”، قال: >حدّثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، قال: ثنا عمر بن هارون، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن ثابت، عن أبي هريرة: أن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: (صلّوا على أنبياء الله ورسله فإن الله بعثهم كما بعثني) وحكم عليه الألباني في الهامش بقوله: >إسناده واهٍ جداً، عمر بن هارون هو البلخي متروك، وشيخه موسى بن عبيدة مثله، أو أقل منه ضعفاً”(52).
وحديث آخر أخرجه الطبراني، وفيه موسى بن عبيدة المتقدم(53).
وليس فقط لم يرد دليل على مشروعية الصلاة على غير نبينا صلّى الله عليه وآله، بل ورد بسند صحيح عن ابن عباس أنه نهى عنها، فقد أخرج الجهضمي بسنده إلى ابن عباس أنه قال: >لا تصلّوا صلاة على أحد إلاّ على النبيّ(صلّى الله عليه وسلّم)، ولكن يدعو للمسلمين والمسلمات بالاستغفار”(54). وعلّق عليه الألباني في الهامش وقال: >إسناده صحيح رجاله ثقات”(55).
وقد نقل ابن القيّم: “وقد حكي عن مالك رواية، أنه لا يصلّى على غير نبيّنا (صلّى الله عليه وسلّم)”(56).
وأمّا دليله على جواز ذلك على المؤمنين، فلم يسبقه إليه أحد ولم يتابعه عليه أحد، فإنه حاول أن يعتمد القرآن فقط؛ ليوحي أنها خاصّة بالنبيّ صلّى الله عليه وآله فقط متجاهلاً الروايات! وحاول إدخال المؤمنين بالقرآن أيضاً ليؤكد إيحاءه السابق، فاعتمد آية لا علاقة لها بالموضوع بالمرة!
فما أدري ما الذي حمله على هذا الاستدلال السقيم لإدخال المؤمنين،
ولم يعتمد الروايات المتواترة المجمعة على ذكر الآل، فهل نسيها؟ أم جهلها؟
أم لا يراها دليلاً كافياً، وصالحاً للاعتماد، كما يرى دليله كافياً لإدخال
المؤمنين؟!
الملاحظة الثالثة: إنّ هذا العمل الذي استنكره عمر بن عبد العزيز كان يجري على مرأى ومسمع ممن سبقه من الحكّام، ولم نسمع أنهم غيّروا أو استنكروا مع توفّر القدرة، ووضوح الحال، مما يقوّي عندي أنهم هم الذين أشاروا بذلك؛ إما تصريحاً، أو تلميحاً، ويؤيده جرأة بني أمية على تشويه السنّة، ونشر البدع؛ لهذا فلابد أن يكون هذا العمل منتشراً في كل طبقات المجتمع، وحتى المنابر الرسمية، فما تباركه الدولة يكون مدعاة لتهافت الرعية عليه ليتقرّبوا إليها به، ويشهد له تبني الخليفة نفسه بمنعه، وبكتاب رسمي عمّمه على جميع الولايات!
لهذا فإن نسبة هذه البدعة للقصّاصين، وبعض الناس، كما جاء بالكتاب
لا ينطبق مع الواقع، ولعله إنما أراد بنسبته إليهم توهين هذا العمل من جهة، ولمحاولة إبعاد الشبهة عن تبني الحكومة لهذه البدعة من جهة أخرى.
ثانياً: ترك الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله
مما هو معروف أن بني هاشم، وأهل البيت كانوا يفتخرون بأن النبيّ صلّى الله عليه وآله منهم، وكانت العرب تغبطهم على ذلك، وفيهم من كان يحسدهم، ولا يحتمله لهم؛ لما كان من عداوة وبغض بينهم ورثوه من زمن الجاهلية، وازداد وترسّخ وأخذ أبعاداً جديدة عند قيام الدعوة، وظهور النبوّة فيهم، ومن هؤلاء بنو أمية بالدرجة الأُولى، والزبيريون وغيرهم بالدرجة الثانية، وهذا العداء والبغض كان يدفع هؤلاء للتربص ببني هاشم وأهل البيت؛ لإيذائهم ومحاربة كل ما له صلة بهم كما بيّناه سابقاً، وكان من مفردات تلك الحرب، هو منعهم الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله كي لا يفتخر بذلك بنو هاشم، فيتعزز مقامهم، ومنزلتهم بين الناس نظير ما جرى في حذف الآل، فإنما هي حلقات يكمّل بعضها بعضاً باتجاه هدف واحد.
وهذه الجرأة على مقام رسول الله صلّى الله عليه وآله، وسنته الشريفة صرّح بها عميد الأسرة الزبيرية عبد الله بن الزبير، فهذا الشخص كان معروفاً بعدائه لبني هاشم وأهل البيت(عليهم السلام)، فهو من قادة الناكثين في معركة الجمل، وكبار المحرّضين عليها، وهو ممن كان يسبّ الإمام علياً(عليه السلام) علناً، وممن أعلن بغضه لبني هاشم، وحاول إحراقهم جميعاً! وغيرها من مواقفه المشهورة بالعداء السافر، والصريح لبني هاشم، وأهل البيت(عليهم السلام) (57)، وكان من مواقف العداء التي أعلنها ضدهم هو امتناعه أيام ادعائه الخلافة من الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله،
وعندما أنكر عليه ذلك اعتذر بعذر أقبح من فعل، فقد روى عمر بن شبة، وابن الكلبي، والواقدي وغيرهم من رواة السير، أن ابن الزبير مكث أيام ادّعائه الخلافة أربعين جمعة لا يصلي فيها على النبيّ صلّى الله عليه وآله، وقال: >لا يمنعني من ذكره إلاّ أن تشمخ رجال بآنافها”، وفي رواية محمد بن حبيب وأبي عبيدة معمر بن المثنى: >أن له أهيل سوء ينغضون رؤوسهم عند ذكره”(58).
وهذا التصريح من ابن الزبير لا يمثل السياسة الزبيرية فحسب، إنما يعكس سياسة عامّة سادت تلك الفترة تمثلت في العداء لبني هاشم عموماً، ولأهل البيت خصوصاً، فإن الساعين للسلطة كانوا يرون فيهم حاجزاً عن الوصول إلى أهدافهم، لذلك اتفقت كلمتهم على هذا العداء، وتشابهت أساليبهم في ذلك دون تنسيق مسبق، كما حصل بين الأمويين والزبيريين رغم العداء المعروف بينهم، لذلك كان أحدهم يستفيد من تجارب الآخر، وأحدهم يحاكي الآخر في كل ما يفعله، وما يصّرح به.
فيصلنا من هذا تصريح، ومن ذلك موقف، فتجتمع لتشكّل الصورة الواقعية لموقفهم من أهل البيت(عليهم السلام).
من هنا فنحن نعتبر هذا التصريح من ابن الزبير يمثل الخطاب الرسمي المعبّر عن حقيقة موقف تلك الحقبة الزمنية من بني هاشم وأهل البيت بجميع امتداداتها سواء كانت زبيرية أو أموية.
فإن كان ابن الزبير فعل ذلك من باب بغضه لبني هاشم وحرصه على الحط من قدرهم، فمعاوية وبنو أمية أشدّ حرصاً على ذلك، وإن كان من باب جرأته
على السنّة، فمعاوية وبنو أمية أكثر جرأة؛ لعظم سلطانهم، وشدّة سطوتهم، وقد بيـّنا ذلك في النقاط الأربعة السابقة، فيكون معاوية وبنو أميـة أولى بهذا الفعل من ابن الزبير، وإنما هو مقلّد لهم في ذلك، فهم أسبق منه في العداء لبني هاشم وأهل البيت وأكثر خبرة، فما تركوا شيئاً يرون فيه انتقاصاً لقدر بني هاشم إلاّ وفعلوه، وله شاهد من التاريخ، فإنك لو تتبعت الرسائل التي كان يبعث بها معاوية، وقارنتها مع رسائل الإمام علي(عليه السلام)، لوجدت أن الإمام علياً في كل مرة يذكر النبيّ صلّى الله عليه وآله يصلي عليه صلاة تامّة، بالوقت الذي تجد معاوية لا يصلي عليه أبداً إلاّ في مواقع نادرة جداً وصلاة بتراء ولعل النسّاخ تبرعوا له بها! فكيف يصلّي على من لا يطيق سماع اسمه(59)؟
ومن كان لا يطيق الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله ولا يحتملها فكيف يطيق الصلاة على آله ! من هنا فإن هذا الأمر يعدُّ دليلاً آخر على ظهور الصلاة البتراء في زمن بني أمية.
ثالثاً: إضافة الصحابة
وهو التشويه التوأم للصلاة البتراء فهما يشتركان في المنشأ والغاية، فكلاهما أسسته المصالح السياسية، وكل منهما كان الهدف منه حرمان أهل البيت(عليهم السلام) من حقوقهم، فحيث إنّ الأوّل حرمهم منه تماماً، فإنّ الثاني حرمهم من ميزة الاختصاص به، وكلاهما ظلم لأهل البيت(عليهم السلام)، وإن كان التشويه الثاني في ظاهره حسناً بلحاظ اشتماله على تعظيم وتقدير للصحابة، والمسلمون يحملون هذا الشعور بحقّ الصحابة، ويحبّون أن يعبروا عن ذلك الشعور، فجاءت هذه الإضافة لتكون خير وسيلة للتعبير عن هذا الشعور.
فكان ذلك مدعاة لتمسكهم بها والمواظبة عليها، وشيوعها وانتشارها بين المسلمين وكأنّها سنّة ثابتة لا يصحّ التخلي عنها، مع أن الكلّ يعترف بأنه لا دليل عليها من كتاب أو سنّة، ولكن شيوعها بين المسلمين وتمسكهم بها، وما عليها من حُسْنٍ ظاهر دفع بعض علماء السنّة إلى البحث عن مبرّرات تصوروا أنّها تصلح كدليل على هذه البدعة مع أنّه كان الأجدر بهم أن يبحثوا عن منشأ هذه البدعة ويوجهوا المسلمين إلى السنّة الصحيحة. ونحن سنذكر لكم دليلهم، ومن ثم المنشأ لهذه البدعة.
دليل أهل السنّة على إضافة الصحابة
فهم بعد أن اعترفوا بعدم وجود أي دليل من كتاب أو سنّة على مشروعية إضافة الصحابة إلى كيفية الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله، حيث إنّ جميع
ما ورد من روايات في كيفية الصلاة لم تذكر إلاّ الآل مع النبيّ صلّى الله عليه وآله، راحوا يستدلون على تلك المشروعية بأدلّة من خارج الكتاب والسنّة الشريفة، حيث استدلّوا على ذلك بالقياس على الآل(60)، باعتبار أن الآل التي ذكرتهم الروايات فيهم من هو ليس بصحابي بحسب تفسيرهم للآل، والصحابة بنظرهم أفضل من الآل غير الصحابة، عليه يصحّ إضافة الصحابة قياساً على ذلك، وفي ذلك يقول النبهاني في “سعادة الدارين”: “وأما الصلاة على أصحابه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فإنها لم ترد في الأحاديث، وقد وقع الاتفاق على استحسانها بالقياس على الآل، كما ذكره شرّاح الدلائل وغيرهم”(61).
ونقل عن السيد محمود أفندي الآلوسي قوله: “ذكر بعضهم أنّه ينبغي طلب الصلاة للآل أيضاً؛ لأنها مستحبة عليهم بالنص والصحب، لأنهم ملحقون بهم، قيل بقياس أولى لأنهم أفضل من آل لا صحبة لهم”(62).
وهذا القياس غير صحيح لعدم اطراده من جهة، ولكون كيفية الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله عبادة والعبادة لا يصحّ فيها القياس.
وقد أنكر هذا القياس وصحّة إضافة الصحابة الشيخ محمد بن عقيل الحضرمي الشافعي حيث قال: “وأظن أن الشيخ [ ابن حجر] كغيره لا يجهلون أنه لم ينقل عن النبيّ صلّى الله عليه وآله ولا عن أحد من أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ أنه صلّى على الصحب تبعاً للصلاة عليه صلّى الله عليه وآله أو أمر بها لا في
الصلاة ولا خارجها، وإنّما قاسها من بعدهم على الصلاة على الآل، والقياس الذي ذكروه فاسد؛ لعدم الاطراد، ولوجود الفارق “(64).
وكذا أنكر مشروعية هذه الإضافة العالم المغربي عبد الله بن الصدّيق الغماري المالكي، حيث قال: >وننبه هنا على خطأ وقع من جماهير المسلمين، قلّد فيه بعضهم بعضاً، ولم يتفطن له إلاّ الشيعة؛ ذلك أنّ الناس حين يصلّون على النبيّ صلّى الله عليه وآله يذكرون معه أصحابه، مع أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله حين سأله الصحابة فقالوا: كيف نصلّي عليك؟ أجابهم بقوله: “قولوا: اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد” وفي رواية (اللّهم صلّ على محمّد وأزواجه وذريته) ولم يأتِ في شيء من طرق الحديث ذكر أصحابه، مع كثرة الطرق وبلوغها حدّ التواتر، فذكر الصحابة في الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله زيادة على ما علّمه الشارع واستدراك عليه، وهو لا يجوز. وأيضاً فإن الصلاة حقّ للنبي صلّى الله عليه وآله، ولآله، ولا دخل للصحابة فيها، لكن يترضّى عنهم”(65).
منشأ هذه البدعة:
لا يختلف منشأ الصلاة على الصحابة عن منشأ الصلاة البتراء كما ذكرنا لكم، فكلاهما أنشأته السياسة المناهضة لأهل البيت (عليهم السلام)، فالمتأمل للدور الأموي في تأسيس الصلاة البتراء يدرك تماماً دورهم في تأسيس الصلاة على الصحابة، فإنّ كلتا البدعتين تصبّان في الهدف الأموي في محاربة فضائل أهل البيت (عليهم السلام) ومقاماتهم، وحيث إن الأُولى تسقط حقهم تماماً نجد الثانية تلغي اختصاصهم بها، وما يحمله هذا الاختصاص من ميزة لا تحتملها السياسة الأموية، وقد أعلنها
معاوية صراحة في قراره الملكي للنّاس عندما أمرهم بأنّ لا يدَعوا فضيلة لأهل البيت(عليهم السلام) إلاّ ووضعوا مثلها في الصحابة، وهو قوله الذي ذكرناه في النقاط الأربع السابقة عن المدائني، قال: “ولا تتركوا خبراً يرويه أحدٌ من المسلمين في أبي تراب إلاّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة، فإن هذا أحبّ إليّ وأقرّ لعيني، وأدحض لحجّة أبي تراب وشيعته ” ؛ ولهذا انتشرت أحاديث كثيرة موضوعة بحق الصحابة، كما يقول ابن عرفة المعروف بنفطويه ـ وهو من أكابر المحدثين وأعلامهم ـ :>إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أمية تقرّباً إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم”(66).
ولابد أن تكون الصلاة على الصحابة أبرز مصاديق تطبيق هذا القرار، لما في سلب أهل البيت اختصاصهم لهذا المقام من مكسب عظيم للسياسة الأموية القائمة على محاربة أهل البيت، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن ما يلحق الصحابة من امتياز يلحق معاوية باعتبار أن معاوية صحابي بحسب الاصطلاح السياسي للصحبة، وهذا مكسب عظيم لمعاوية الباحث عن عمق شرعي يمرّر من خلاله مشروعية سلطته، مضافاً لما يمثله هذا من تلاعب بالسنّة كانت تسعى له السياسة الأموية.
ومرّت بك رسالة عمر بن عبد العزيز آنفاً التي كشفت لك مدى التلاعب الذي تعرضت له فضيلة الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله، حتى وصل الأمر إلى حدّ الصلاة على الأمراء والسلاطين، فإذا كان الأمر كذلك فتكون الصلاة على الصحابة أولى لكون منفعتها لمعاوية أكثر، وانسجامها مع قراره في لزوم نسبة ما
ثبت لأهل البيت إلى الصحابة. بل إن التأمل في رسالة ابن عبد العزيز يكشف لك عن انتشار الصلاة على الصحابة في ذلك الوقت، فإن عمر بن عبد العزيز عندما نهى عن الصلاة على الأمراء والسلاطين أمر بالصلاة على المؤمنين! وأول المؤمنين عند الناس هم الصحابة، وهذه دعوة صريحة للصلاة على الصحابة، فيكون عمر بذلك قد شرّع لبدعة، في الوقت الذي أراد برسالته أن يميت بدعة أسستها السياسة الأموية.
وهكذا انتشرت هذه البدعة بين الناس منذ ذلك الوقت، وكان لهذا الانتشار عوامل عدّة أشرنا لبعضها سابقاً، ونضيف لها عاملاً آخر كان له دور مباشر في انتشار هذه البدعة وإدامتها حتى الساعة، وهو الخط الأموي الذي لم تخلُ منه الأمة الإسلامية على مرّ العصور وإن ظهر بمسمّيات مختلفة، فالمحتوى واحد والهدف واحد وهو حرمان أهل البيت(عليهم السلام) مما خصّهم الله تعالى حيث سعى هذا الخط إلى شرعنة هذه البدعة والدعوة لها؛ ولهذا تجدهم حريصين أشدّ الحرص على إضافة الصحابة عند الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله ويؤكدونها بلفظة (أجمعين) ليتأكدوا من دخول أسيادهم من بني أمية في الصلاة.
وفي ذلك يقول العالم السلفي الحنبلي المعاصر حسن بن فرحان المالكي: > قد يلاحظ بعض الأخوة أنني غالباً اقتصر في الصلاة على النبيّ والآل دون الصحابة ليس إنكاراً لفضلهم ولا ملتزماً بذلك، وإنما محاولاً التذكير بالنص الذي نردده في كل تشهّد (اللهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمد)، فليس فيه، وفي الأحاديث التزام الصلاة على الصحابة كما نفعل اليوم اتّباعاً لبعض محدثات السلفية الأُولى، ولم نكتفِ بالصلاة على الصحب حتى أدخلنا فيها كلمة
(أجمعين)! حتى يدخل معاوية والوليد وقاتل عمار ! فالتزام هذا والإنكار على مَن اقتصر على الآل، للأسف إنها من البدع المشتهرة عند غلاتنا، تلك البدع التي ابتدعناها لمعارضة الشيعة، وهي دليل على رغبة الغلاة منّا من قديم ألاّ يختصّ أهل البيت بشيء من الخصائص! ولولا أن الصلاة على الآل يردّدها المسلمون في كل تشهّد لنسوها مثلما نَسوا المنزلة الهارونية وبغي معاوية”(67).
وبذلك يتضح لك أنّ الصلاة على الصحابة كتوأمها الصلاة البتراء، أسستها السياسة الأموية لتأمين مقدار من الشرعية لقيادتها، وبنفس الوقت حرمان عدوهم من ميزة الاختصاص بهذه الفضيلة العظيمة، لما في هذا الاختصاص من دور ملحوظ في توجيه أنظار المسلمين نحو أهل البيت (عليهم السلام)، وفي إشراك غيرهم معهم إلغاء لدور هذا الاختصاص.
رابعاً: تشويهات من نوع آخر
وأعني بالنوع الآخر هو محاولة البعض ليس تشويه الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله من حيث الكيفية والألفاظ، وإنما محاصرتها، وملاحقتها ميدانياً، وقد قام بذلك البعض وبذرائع لا أساس لها من الصحّة، وبأساليب مختلفة، مما أدى إلى تحجيم حركتها، وحضورها بين المسلمين، ووضع القيود على العمل بها؛ لأجل تضعيف دورها الذي أريد لها في خلق حالة من التواصل والارتباط الروحي بين الأمّة، وبين النبيّ وآله (صلوات الله عليه وعليهم).
وقد رصد لنا هذه المحاولات المغرضة أحد المتخصصين في هذا الميدان، وهو العالم الزيدي علي بن إبراهيم الأمير الصنعاني (ت/1219هـ) في كتابه “البدعة” ففي معرض ردّه على من أنكر لزوم الصلاة عليه صلّى الله عليه وآله كلّما ذكر، ـ وبعد أن ذكر حديث (البخيل من ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ)، والذي تقدّم الكلام حوله سابقاً، ـ قال: >البخيل كل البخيل من ذكر عنده أكرم من أكرم الله تعالى به العالمين فلم يصلّ عليه، فكيف حال الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، ولقد علمنا بجماعة يصنعون هذا، وما ذاك إلاّ أنهم اتبعوا أهواءهم ولمـّا لم ينتفعوا بعلمهم ضرّهم وانقلب وبالاً عليهم، وهم يلبسون على الناس بتسمية الصلاة على نبيهم صلّى الله عليه وآله بدعة تارة، وتارة رفع الصوت بها يشغل المصلّين، وأُخرى بأن الاشتغال بالأذكار الواردة أولى، ويدلون على من استخفّوه بهذه الشبه”(68). وأشار إلى مثل هذه التلبيسات في موضع آخر مستنكراً ذلك قال: >كيف يقال: إنّ كونها تكرر عشراً أو أكثر من سائر المصلين، مما ينهى عنه”(69)؟!.
ومثل هذه التشويهات والتلبيسات ذكرها الشيخ رضوان العدل بيبرس الشافعي المصري (ت/1303هـ) في كتابه “روضة المحتاجين لمعرفة قواعد الدين” ص384 حيث قال مانصّه: “وكان – محمد بن عبد الوهاب – ينهى عن الصلاة على النبيّ (صلّى الله عليه وسلّم) ويتأذّى من سماعها، وينهى عن الاتيان بها ليلة الجمعة، وعن الجهر بها على المنائر، ويؤذي من يفعل ذلك، ويعاقبه أشد العقاب وربما قتله.
وكان يقول: إن الربابة في بيت الخاطئة يعني الزانية أقل إثماً ممن ينادي بالصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على المنائر، ويلبّس على أصحابه بأن ذلك كله محافظة على التوحيد، وأحرق دلائل الخيرات وغيرها من كتب الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله ويتستّر بقوله: إن ذلك بدعة وأنه يريد المحافظة على التوحيد”(70).
وهذه التلبيسات ما زالت مستمرة يُفتى بها ويُروّج لها وتُختلق لها المبررات، حيث نجد العالم السلفي المعاصر محمد جميل زينو في معرض جوابه لمن سأل عن الحكم الشرعي لمن جهر بالصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله بعد الأذان أو قبله، والذي اعتاده المؤذنون في البلاد الإسلامية ـ ما عدا السعودية! ـ قال بعدم جواز ذلك وجاء بحجج لا تصمد أمام النقاش العلمي حيث ذكر ما ملخصه: أن الأذان موقوف على كلمات محدّدة، ولم يرد الدليل على أن الجهر بالصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله منه، وكذا لم يرد عن الأئمة الأربعة ومن جاء بعدهم أنهم كانوا يعملون بذلك.
وجوابه أنّ الذي يجهر بالصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله بعد الأذان أو قبله لا يقول إن ذلك جزء من الأذان فضلاً عن نفس التصلية حتى يقال له إن
الأذان موقوف وكلماته محددة. وإنما جاء المصلي بالصلاة لإجماع المسلمين على استحباب الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله عند ذكر الله تعالى، وفي كل مجلس، وعند ذكر اسمه الشريف صلّى الله عليه وآله ـ وقد مرّ بيانه في مواطن الاستحباب ـ والأذان يصدق عليه أنه مجلس، وفيه ذكر الله تعالى، وذكر النبيّ صلّى الله عليه وآله، وعليه يصحّ الصلاة عليه فيه بهذه اللحاظات.
وأما الجهر بها فلم يرد فيه نهي، بل أن النووي والخطيب البغدادي يريا استحباب ذلك فعن النووي في “الأذكار” قال: >يستحب لقارئ الحديث وغيره مما في معناه إذا ذكر اسم الرسول (صلّى الله عليه وسلّم) أن يرفع المسلم صوته بالصلاة عليه رفعاً غير فاحش، وممن نصّ على ذلك الإمام الحافظ الخطيب البغدادي وآخرون”(71).
وقول النووي وغيره بالاستحباب لابد وأن اعتمدوا فيه على رواية عن رسول الله صلّى عليه عليه وآله، وهذه الرواية وإن لم يذكرها النووي إلاّ أنّ الأمير الصنعاني ذكرها في كتابه “البدعة” قال: روى السيد أبو طالب في تيسير المطالب حديثاً سنده إلى المصطفى (صلّى الله عليه وآله): >ارفعوا أصواتكم بالصلاة عليّ وعلى أهل بيتي، فإنها تذهب بالنفاق”(72)
وكذلك فإن المؤذن يجهر بالرسالة للنبي صلّى الله عليه وآله فما المانع من الجهر بالصلاة عليه وهو مأمور بالصلاة عليه عند ذكره، والأذان هو إعلان لشعيرة من شعائر الله تعالى، والصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله من أعظم الشعائر. فإذا
علمنا أنه لم يرد نهي خاص في هذا المورد عندها تسلم هذه العمومات من التخصيص، فيثبت الاستحباب فضلاً عن الجواز.
وأما تذرعك بأن ذلك لم يثبت عن الأئمة الأربعة فهو مردود، فالتشريع إنما يؤخذ من الكتاب والسنّة، وهؤلاء ليسوا إلا مجتهدين وخصوصاً على مبانيكم، ثم من قال: إنهم لم يكونوا يعملون بذلك، فعدم وقوفك على الدليل ليس بدليل على العدم، بل إنّ انتشار العمل به بين جميع المسلمين إلاّ السعودية! _ قبل أن تسمىّ هذه البلاد بالسعودية كان المسلمون فيها على هذه السنّة الحسنةـ دون أن يرد نهي عن أحد من الأئمة الأربعة أو من أتباعهم دليل على إقرارهم له، مضافاً إلى أن عمل جميع المسلمين به يمثل سيرة متشرعية وهي برأسها دليل على الصحة، خصوصاً وأن عملهم هذا جاء منسجماً مع العمومات التي يعملونها في استحباب الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله التي اشرنا إليها آنفاً.
وبعد هذه الأدلّة ذكر دليلاً آخر نذكره بنصّه، قال: >الجهر بالصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد الأذان يشوش على المصلّين الذين يصلّون السنّة بعد الأذان، وقد دخل الرسول صلّى الله عليه وسلّم المسجد فرأى جماعة يصلّون وجماعة يقرأون القرآن، فقال: (أيها الناس: كلكم يناجي ربّه، ولا يجهر بعضكم على بعض في القرآن) فإذا كان قارئ القرآن قد نهاه الرسول (صلّى الله عليه وسلّم) أن يجهر بقراءته ويرفع صوته؛ لئلا يشوّش على المصلين، فما بالك بالجهر بالصلاة على النبيّ (صلّى الله عليه وسلّم)؟، فهو أولى بالمنع من الجهر بالقرآن”(73).
وهو استدلال غير تام بالمرّة، لأن الأولوية التي رتّب عليها منع الجهر
بالصلاة قياساً على الجهر بقراءة القرآن التي نهى عنها الحديث، إنما أخذها من أفضلية قراءة القرآن على الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله، وهذه ـ إن صحّت ـ لا علاقة لها بالتشويش المزعوم أبداً، فالتشويش إنما يتحقق بإشغال الوقت المخصص للصلاة، وهذا قد يتحقق بقراءة القرآن؛ لأنه قد يستوعب ذلك الوقت، أما الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله، فلا تستغرق من الوقت إلاّ أقلّ من دقيقة يقولها المؤذن بعد الأذان قبل أن يشرع المصلّي بصلاته، ودون أن يشعر بها كما يقرّ بذلك الوجدان، ويشهد له الواقع، فأيّ تشويش هذا الذي تدّعون؟ وأيّ أولوية هذه التي استندتم إليها؟ والكل يعرف كم هو فرق بين الجهر بالصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله، وبين الجهر بقراءة القرآن(74).
حصيلة المبحث الثاني
ثبت من خلال البحث أن الصلاة البتراء ظهرت في زمن بني أمية، لتمثل مفردة من مفردات العداء الأموي المتأصل لأهل البيت(عليهم السلام)، وسعيهم الحثيث لإخفاء كل فضل ثبت لهم، وثبت لك أن هذا التشويه لم يكن الوحيد الذي
تعرضت له الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله في زمن بني أمية، بل تبعتها تشويهات أخرى من ترك الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله بأجمعها إلى إضافتها إلى الخلفاء والأمراء، وانتهاءً بإدخال الصحابة في كيفيتها. وقد اختفى من هذه التشويهات اثنان وبقي اثنان، واللذان اختفيا هما حذف الصلاة كلها فقد انتهت بانتهاء موضوعها، وهو الصراع مع الوجود العلوي، والثاني هو إضافتها للخلفاء والأمراء، فقد انتهى بانتهاء أسبابه الموضوعية التي ساعدت على العمل بهذه البدع.
وأما اللذان بقيا فهما: الأوّل إدخال الصحابة في كيفية الصلاة، والثاني حذف الآل، والعمل بالصلاة البتراء، فإنه ما زال قائماً إلى هذه الساعة، فأهل السنّة ـ بجميع طبقاتهم وانتماءاتهم المذهبية والثقافية ـ عوامهم وعلماؤهم، مجتهدوهم ومقلدوهم، وفي كل البلاد وعلى مرّ العصور، في كل ما يكتبون، أو يقولون، تجدهم إذا صلّوا على النبيّ صلّى الله عليه وآله لا يذكرون الآل إلاّ في مواضع نادرة، وإذا ذكروهم يردفون معهم الصحابة.
ولو جمعنا هذه المحصلة التي خرجنا بها من هذا المبحث مع ما استجدّ من ظروف، وأحوال بعد تأسيس هذه التشويهات، من انفتاح على الحقيقة، وعلى السنّة الصحيحة بعد رفع الحظر عنها، وشروع البحث العلمي وتأسيس المذاهب، والاجتهادات المحركة للوسط العلمي، نحو الحجّة الصحيحة والدليل الصائب، والتي أبرزت جانباً منه بحوثنا السابقة حول موقف أهل السنّة من كيفية الصلاة المأمور بها وإجماعهم على مطلوبية الآل بين موجب لها وبين قائل بالاستحباب، لظهر لك أن انتشار العمل بالصلاة البتراء وبقاءها إلى هذه الساعة، وغفلتهم عما
ثبت عندهم من السنّة الصحيحة ليس له ما يبرره إلاّ أن يكون عن تقليد لبني أمية أو ما يسمونه بالالتزام بما كان عليه السلف؛ حيث توارثوها عنه، وغفلوا عن أن السلف إنما عملوا بها تقية، وتابعهم الناس جيلاً بعد جيل، حتى أصبح هو السنّة.
وهذا الحال أوقع أهل السنّة في تناقض بين النظرية والتطبيق، بين ما وصل إليه الدليل عندهم، وبين ما هم عليه من العمل، وبدل أن يدفعهم هذا التناقض إلى إحياء العمل بالسنّة الصحيحة، ومنع العمل بالصلاة البتراء، راح بعضهم يبحث عن أدلة على مشروعية العمل بالصلاة البتراء رغبة منه في الحفاظ على ما كان عليه السلف!
وهذه المعطيات التي أفرزها البحث السابق سنبحثها في عناوين ثلاثة:
الأوّل: إن العمل بالصلاة البتراء جاء متابعة لبني أمية.
الثاني: نتناول فيه حالة التناقض بين النظرية والتطبيق.
الثالث: سيكون حول أدلة أهل السنّة على مشروعية العمل بالصلاة البتراء، وهذا البحث سنفرده في فصل خاص سيأتي بعد هذا الفصل.
الأوّل: إتّباع بني أمية في العمل بالصلاة البتراء
ثبت لك أن بني أمية قد أسسوا الصلاة البتراء ونشروها بين الناس بالترغيب، والترهيب، وسلطان بني أمية معروف بقسوته وظلمه، والناس بطبيعتها ميّالة للدعة والسكوت، وتحاشي السلطان، فتندفع إلى متابعته بشكل عفوي طلباً للعافية، فينتشر ما يريده السلطان، وتعمل به الرعية، وبمرور الزمن يصبح هو السنّة. ولأبي جعفر الإسكافي تحليل نفسي، وعلمي لهذه الظاهرة ينقله لنا تلميذه ابن أبي الحديد عنه قال: >إنّ بعض الملوك ربما أحدثوا قولاً، أو ديناًَ لهوى، فيحملون الناس على
ذلك، حتى لا يعرفون غيره، كنحو ما أخذ الناسَ الحجاجُ بن يوسف بقراءة عثمان وترك قراءة ابن مسعود وأبيّ بن كعب، وتوعّد على ذلك بدون ما صنع هو وجبابرة بني أمية وطغاة بني مروان بولد علي(عليه السلام) وشيعته، وإنما كان سلطانه نحو عشرين سنة، فما مات الحجاج حتى اجتمع أهل العراق على قراءة عثمان، ونشأ أبناؤهم لا يعرفون غيرها، لإمساك الآباء عنها، وكفّ المعلمين عن تعليمها، حتى لو قرأت عليهم قراءة عبد الله وأبيّ ما عرفوها، ولظنوا بتأليفها الاستكراه والاستهجان، لإلف العادة وطول الجهالة، لأنه إذا استولت على الرعية الغلبة، وطالت عليهم أيام التسلط وشاعت فيهم المخافة، وشملتهم التقية، اتفقوا على التخاذل والتساكت فلا تزال الأيام تأخذ من بصائرهم، وتنقص من ضمائرهم، وتنقض من مرائرهم، حتى تصير البدعة التي أحدثوها غامرة للسنّة التي كانوا يعرفونها”(75).
وما نحن فيه من الصلاة البتراء ما هو إلاّ مفردة من مفردات هذه الظاهرة، وهي غلبة اتّباع السلطان عند الناس، ولا يخفى أن سببه في عموم الناس يختلف في أنواعه ومستوياته عن سببه في علمائهم، ومن له حظ في معرفة الحقيقة.
فالإتّباع له أسباب، ومبررات متعددة لا تنحصر في الخوف، والتقية فقط، فالتقليد بنفسه غريزة متغلغلة في نفوس الناس تسيرها من حيث لا تشعر كما يقول الإمام أبو زهرة: >إن نزعة التقليد متغلغلة في نفوس الناس توجههم، وهم لا يشعرون”(76).
وهذه الغريزة بطبيعتها تشتدّ، وتصبح هي الموجه الرئيس للعقائد، والسلوك
عند عوام الناس؛ لذلك تجدهم أسرع إلى متابعة السلطان لاجتماع غريزة التقليد فيهم، مع الخشية، وطلبهم للعافية. والتقليد فيهم تراه يأخذ بعداً أقوى إذا كان السلطان يتلبس بلباس الشريعة، فيوهمهم بأن ما يأمرهم به له أصل في الشريعة.
والناس بطبيعتهم إذا اعتادوا على شيء فمن الصعب، بل من المستحيل أن تتمكن من تغييره فيهم خصوصاً إذا كان مرتبطاً بالعقيدة، وأصبح من مميزات انتمائهم المذهبي، فبنو أمية تحكّموا في عقائد الناس لعشرات السنين ومرّت أجيال لا تعرف من الصلاة إلاّ البتراء حتى تأصّلت فيهم واستحكمت عليها طباعهم، فما عادوا يتصوّرون، أو يصدقون أن السنّة في غير ما تعوّدوا عليه، وهكذا ورثها التالون عن الأولين إلى هذه الساعة، وكم له من نظير في عقائد الناس لا تخفى على المتتبع.
وأمّا اتّباع العلماء لبني أمية وتقليدهم في ما غيـّروه من السنن، فالغالب فيه هو الخوف والتقية، وإن كان بعضهم انخرط في التيار الأموي، وأخذ يرّوج لأفكاره، ويدافع عن أفعاله أمثال الزهري، والشعبي، وأبي بكر بن حزم، وابن سيرين وغيرهم، ولو راجعت تراجمهم، لوجدت ذلك واضحاً فيهم(77).
وسواء كان بفعل التقية، أم لأسباب أخرى، فإن العمل بالصلاة البتراء انتشر في أوساط علماء العصر الأموي ومرّت على ذلك منهم أجيال، كل جيل يضيف للعمل بها شيئاً من الشرعية والقدسية بفعل كثرة الاستعمال، وطول العهد. واستمرّ الأمر هكذا حتى وصل إلى علماء ما بعد الفترة الأموية، فأخذوه سنّة مسلّمة، دون
أن يفحصوا عن صحتها؛ لثقتهم بأن السلف لايعملون إلاّ بالسنّة الصحيحة، ولأن البدع بطبيعتها تكتسب قدسية، وشرعية بمرور الزمن!!
وبالرغم من أن المقلدين للسلف عاشوا في عصر تدوين السنّة، وعصر الانفتاح العلمي، ووقفوا على الروايات المجمعة على ذكر الآل في كيفية الصلاة، وأقرّوا في مواقع الاستدلال بأن الآل من المأمور به في كيفية الصلاة كما مرّ سابقاً، ولكنهم مع ذلك بقوا يعملون بالصلاة البتراء، وذلك لسطوة التقليد، وقداسة ما كان عليه السلف، ولعامل آخر قد يكون له تأثير أيضاً وهو ما يتعلق بالنشأة، فإن العالم قبل أن يعرف الحقيقة يكون قد مرّت عليه عقود من الزمن يعمل بالصلاة البتراء، فيستقيم عليها طبعه، وينعقد عليها لسانه، فيصعب عليه الإقلاع عنها عندئذ.
ولم يكتفِ المقلدون للسلف بمتابعتهم لهم بالعمل بالصلاة البتراء، بل راحوا يتكلّفون الدليل على صحة ذلك العمل، كما سيواتيك قريباً. كل ذلك من أجل الدفاع عن سنّة السلف. والمحافظة على استمرار العمل بها، مع أنه كان الأحرى بهم، وصوناً لمقام السلف، وحرصاً على السنّة الصحيحة أن يكشفوا عن الحقيقة ويبيّنوا عذر السلف بعملهم بالصلاة البتراء، وهم معذورون حقاً إذا كان تقية من بني أمية، ولكن يبدو أن سطوة التقليد، والرغبة في المحافظة على الموروث أقوى من الرغبة في معرفة الصحيح من السنّة!!!
وفي تأثير التقليد على السنّة يقول الإمام محمد أبو زهرة: >إن نزعة التقليد متغلغلة في نفوس الناس توجههم وهم لا يشعرون، وإن سلطان الأفكار التي اكتسبت قداسة بمرور الأجيال تسيطر على القلوب، فتدفع العقول إلى وضع براهين لبيان حسنها وقبح غيرها”(78).
وما ذهبنا إليه من أن العمل بالصلاة البتراء كان تقية من بني أمية، ذهب إليه بعض علماء أهل السنّة كالإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني (ت/1182هـ) حيث قال: >ومن هنا تعلم أن حذف لفظ الآل من الصلاة كما يقع في كتب الحديث ليس على ما ينبغي، وكنت سؤلت عنه قديماً فأجبت أنه قد صحّ عند أهل الحديث بلا ريب كيفية الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله وهم رواتها، وكأنهم حذفوها خطأ وتقية لما كان في الدولة الأموية من يكره ذكرهم، ثم استمرّ عليه عمل الناس متابعة من الآخر للأول فلا وجه له”(79).
وذهب إليه أيضاً صدّيق بن حسن القنوجي، حيث قال: > وأمّا أئمة أهل الحديث، فلعلّ العذر لهم في عدم رقم الصلاة على الآل التقوّي لأهل الجفاء والضلال الذين عادوا آل محمد(عليهم السلام)، وأخافوهم كل مخافة وشرّدوهم كل مشرد كما وقع في عصر الدولتين الأُموية والعباسية وإن كانوا يعدّون أنفسهم من الآل فلسان حالهم يقول:
أقتلوني ومالكاً وأقتلوا مالكاً معي
فافتقر أئمة الحديث وهم في تلك الأمصار إلى حذف الصلاة على الآل في تصانيفهم الصغار والكبار والتقية تبيح مثل هذا.
ثم قال: ثم ذهبت التقية وانقرضت دول تلك الفرق الغاوية، ولكنه قد شاب على ذلك الكبير وشبّ عليه الصغير، فاستمرّوا في الحذف لهم جهلاً واستمروا عليه خطأ مع إملائهم لحديث التعليم في كلّ كتاب من كتب السنّة<(80).
ولم يكن حذف الآل العمل الوحيد الذي عمل به علماء أهل السنّة بما يخالف السنّة تقيةً من بني أُمية، بل له نظائر، منها: متابعتهم لبني أمية في استلحاق معاوية بن أبي سفيان لزياد بن أبيه وتسميتهم له في كتبهم بزياد بن أبي سفيان، كما تجده في صحيح البخاري وغيره، بالرغم من اتفاقهم على مخالفته للسنّة بشكل صريح، وقد نقل هذه القضية العالم السلفي الشوكاني في “نيل الأوطار” وعزاها إلى تقيّتهم من بني أمية، ففي معرض تعليقه على رواية جاء في سندها زياد بن أبيه إلاّ أن الراوي نسبه إلى أبي سفيان، فعلّق الشوكاني قائلاً: >وقد أجمع أهل العلم على تحريم نسبته إلى أبي سفيان، وما وقع من أهل العلم في زمان بني أمية فإنما هو تقية، وذكر أهل الأمّهات نسبته إلى أبي سفيان في كتبهم مع كونهم لم يؤلّفوها إلاّ بعد انقراض عصر بني أمية؛ محافظة منهم على الألفاظ التي وقعت من الرواة في ذلك الزمان، كما هو دأبهم”(81) فانظر إلى معاوية بن أبي سفيان المتصدّي لقيادة المسلمين كيف يخالف السنّة الصحيحة جهاراً من أجل غرض دنيوي، كما يقول الشوكاني!! ومع ذلك اضطر علماء المسلمين إلى متابعته تقية؟!
وهكذا وجدنا علماء كبار من علماء أهل السنّة، يصرّحون بمتابعة العلماء لأعمال معاوية وبني أُمية المخالفة للسنّة تقية منهم، وقلّدهم من جاء بعدهم ولم
يغيّروا، يقول: محمد بن عقيل الحضرمي: “وقد تتابع الناس في الإتيان بالصلاة البتراء، فتجدها مخطوطة في أكثر كتب الحديث وغيرها، وتسمعها فيما تلوكه ألسنة قرّاء ا?دعية حتى صارت من المنكر المألوف اتّباعاً لطواغيت النصب، وامتثالاً ?مر متقدمي أعداء ا?ل، وقد يجوز أن يكون ذلك من غلط النسّاخ، وغفلة غيرهم”(82).
الثاني: التناقض بين النظرية والتطبيق
ونعني به التفاوت والاختلاف بين ما وصل إليه أهل السنّة من خلال الدليل، والثابت من الروايات في كيفية الصلاة المأمور بها على النبيّ صلّى الله عليه وآله وبين المنتشر والمعروف بينهم منها.
فأما النظرية:
فإنك تجدهم يصرحون بأن روايات كيفية الصلاة مجمعة على ذكر الآل، وعلى هذا الأساس أفتوا بمطلوبيته، وأن ذكر الآل هو الأكمل والأفضل، فعن الشيخ الألباني وبعد أن تتبّع صيغ الصلاة كما هو يدّعي ذلك، قال: >إن هذه الصيغ على اختلاف أنواعها فيها كلها الصلاة على آل النبيّ (صلّى الله عليه وسلّم) وأزواجه وذريته(83) معه (صلّى الله عليه وسلّم)، ولذلك فليس من السنّة ولا يكون منفّذاً للأمر النبوي من اقتصر على قوله: (اللهم صلِّ على محمد) فحسب، بل لابدّ من الإتيان بإحدى هذه الصيغ كاملة، كما جاءت عنه (صلّى الله عليه وسلّم)(84).
وفي موضع آخر قال: >إن القول بكراهة الزيادة في الصلاة عليه (صلّى الله عليه وسلّم) في التشهد الأوّل على (اللهم صلّ على محمد) مما لاأصل له في السنّة ولا برهان عليه، بل نرى أن من فعل ذلك لم ينفذ أمر النبيّ (صلّى الله عليه وسلّم) المتقدم: قولوا: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد…..<(85).
ونفس هذا المعنى أكّده الصنعاني في “سبل السلام” حيث قال: >الصلاة عليه لا تتم ويكون العبد ممتثلاً بها حتى يأتي بهذا اللفظ النبوي الذي فيه ذكر الآل؛ لأنه قال السائل: كيف نصلّي عليك؟ فأجابه بالكيفية أنّها الصلاة عليه وعلى آله، فمن لم يأت بالآل، فما صلّى عليه بالكيفية التي أمر بها”(86).
وقال ابن الجزري في “مفتاح الحصن”: >والاقتصار على الصلاة عليه (صلّى الله عليه وسلّم) لا أعلمه ورد في حديث مرفوعاً إلاّ في سنن النسائي في آخر دعاء القنوت(87)، وفي سائر صفة الصلاة عليه (صلّى الله عليه وسلّم) العطف بالآل”(88).
وقال الشوكاني في “فتح القدير”: >وجميع التعليمات الواردة عنه (صلّى الله عليه وسلّم) في الصلاة عليه مشتملة على الصلاة على آله معه إلاّ النادر اليسير(89)
من الأحاديث. فينبغي للمصلي عليه: أن يضم آله إليه في صلاته عليه، وقد قال بذلك جماعة، ونقله إمام الحرمين والغزالي قولاً عن الشافعي، كما رواه عنهما ابن كثير في تفسيره ولا حاجة إلى التمسك بقول قائل في مثل هذا مع تصريح الأحاديث الصحيحة به، ولا وجه لقول من قال: إن هذه التعليمات الواردة عنه (صلّى الله عليه وسلّم) في صفة الصلاة عليه مقيدة بالصلاة في الصلاة حملاً لمطلق الأحاديث على المقيد منها بذلك القيد، لما في حديث كعب بن عجرة وغيره، أن ذلك السؤال لرسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) كان عند نزول الآية”(90).
حتى أن النووي يرى عدم مشروعية الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله وحده ما لم يكن معه آله؛ فإما أن يذكرا معاً، أو لا يذكرا، كما ينقل لنا السمهودي ذلك عنه في معرض إنكاره على من يزعم عدم استحباب ذكر الآل في التشهد الأوّل؛ حيث قال: >ولذا نازع النووي في (تنقيح الوسيط في تصحيح الأصحاب)، فقال: إن تصحيحهم لعدم استحباب ذكر الآل فيه نظر، بل ينبغي أن يسنّا جميعاً، أو لا يسنّا، ولا يظهر فرق في الأحاديث الصحيحة المصرّحة بالجمع بينهما، انتهى”(91).
ومعنى كلام النووي أن النبيّ صلّى الله عليه وآله لم يفرد نفسه في الأمر بالصلاة بل أمر بالآل أيضاً، وهذا ما حكاه ابن قيّم الجوزية عن المنكرين لمشروعية الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله في التشهد الأوّل، وهم جمهور
*********************
أهل السنّة، قالوا: >لو كانت الصلاة مستحبة في هذا الموضع لاستحب فيه الصلاة على آله، لأن النبيّ (صلّى الله عليه وسلّم) لم يفرد نفسه دون آله بالأمر بالصلاة عليه، بل أمرهم بالصلاة عليه وعلى آله في الصلاة وغيرها”(92).
وتأمل في قولهم: بل أمرهم بالصلاة عليه وعلى آله في الصلاة وغيرها. وكيف انهم يحتجون به هنا ويهملونه في المواطن التي يريدون أن يتنصّلوا فيها من الالتزام بالصلاة على الآل !!.
وأما ابن قيم الجوزية فيعتبره حقاً من حقوقهم التي خصّهم الله تعالى بها دون غيرهم، قال: >إن الصلاة على النبيّ حق له ولآله دون سائر الأمة”(93)، وهذا الحق أكّده قبله شيخه ابن تيمية، وأوجب رعايته حيث قال: >آل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لهم من الحقوق ما يجب رعايتها فإن الله جعل لهم حقاً في الخمس والفيء وأمر بالصلاة عليهم مع الصلاة على رسول الله (صلّى الله عليه وسلم)”(94).
وعلاوة على كونه حقاً يجب رعايته كي لا نقع في ظلم أصحابه، فهو مظهر من مظاهر المودّة، والاحترام والتعظيم لآل النبيّ صلّى الله عليه وآله، ونحن مأمورون بمودتهم وتعظيمهم، وفي ذلك تعظيم ومودة للنبي صلّى الله عليه وآله وإدخال السرور عليه كما يقول ابن قيم الجوزية، فبعد أن ذكر حقوق النبيّ صلّى الله عليه وآله التي جاءت بها سورة الأحزاب، قال: >ثم عقّب ذلك بما هو حق من حقوقه الأكيدة على أمته، وهو أمرهم بصلاتهم عليه وسلامه، مستفتحاً ذلك الأمر
بإخباره بأنه هو وملائكته يصلّون عليه، فسأل الصحابة رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) على أي صفة يؤدون هذا الحق؟ فقال: (قولوا اللّهم صلّ على محمد وعلى آل محمد). فالصلاة على آله هي من تمام الصلاة عليه وتوابعها، لأن ذلك مما تقرّ به عينه ويزيده شرفاً وعلوّاً صلّى الله عليه وآله وسلم تسليماً<(95).
مضافاً إلى أن المسلمين مجمعون على أن ذكر الآل فيه أجر وثواب لأنهم مجمعون على أن ذكر الآل هو الأفضل والأكمل، بل أن بعضهم يرى أن الأجر والثواب الذي وعدنا الله تعالى به لا يتحقق إلاّ بالصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله بالكيفيات الواردة عنه، وهي كلها مجمعة على ذكر الآل، كما فهم ذلك الحافظ ابن حجر من ابن العربي حيث قال: >بل كلامه ـ ابن العربي ـ يدل على أن الثواب الوارد لمن صلّى على النبيّ (صلّى الله عليه وسلّم) إنما يحصل لمن صلّى عليه بالكيفية المذكورة ـ في الروايات ـ <(96).
وكذلك نقل النبهاني عن صاحب “ذخيرة الخير” قوله: >ليس فضل الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم فقط كفضل الصلاة عليه وعلى آله معاً، لأن الصلاة على الآل سنّة مستقلة وورد النص النبوي يطلبها في صحاح الأحاديث ونصّ عليها الأئمة واستعملها صلّى الله عليه وسلّم كذلك في جميع ما ورد عنه من صيغ الصلاة.
ثم قال: فظهر من ذلك أن تارك الصلاة على الآل تارك لفضيلة عظيمة وسنّة فخيمة<(97).
وهكذا إتّضح لك أن أهل السنّة مجمعون على أن كيفية الصلاة المأمور بها هي الكيفية الذاكرة للآل، وأن ذلك حقّ خصّهم الله تعالى به، وأن الأجر والثواب في ذكرهم، وهو الذي يدخل السرور على رسول الله صلّى الله عليه وآله؛ لما فيه من إظهار المودة والاحترام لآله(عليهم السلام) ، ولكنهم وللأسف الشديد على مستوى التطبيق لا تجدهم يلتزمون بما يقولون إلاّ في مواضع خاصة وقليلة.
وأما التطبيق:
فقبل أن تقف عليه عند أهل السنّة، لا بد أن تعرف أن تطبيق كل هذه الدواعي، والمرجّحات، والثوابت التي ألزموا بها أنفسهم يتمّ بذكر أربعة أحرف لا أكثر، فبدل أن يبترها المصلي ويقول: (صلّى الله عليه) أو (صلّى الله عليه وسلم)(98) يتمّها ويقول: صلّى الله عليه وآله، فيكون بذلك قد التزم بلفظ رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأتى بالسنة الصحيحة وفاز بالأجر الكبير الذي وعدنا به الله تعالى على الاتيان بهذه السنة. ومع ذلك وفي غفلة عن الصحيح الذي ينبغي العمل به نجد أهل السنّة وللأسف الشديد مواظبين على ترك الآل، والعمل بالصلاة البتراء، حتى بات ذلك معلماً من معالمهم، حيث يمكنك أن تعرف أن الكاتب، أو المتحدث من أهل السنّة من خلال صلاته على النبيّ صلّى الله عليه وآله؛ حيث تجده مواظباً على ترك الآل!(99) بعكس الشيعي تماماً، فإنك تعرفه من التزامه بذكر الآل في كل مرّة يصلّي فيها على النبيّ صلّى الله عليه وآله.
وهذا الاختلاف بين السنّة والشيعة، ومواظبة أحدهما على ذكر الآل، ومواظبة الآخر على عدم ذكر الآل يصلح ككاشف تأريخي للجهة التي تولّت تأسيس الصلاة البتراء ونشرها، بتقريب أن السنّة والشيعة كلاهما يستند إلى نفس الدليل المشرّع للصلاة على الآل، وكلاهما يقول بأن ذكر الآل من السنّة وهو الأكمل والأفضل، ومعلوم أيضاً أنهما حريصان على التمسك بالثابت من السنّة، والمواظبة عليه، فترك أحدهما لهذه السنّة الثابتة، ومواظبة الآخر عليها يحتاج إلى تفسير، فإنه لا يأتي اعتباطاً، وأقربه أن تكون هناك جهة ما، كانت تسعى لإخفاء ذكر الآل أثّرت في أحدهم، وجعلته يتخلّى عن فطرته وميوله الطبيعية اتجاه السنّة، وحرصه على التمسك بالثابت منها، ولم تؤثر في الآخر؛ بمعنى أن هذه الجهة كانت مقبولة عند أحدهم، ومرفوضة عند الآخر، وعلى أساس ذلك تأثر أحدهم بها دون الآخر.
ولو فتشت عن هذه الجهة استناداً للتاريخ والقرائن، لما وجدت جهة ينطبق عليها الوصف المتقدم أرجح من الدولة الأموية، فهي معروفة بعدائها للآل، وسعيها ?خفاء ذكرهم، وكان من ذلك سعيهم لحذف ذكر الآل من الصلاة، كما بيّناه سابقاً، ومعروف أيضاً أن الدولة الأموية مقبولة عند أهل السنّة، ومرفوضة عند الشيعة، لذلك تأثر بها المجتمع السنّي دون الشيعي. وتوضيحه أن الشيعة معروفون
بعدائهم العلني لبني أمية، ومباينتهم الصريحة لكلّ ما يصدر عنهم، فوفّر موقفهم هذا حصانة ?تباعهم ضد البدع الأموية، وخصوصاً ما كان يتعلق منها بفضائل أهل البيت(عليهم السلام).
أما أهل السنّة فلم يكونوا كذلك، كما هو معروف عنهم، فكان موقفهم هذا سبباً في بقاء الباب مفتوحاً أمام البدع الأموية، لتدخل المجتمع السني، ويتأثر بها، خصوصاً وأن الدولة الأموية كانت تدعي تمثيل المسلمين، وتتزيّى بزيّ المدافع عن الدين.
فاتضح لك أن اختلاف موقف الشيعة من السنّة في أداء الصلاة على الآل فيه كاشفية بنسبة عالية عن الجهة التي كانت وراء حذف الآل، وتأسيس الصلاة البتراء.
وكذلك فيه كاشفية عن سبب انتشار الصلاة البتراء، وإدامة العمل بها في المجتمع السني إلى هذه الساعة، وأنه نابع من التبعية، والتقليد لعمل السلف بما أسسته الدولة الأموية، وليس لسنة نبوية ثابتة ومعروفة، فإنه لو كان كذلك وكان له صلة بالشريعة، لظهر تأثيره في المجتمع الشيعي ولو بنسبة ضئيلة، فقد ذكرنا لكم أن دليلهم على مشروعية الصلاة على الآل واحد.
وهذه التبعية لما أسسته الدولة الأموية سبق وأن أوضحنا سببها في عوامّ الناس، وكذا في علمائهم، وكيف تحوّل هذا التقليد بمرور الزمن، وتعاقب الأجيال إلى سنّة من سنن السلف التي ينبغي المواظبة على العمل بها!
ومما عمّق هذه التبعية، وجذّر التمسّك بها هو تخلّي العلماء، وأهل الاطلاع عن دورهم في توجيه الناس نحو الصحيح في كيفية الصلاة على النبيّ صلّى الله
عليه وآله بعد علمهم بها، ووقوفهم على الصحيح الثابت منها نتيجة الانفتاح على السنّة، ورفع الحظر عنها، وبروز الفقه الاجتهادي، وتأسيس المذاهب، وانتهاء الفترة الأموية، فإن هذا كلّه لم يدفع العلماء إلى تنبيه المسلمين إلى الصحيح في كيفية الصلاة، وإعلامهم بأن الذي ينبغي المواظبة عليه هو الصلاة التامة الذاكرة للآل، وليست البتراء التي ورثتموها، وألفتموها.
وكان لعدم قيام العلماء بدورهم هذا، مردود سلبي؛ حيث أوحى للناس أن عملهم بالصلاة البتراء كان صحيحاً، فحلّ من غير قصدٍ محلّ الدور الأموي في تعزيز انتشار العمل بالصلاة البتراء. والغريب في المقام أن علم العلماء بحقيقة مراد السنّة ليس فقط لم ينفع الناس، بل لم ينتفعوا به هم؛ حيث هم أيضاً مواظبون على ترك الآل، والعمل بالصلاة البتراء حالهم حال عموم الناس، وهذا ما تجده واضحاً في كتبهم، فلو أخذت أي مصدر من مصادر الحديث عند أهل السنّة، فستجد المؤلف يعقد باباً بعنوان (باب ما روي في الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلم)، وعندما يذكر ما روي في هذا الباب تجده كله يأمر بالصلاة على الآل مع النبيّ صلّى الله عليه وآله، ولكنك تجد صلاته بدءاً من عنوان الباب ـ كما ذكرناه لك ـ ومروراً في نفس الحديث الذي يرويه، صلاة بتراء خالية من الآل!
وآخر تجده يروي أن النبيّ صلّى الله عليه وآله قال: لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء. ولكنك تجد كتابه كلّه صلاة بتراء وكأنّ هذا النهي النبوي غير موجه إليه!
وآخر يقول إن الصلاة على الآل تقرّ عين الرسول، وتسرّه وهي مأمور بها، ومن متممات الصلاة، ولكنك إذا رجعت إلى صلاته، فإنك لا تجده يقرّ بها عين الرسول صلّى الله عليه وآله فكلها بتراء!
وآخر يقول: إنه حق لهم خصّهم الله تعالى به دون غيرهم، ولكنك لاتجده يؤدّي هذا الحق!
وآخر(100) يقول: إن النبيّ صلّى الله عليه وآله لم يفرد نفسه دون آله وإنما أمرهم بالصلاة عليه وعلى آله في الصلاة وغيرها. ومع ذلك تجد صلاته كلها بتراء! وكأن هذا الكلام لا يعنيه!
وأما ابن تيمية فيعتبر الصلاة على الآل حقٌّ يجب رعايته وقد تقدّم كلامه قبل قليل ولكنك لو اطّلعت على أيّ مؤلف له لا تجده يراعي هذا الحقّ بالمرّة فصلاته كلّها بتراء! والعجيب أنّه حتّى في كتيبّه الصغير الذي ألّفه بعنوان >حقوق آل البيت< حيث ذكر منها الصلاة عليهم، فهو أيضاً لم يصلّي عليهم لا في مقدّمة الكتاب ولا في أي موضع منه (101) !
وهكذا تجدهم يقولون شيئاً ويفعلون غيره، حيث تجد صلاتهم كلها بتراء، إلاّ الشاذّ النادر منها، وكأن الشارع ندب إليها!
وفي نفس الوقت لا تجد أحداً ينبه إلى هذه المخالفة الصريحة للثابت من السنّة، إلاّ نادراً (102) ، وهم يفسّرون عملهم هذا بأنه يأتي في إطار اقتفاء أثر السلف، حيث إنهم كانوا عندما يصلّون على النبيّ صلّى الله عليه وآله لا يذكرون الآل، ولكنه غير صحيح؛ لوضوح أن عمل السلف هذا مخالف للثابت من السنّة التي هم رووها لنا، ولأنهم إنما فعلوا ذلك تقيةً من بني أُمية وقد تقدّم توضيح ذلك وذكر بعض تصريحات علمائهم فيه.
عامل آخر من عوامل انتشار وإدامة العمل بالصلاة البتراء:
مضافاً إلى عامل التبعية والتقليد، وتخلي العلماء عن دورهم في إظهار الصحيح من السنّة، الذي مرّ الحديث عنهما توّاً، فإن هناك عاملاً آخر ساهم إلى حدّ ما في إدامة العمل بالصلاة البتراء وانتشارها وهو يتعلّق بالذهنية السنّية، والجهة التي ترتبط بها تكويناً حيث هي وكما هو معروف مرتبطة بالصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ بجميع اتجاهاتها العقائدية والفقهية والفكرية، وهذا الارتباط الكامل بالصحابة جعلهم منشغلين بهم، ومستحضرين لهم على الدوام. أما أهل البيت(عليهم السلام) وكما هو معروف أيضاً فليس كذلك حيث لا يوجد لهم ذلك الدور المهم في تكوين الذهنية السنّية إلاّ في موارد نادرة، فأدى ذلك إلى ضعف الارتباط بأهل البيت، وعدم الانشغال بذكرهم كما هو الحال مع الصحابة.
فكان لهذا الإهمال لأهل البيت، والارتباط بالصحابة بدلهم دور كبير في نسيانهم في المواضع التي ينبغي أن يذكروهم فيها، والذي كان من تطبيقاته عدم ذكرهم عند الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله.
ويشهد لهذا الاهمال للآل وانشغال الذهنية السنية بالصحابة بدلهم هو ذكرهم للصحابة بدل ا?ل في المواضع التي ينبغي ذكر ا?ل فيها بدل الصحابة، أو لا أقل إن تنزلنا أن يذكرا معاً، فمثلاً نجد الشيخ ا?لباني يصلّي على الصحابة بعد الصلاة على النبيّ ولا يصلّي على ا?ل! ـ مع أنه من القائلين بوجوب الصلاة على ا?ل ـ فقد قال في مقدمة كتابه “سلسلة ا?حاديث الضعيفة” ما نصّه: “الحمد لله ربّ العالمين، والصلوات الطيبات على سيد المرسلين وعلى أصحابه الغرّ الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين”. وكذلك عند ابن كثير في مقدمة كتابه “البداية والنهاية”، فهو بعد أن صلّى على النبيّ صلاة بتراء أخذ بالترضّي على الصحابة، ولم يذكر الآل.
وهذا لم يأتِ منهم عن تعمد صرف في ترك الآل، وإنما جاء نتيجةً للحقيقة التي أشرنا إليها، وهي انشغال الذهنية السنيّة بالصحابة، وإهمالهم للآل.
وإلاّ متى كان حق الصحابة بالصلاة عليهم بعد النبيّ صلّى الله عليه وآله أولى من حق ا?ل؟ لولا ذلك ا?همال الذي توارثته الذهنية السنيّة وتعوّدت عليه.
ومن هنا تجدهم لا يغفلون عن ذكر الصحابة، كما يغفلون عن ذكر الآل، وهذه لعمري طامة كبرى أن تجد المسلمين غير مكترثين بأهل بيت نبيهم، فلا يصلّون عليهم عندما يصلّون على النبيّ صلّى الله عليه وآله.
بقيت مسألة قد ترد في ذهن القارئ وهي أن ذكر الآل في كل مرة اردنا الصلاة فيها على النبيّ صلّى الله عليه وآله لم يتفق الجميع على وجوبه، بل أن هناك من يرى أنه مستحب، وعليه لا يلزم ذكرهم في كل مرّة يصلّى على النبيّ صلّى الله عليه وآله، فلِمَ هذا الإصرار على ذكرهم؟.
وفي مقام الجواب نقول: إن ذكر الآل واجب، وما احتجّ به القائلون بالاستحباب ليس بتام، وقد أثبتنا ذلك سابقاً، وسيأتي مزيدٌ من النقاش حوله لاحقاً، هذا أولاً، وأما ثانياً، فلو سلّمنا بصحة ما ذهبوا إليه فهذا لا يعني أنهم يقولون بأن ذكر الآل ليس من السنّة، بل الكل متفق على أن ذكرهم من السنّة، وهو الأكمل، والأفضل، وهذا يدعو المسلمين بطبيعة الحال ـ كما أشرنا إليه آنفاً ـ إلى المواظبة على ذكرهم بحسب المتعارف في مثل هذه الحالات؛ بحيث يصبح ذكرهم هو الظاهر والغالب، لا أن يحصل العكس، وتكون المواظبة على عدم ذكرهم، وكأنّ ذلك هو الأفضل والأكمل!
المحصلة
وهي أن أهل السنّة آثروا ما ورثوه من السلف وما ألفه الخلف، وقدّموه على ما أقرّوا أنه الأفضل، والأكمل باتفاق السلف، والخلف، وهم بنفس الوقت يعرفون أنّ السلف إنما عمل بالصلاة البتراء تقية من بني أمية، ولم يكن عن سنّة انفردوا بها دونهم أو دليل وصلهم، وغاب عنهم، وهذه الروايات المتواترة مجمعة على خلاف ما عملوا به! ومع ذلك آثروا الموروث على الأكمل والأفضل من السنّة، واكتفوا ببعض هذه الشعيرة على غير عادتهم في تحرّي الأكمل والأتمّ من السنّة ما أمكنهم ذلك انسجاماً مع فطرة المسلم، ونزعته الطبيعية للتزود من السنّة المباركة، إلاّ في هذه الشعيرة، فما أدري ما سرّ هذا الإصرار، على الاكتفاء ببعضها واستثقال إتمامها بأربعة أحرف لاأكثر؟!
وبالوقت الذي كنّا نتمنّى أن تكون حالة التناقض هذه مدعاة للواقفين على الحقيقة للعودة بهذه الشعيرة إلى الأكمل والأفضل وهي الصلاة التامّة؛ إلاّ أنّه وللأسف الشديد، بدل ذلك راح بعضهم يبحث عن دليل يصحّح به العمل بالصلاة البتراء ظنّاً منه أن ذلك يرفع هذا التناقض، والحال أن ذلك لا يرفع التناقض حقيقة وإن سلّمنا بصحة الدليل؛ لأن أقصى ما يثبته هو جواز العمل بالصلاة البتراء، وهذا وإن ثبت، لا يبرر أبداً مواظبتهم على ترك الآل مع إقرارهم بأن ذكرهم هو الأكمل والأفضل فضلاً عن الكثير ممّن قال بأن ذكرهم واجب كما بيّناه آنفاً. علماً أن الأدلة التي تشبّث بها القائلون بعدم وجوبها غير تامّة وقد ناقشناها سابقاً، وسيأتي مزيد من النقاش حولها في الفصل القادم.
محمد هاشم المدني
الهوامش:::
1- ستأتي الإشارة إلى بعضها في ثنايا البحث.
2- طبقات ابن سعد، 5: 140، تذكرة الحفّاظ / الذهبي، ص: 1 ـ 11، جامع بيان العلم وفضله/ ابن عبد البر، ص77.
3- مستدرك الحاكم: 1/183، 347، 1/193، 374، 375، جامع بيان العلم ص 147.
4- قال الذهبي في ترجمة أبي الحسن المدائني ما نصّه: العلامة الحافظ الصادق أبو الحسن علي بن محمد بن عبدالله بن أبي سيف المدائني الأخباري، نزل بغداد وصنف التصانيف، وكان عجباً في معرفة
السير والمغازي والأنساب وأيام العرب، مصدّقاً فيما ينقله، عالي الإسناد، قال فيه يحيى بن معين: ثقة ثقة ثقة. ولد سنة (132هـ) ومات سنة (224هـ)، انظر “سيرأعلام النبلاء” للذهبي، 10:4/113.
5- شرح النهج / ابن أبي الحديد، 11: 42 ـ 44.
6- فتح الباري، 7: 132، كتاب فضائل الصحابة.
7- منهاج السنّة:، 4: 400.
8- الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة، ص 455 تحقيق محمد الصباغ، نشر المكتب الإسلامي، طبعة2.
9- قراءة في كتب العقائد المذهب الحنبلي نموذجاً حسن بن فرحان المالكي: 79.
10- أضواء على السنّة المحمدية / محمود أبو رية ص: 130.
11- شرح النهج / ابن أبي الحديد: 11/42 ـ 44، نقلاً عن كتاب “الأحداث” للمدائني.
12- شرح النهج / ابن أبي الحديد: 4/73، نقلاً عن كتاب “الأحداث” للمدائني.
13- تهذيب الكمال / المزّي، ترجمة الحسن البصري.
14- الكامل في التاريخ، 3: 430.
15- الإمام الصادق/ محمد ابو زهرة: 127.
16- تاريخ المذاهب ا?سلامية / أبو زهرة، ص 34.
17- صحيح مسلم، 7: 120، سنن الترمذي، 5: 302، المستدرك/ الحاكم النيسابوري، 3: 108، المصنف/ ابن أبي شيبة الكوفي 7: 497 خصائص أمير المؤمنين / النسائي، ص 50.
18- المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم / القرطبي 6: 272.
19- سنن ابن ماجه، 1: 76 / 120 النسخة التي حكم على أحاديثها الألباني، وكذا أورده في الصحيحة، 4: 335.وقال: “صحيح”.
20- سنن ابن ماجه / تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، 1: 82 / 121، دار الحديث – القاهرة.
21- الكامل في التاريخ، 3: 405.
22-الكامل في التاريخ ، 3: 333.
23- المصدر نفسه، 3: 472 (أحداث سنة 51).
24- نقله عنه ابن أبي الحديد في “شرح النهج”، 4: 56.
25- شرح النهج،13: 222.
26- فتح الباري 7:57 باب مناقب علي بن أبي طالب. ولم تكتف السياسة الأموية بحمل الناس على هذه السنة الخبيثة فحسب، بل جعلتها ميزاناً يميز به الموالي من غيره، ويتقرب بها إلى السلطان، وتنال بها الأعمال، وتحقن بها الدماء وو…
27- أنساب الأشراف/ البلاذري، 2: 407، وعن الدارقطني أوردها ابن حجر في الصواعق، ص83.
28- أنساب الأشراف، 8: 195.
29- الكامل في التاريخ، 5: 42.
30- كما حصل ذلك من أهل حرّان، فعندما وصلهم أمر عمر بن عبد العزيز بإزالة اللعن عن المنابر، ضجوا وامتنعوا وقالوا: لا صلاة إلاّ بلعن أبي تراب. انظر >شرح نهج البلاغة” لابن أبي الحديد، 7: 122.
31- المستدرك، 3: 121 كتاب معرفة الصحابة، تهذيب خصائص أمير المؤمنين للنسائي / أبو إسحاق الجويني، ص 76، مجمع الزوائد 9: 130.
32- العقد الفريد / ابن عبد ربّه الأندلسي، 5: 115 (في أخبار معاوية)، وقد أورد الهيثمي في مجمع الزوائد مثل هذا اللفظ دون أن يذكر توجيهه لمعاوية، قال: >وعن أبي عبد الله الجدلي قال: قالت لي أمّ سلمة يا أبا عبد الله أيسبّ رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) فيكم قلت أنّى يسبّ رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) قالت: أليس يسبّ علي ومن يحبّه وقد كان رسول الله يحبّه، قال: رواه الطبراني في الثلاثة وأبو يعلى ورجـال الطبراني رجـال الصحيح غير أبي عبد الله وهو ثقة، وروى الطبراني بعده بإسناد رجاله ثقات إلى أمّ سلمة عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) قال مثله، انظر “مجمع الزوائد”، 9: 130.
33- سنن النسائي، 5: 253، التلبية بعرفة.
34- تفسير الفخر الرازي، 1: 209 ـ 211 تفسير آية البسملة من سورة فاتحة الكتاب.
35-المصدر السابق نفسه.
36- تفسير الفخر الرازي، 1: 211 في تفسير آية البسملة من سورة فاتحة الكتاب.
37- صحيح البخاري، 1: 133 كتاب مواقيت الصلاة وفضلها، باب تضييع الصلاة عن وقتها.
38- مسند أحمد، 3: 101 / 208، 270، سنن الترمذي، 4: 633 كتاب صفة القيامة، فتح الباري، 2: 11.
39- كتاب الأم، مج2: 231/ 2553 كتاب صلاة العيدين.
40- الموطأ، ص43.
41- سير أعلام النبلاء، ترجمة معاوية بن قرة المزني.
42- السلسلة الصحيحة، 4: 330 / 1749.
43- وعلّق على هذا الحديث حسن فرحان المالكي بقوله: صدق الرسول (صلّى الله عليه وآله) فإن فساد الأمة الفكري والسياسي والقضائي والمالي بدأ من عهد بني أمية. انظر “قراءة في كتب العقائد” هامش: 78.
44- فتح الباري، 13: 12 / 7085، كتاب الفتن، باب قول النبيّ (صلّى الله عليه وآله): هلاك أمتي على يدي أغيلمة سفهاء من قريش.
45- من أراد الوقوف على تطبيقات أكثر على تغيير السنّة على يدي بني أمية فعليه بالجزء العاشر من كتاب الغدير للعلامة الأميني من صفحة 178 إلى آخر الجزء.
46- تفسير الفخر الرازي، 9: 595 تفسير آية المودّة.
47- لو تتبعت الكتب التي وثقت الرسائل المتبادلة بين الإمام علي×، ومعاوية، وغيرها المتعلقة بهما، لرأيت أن الأمام علياً× في كل مرة يأتي ذكر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) يصلي عليه صلاة تامّة، أما معاوية فلا يصلي عليه أبداً إلاّ في موارد نادرة جداً وصلاة بتراء! وفي هذا شاهد صريح على أن معاوية هو الذي تولّى كبر هذه البدعة.
48- نقل ابن أبي الحديد في شرحه للنهج (13: 223) عن شيخه أبي جعفر محمد بن عبد الله الإسكافي أنه قال: >إن بعض الملوك ربما أحدثوا قولاً أو ديناً لهوى، فيحملون الناس على ذلك، حتى لا يعرفون غيره، كنحو ما أخذ الناس الحجاج بن يوسف بقراءة عثمان، وترك قراءة ابن مسعود وأبي بن كعب، وتوعّد على ذلك بدون ما صنع هو وجبابرة بني أميّة وطغاة بني مروان بولد علي× وشيعته، وإنما كان سلطانه نحو عشرين سنة، فما مات الحجاج حتى اجتمع أهل العراق على قراءة عثمان، ونشأ أبناؤهم لا يعرفون غيرها، لإمساك الآباء عنها، وكفّ المعلمين عن تعليمها. حتى لو قرأت عليهم قراءة عبد الله وأبيّ ما عرفوها، ولظّنوا بتأليفها الاستكراه والاستهجان، لإلف العادة وطول الجهالة. لأنه إذا استولت على الرعيّة الغَلبة، وطالت عليهم أيام التسلّط، وشاعت فيهم المخافة، وشملتهم التقية، اتفقوا على التخاذل،
والتساكت فلا تزال الأيّام تأخذ من بصائرهم، وتنقص من ضمائرهم، وتنقض من مرائرهم، حتى تصير البدعة التي أحدثوها غامرة للسنّة التي كانوا يعرفونها، ولقد كان الحجاج ومن ولاّه، كعبد الملك، والوليد، ومن كان قبلهما وبعدهما من فراعنة بني أمية على إخفاء محاسن علي×، وفضائله، وفضائل ولده وشيعته، وإسقاط أقدارهم، أحرص منهم على إسقاط قراءة عبد الله وأبيّ، لأن تلك القراءات
لا تكون سبباً لزوال ملكهم، وفساد أمرهم، وانكشاف حالهم، وفي اشتهار فضل عليّ× وولده وإظهار محاسنهم بوارهم، وتسليط حكم الكتاب المنبوذ عليهم، فحرصوا واجتهدوا في إخفاء فضائله، وحملوا الناس على كتمانها وسترها<.
49- فضل الصلاة على النبيّ (صلّى الله عليه وآله) / الجهضمي، هامش ص 70 ـ 71.
50- فتح الباري / ابن حجر 8: 678 كتاب التفسير / سورة الأحزاب، تفسير ابن كثير، تفسير آية {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبيّ…}، فضل الصلاة / الجهضمي 69 ـ 70 / 76 وقال عنه الألباني محقق الكتاب >إسناده مقطوع صحيح”.
51- فقد نقل لنا الذهبي في >السيّر” (3: 392) في ترجمة الصحابي المسوّر بن مخرمة، أن عروة ابن الزبير قال: >فلم أسمع المسوّر ذكر معاوية إلاّ صلّى عليه!< وهذه البدعة الشنيعة لم تنقطع في أتباع بني أمية حتى وصلت إلى عصرنا الحاضر، كما تجد ذلك عند أحد الحاملين للنسب الأموي، وهو الأديب الفلسطيني محمد إسعاف النشاشيبي، فإنه كان يصلي على معاوية إذا مر بذكره! فقد نقل لنا محمد علي
الحوماني في كتابه >دين وتمدين” (ج5 / 321 – 322) قال: >وللتعصب الأعمى وجوه ووجوه، فإن من هذا التعصب ما يصدر عن عمى العين ومنه ما يصدر عن عمى القلب، فلقد رأيت مظهراً من مظاهره في شخص الأديب الفلسطيني إسعاف النشاشيبي حين أصدر كتابه >الإسلام الصحيح<، وقرأت هذا الكتاب، فوجدته حافلاً بالشتائم لآل الرسول، والخيرة من أصحاب محمد، ونقلت بعض هذه الشتائم في مجلتي (العروبة) التي كنت أصدرها في لبنان، وعندما وردت مصر قرأت مقالاً له في مجلة (الرسالة) كان إذا جاء بها على ذكر معاوية أو عمرو بن العاص يقول: صلوات الله وسلامه عليه، وإذا جاء على ذكر الخلفاء الراشدين قال: (رضي الله عنهم)”.
ومن الطبيعي أن من يصل به التعلق ببني أمية إلى الحد الذي يجيز الصلاة على مثل معاوية ويساويه برسول الله صلّى الله عليه وآله بهذا اللحاظ، فلابدّ أن يسبق هذا التعلّق البغض لأهل البيت^؛ فهما أمران متلازمان.
52- فضل الصلاة / الجهضمي، 48 / 45، وتعليقة الألباني في هامش الصفحة نفسها.
54– فضل الصلاة / الجهضمي، ص 69.
55- المصدر نفسه.
56- جلاء الأفهام، ص350، وأما ما تأوّله أصحابه بأن المراد منه أنّا لم نتعبّد بالصلاة على غيره من الأنبياء، كما تعبدنا الله بالصلاة عليه (صلّى الله عليه وآله)، فتأويل غير مقبول لمن تأمل في كلام مالك جيداً، فإنه بصدد نفي جنس الصلاة عن غير نبيّنا الواجبة منها، والمندوبة إن كان قصدهم من التعبد ذلك.
57- انظر موقفه من ابن عباس وقوله له: >إني لأكتم بغضكم أهل هذا البيت منذ أربعين سنة”، وموقفه مع محمد بن الحنفية عندما أنكر عليه سبّ الإمام علي× على المنبر، وغيرها من المواقف، وذلك في “مروج الذهب” للمسعودي ( 3: 93 ـ 94)، أنساب الأشراف للبلاذري (3: 482)، شرح النهج لابن أبي الحديد 4: 61 ـ 63 (فصل فيما روي من سبّ معاوية وحزبه لعلي)، 4: 79 (فصل في ذكر المنحرفين عن الإمام علي×).
58- شرح النهج/ ابن أبي الحديد، 4: 36 ـ 37، مروج الذهب، 3: 93، أنساب الأشراف، 3: 482.
59- قال ابن أبي الحديد: “وروى الزبير بن بكار في الموفقيات ـ وهو غير متهم على معاوية، ولا منسوب إلى اعتقاد الشيعة، لما هو معلوم من حاله من مجانبة علي×، والانحراف عنه ـ عن المطرف بن المغيرة بن شعبة، قال: “دخلت مع أبي على معاوية فكان أبي يأتيه، فيتحدّث معه، ثم ينصرف أبي فيذكر معاوية وعقله ويُعجب بما يرى منه، إذ جاء ذات ليلة، فأمسك من العشاء، ورأيته مغتمّاً فانتظرته ساعة، وظننته أنه ?مر حدث فينا، فقلت: ما لي أراك مغتمّاً منذ الليلة؟ فقال لي: يابني جئت من عند أكفر الناس وأخبثهم، قلت: وما ذاك؟ قال: قلت له وقد خلوت به: إنك قد بلغت سنّاً يا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عدلاً، وبسطت خيراً فأنك قد كبرت، ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم، فوصلت أرحامهم، فوالله
ما عندهم اليوم شيء تخافه، وإن ذلك مما يبقى لك ذكره وثوابه، فقال: هيهات هيهاتّ! أي ذكر ترجو بقاءه؟ مَلَكَ أخو تيم فعدل وفعل ما فعل، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلاّ أن يقول قائل: أبو بكر، ثم مَلَكَ أخو عدي، فاجتهد وشمَّر عشر سنين، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره! إلاّ أن يقول
قائل: عمر، وإن ابن أبي كبشة ليُصاح به كل يوم خمس مرّات (أشهد أن محمّداً رسول الله) فأي عمل يبقى، وأي ذكر يدوم بعد هذا لا أباً لك! ?مر الله إلاّ دفناً دفناً”.
انظر: شرح النهج، 5: 71 ـ 72، خطبة 60، مروج الذهب، 3: 454، الموفقيات للزبير بن بكار، ص 576 (ط/ العراق).
60- وهناك أدلة أخرى ذكرها العالم السلفي ناصر الدين الألباني في مقدمة الجزء الثالث من سلسلته الضعيفة، ناقشناها جميعاً، وأثبتنا عدم صحتها وسننشرها مستقبلاً، ضمن كتاب يبحث في تفاصيل بدعة الصلاة على الصحابة، بتوفيق الله تعالى.
61- سعادة الدارين/ النبهاني، ص 30.
63- المصدر السابق نفسه.
64- النصائح الكافية، ص 296.
65- القول المقنع، ص 10.
66- شرح النهج، 11: 46.
67- داعية وليس نبياً / حسن فرحان المالكي، هامش ص30.
68- البدعة / الصنعاني، ص 43.
69- المصدر نفسه، ص 50.
70- نقلاً عن كتاب “السلفية الوهابية” للشيخ حسن بن علي السقاف، ص76، ونقل في ص52 من الكتاب نفسه كلاماً شبيهاً بالكلام المتقدم نقله عن كتاب “الفتوحات الإسلامية” لأحمد زيني دحلان مفتي الشافعية في مكة المكرمة في أوائل القرن الرابع عشر الهجري، وهو قوله عن الوهابية: >كانوا يمنعون من قراءة دلائل الخيرات المشتملة على الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله، وعلى ذكرها كثير من أوصافه الكاملة، ويقولون إن ذلك شرك، ويمنعون من الصلاة عليه صلّى الله عليه وآله على المنائر بعد الأذان حتى أن رجلاً صالحاً كان أعمى وكان مؤذناً فصلّى على النبيّ صلّى الله عليه وآله بعد الأذان بعد أن كان المنع منهم، فأتوا به إلى ابن عبد الوهاب فأمر به أن يُقتَل فَقُتِلَ<.
71- نقلاً عن “حُسن الكلام في أحكام الصلاة على خير الأنام” / محمّد الباليساني، ص 18.
72- البدعة، ص 44.
73- مجموعة رسائل التوجيهات الإسلامية / زينو، 3: 442.
74- ومن عجيب هذه التشويهات والمحاصرات، أنه بعد عودتي من دار الهجرة (الجمهورية الإسلامية في إيران) إلى بلدي العراق، على أثر سقوط الطاغية صدام على أيدي أسياده الأمريكان في شهر صفر من عام 1424هـ، وجدت أن من التهم التي كان نظام صدام يعاقب عليها المؤمنين، ويزجّ بهم بسببها في السجون، هي النداء بالصلاة على محمد وآل محمد، في الأماكن العامة ودور العبادة، وينبزونها باسم خاص وهو “الزقزقة”، تحقيراً لها !!
والذي دفعني إلى تسجيل هذا التشويه لننبـّه إلى أن المحاصرة والتشويه لهذه الشعيرة المقدسة مستمرٌ إلى هذه الساعة وبأساليب وحجج مختلفة باختلاف الأغراض.
75- شرح النهج 13: 223.
76- تاريخ المذاهب الإسلامية / أبو زهرة، ص 9.
77- قال حسن فرحان المالكي في كتابه “قراءة في كتب العقائد”، ص 76: >استطاع بنو أمية بالترغيب والترهيب ضم بعض العلماء، وطلاب العلم لنظرتهم، كما فعلوا مع الشعبي والزهري وقبيصة بن ذؤيب وابن سيرين ورجاء بن حياة وغيرهم، فهؤلاء كان فيهم نفور عن ذكر أهل البيت بخير أو بشر، وكانوا يفضلون السكوت عنهم!! وهذا السكوت يعني الإهمال والإماتة لذكرهم”.
78- تاريخ المذاهب الإسلامية / أبو زهرة ص 9.
79- سبل السلام في شرح بلوغ المرام / الصنعاني، 1: 305.
80- عون الباري لحل أدلة البخاري / صدّيق بن حسن القنوجي: 39:1، نقلاً عن كتاب (فلك النجاة في الإمامة والصلاة) لمؤلفه علي محمد فتح الحنفي، ص245.
81- نيل الأوطار/ الشوكاني، 5: 194/ كتاب المناسك، باب أن من بعث بهدي لم يحرم عليه شيء بذلك.
وذكر الشوكاني توضيحاً لهذه المخالفة الأُموية للسنّة قال: >إن زياد بن أبي سفيان وقع التحديث بهذا في زمن بني أمية وأمّا بعدهم، فما كان يقال له إلاّ زياد بن أبيه، وقبل استلحاق معاوية له كان يقال له زياد بن عبيد، وكانت أمه سمية مولاة الحارث بن كلدة الثقفي، وهي تحت عبيد المذكور فولدت زياداً على فراشه فكان ينسب إليه، فلمّا كان في أيام معاوية شهد جماعة على إقرار أبي سفيان بأن زياداً ولده، فاستلحقه معاوية بذلك، وخالف الحديث الصحيح: إن الولد للفراش وللعاهر الحجر؛ وذلك لغرض دنيوي وقد أنكر هذه الواقعة على معاوية من أنكرها حتى قيلت فيه الأشعار، ومنها قول القائل:
ألا أبلغ معاوية ابن حـــرب مغلغلـــة من الرجال اليماني
أتغضب أن يقال أبوك عفّ وترضى أن يقال أبــوك زاني
82- تقوية ا?يمان / محمد بن عقيل، ص 8.
83- تقدمت الإشارة سابقاً إلى أنه اعتمد في وجود الأزواج، والذرية على حديث أبي بكر بن حزم الذي مرّ بعض الحديث عنه، وستأتي البقية.
84- صفة صلاة النبيّ، ص 133.
85- صفة صلاة النبيّ، ص 129.
86- سبل السلام / الصنعاني، 1: 305 / شرح حديث 236.
87- تحدّثنا عن هذا الحديث سابقاً وقلنا أنّه ليس من أحاديث الكيفية وإنّما هو كلمات علمهن النبي صلّى الله عليه وآله لولده الحسن× يقولهن في الوتر ولم يروي أحد أنّ فيهن الصلاة على النبي صلّى عليه عليه وآله إلاّ النسائي فقد زاد فيه الصلاة على النبي ورواه بطريق ضعيف.
88- نقلناه عن “سعادة الدارين” للنبهاني، ص 29 ـ 30 ولكن انظر إلى صلاة ابن الجزري في نفس كلامه الذي ينفي فيه وجود حديث في الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله لم يذكر الآل، تجدها صلاة بتراء خالية من الآل على عكس ما يصرّح به!! وهذا ليس خاصاً بالجزري، بل يشمل الجميع فهو يصرح بإجماع الروايات على ذكر الآل، وأنه لا توجد رواية خلت من ذكرهم، ومع ذلك تجد صلاته بتراء جرياً على المألوف، وكأنه قال ما قال لغرض التدوين فقط لا أن يعمل به.
89- هذه الأحاديث النادرة اليسيرة التي يشير إليها الشوكاني، والتي اغترّ بها من جوّز الصلاة البتراء لا وجود لها، وسيثبت لك ذلك إن شاء الله تعالى.
90- فتح القدير، 4: 380.
91- جواهر العقدين، ص 222.
92- جلاء الأفهام، ص 278.
93- المصدر نفسه، ص 174.
94- مجموعة الرسائل الكبرى، 1: 297 الرسالة السابعة (الوصية الكبرى) مع ملاحظة أن حقوق أهل البيت^ التي أمرنا الله تعالى برعايتها أكثر من هذه بكثير، وقد بيّنا بعضها في كتابنا “حقوق أهل البيت في القرآن الكريم” وكتابنا >منظومة حقوق العترة النبويّة بين التطبيق والنظرية<.
95- جلاء الأفهام، ص 175.
96- فتح الباري، 11: 198.
97- سعادة الدارين/ يوسف النبهاني ، ص: 29 ـ 30.
98- مع ملاحظة أنّ إضافة (وسلّم) غير صحيحة كما سيأتي بيانه لاحقاً.
99- والأغرب من ذلك أنه بالرغم من أن العصر الحديث أمّن لنا وسائل طباعة تتكفل بنفسها إضافة الصلاة على النبيّ (صلّى الله عليه وآله) على هيئة ورسم خاص موجود في برامج (الكومبيوتر)، كما?
? هو المعروف في الكتب في الوقت الحاضر، ولكنك حتى هذه تجدها صلاة بتراء! ولا تعرف لماذا لا يضيفون لها الآل، مع أنهم يعلمون أن ذكر الآل من السنة وليس ببدعة، وإضافتها لا تحتاج إلى جهد يذكر لا من الطبّاع ولا من المؤلف، ولو أنك سألت أحدهم أن يغيرها ويضيف الآل لوجدته يكره ذلك وإن لم يصرح به؛ لأنه ألف هذا، ولايحب الإقلاع عنه ويفارق الموروث وكذلك لينأى بنفسه عن تهمة التشبّه بالشيعة وإن كان عملهم هو السنّة، فترك السنّة أولى من التشبه بالشيعة عـنـدهم!! وإذا خالف هـواه وأضاف الآل، فيلتزم عندئذ بإضافة الصحابة لينأى بنفسه عن التشبه بالشيعة ! وإن كان يعلم أن إضافة الصحابة لا دليل عليها، وسيأتي توضيح هذه النقطة أكثر في البحوث القادمة.
100- وهذه الأقوال ذكرنا لك اصحابها في البحث النظري السابق.
101- حقوق آل البيت بين السنّة والبدعة/ ابن تيمية.
عنوان كتابه هذا كبير لا يتناسب مع محتواه فعدد صفحاته لم تبلغ الستين صفحة ولم يذكر فيه إلاّ النزر اليسير من حقوقهم التي فرضها الله لهم على العباد وكذلك فهو لم يهتم ببيانها بقدر ما أهتمّ وكعادته
في كيل الاتهامات الباطلة لخصومه، ومع ذلك لم يلتزم بأداء تلك الحقوق للآل^ بالطريقة المأمور بها!
102- كما تنبه له أبو الفتوح التليدي في كتابه (الأنوار الباهرة هامش ص32) حيث قال: >ونرى من الخطأ ما يفعله عامّة أهل العلم في كتبهم، وفي دروسهم من الاقتصار على الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله دون أهله، فيقولون مثلاً: (صلّى الله عليه وسلّم) وهو مخالف لما جاء عن النبيّ صلّى الله عليه وآله، فليكن المسلم من ذلك على بال”.