﴿ وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ * وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ * فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ *مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾ 1.
الشرف العظيم والقوة الكبرى والركن الشديد أن يؤمن الإنسان باللَّه وحده ، ويعتمد عليه وحده ، ويتوكل عليه وحده. فالتوحيد أعظم شرف يتشرف به ابن آدم ، وأقوى ركن يعتمد عليه ، وأفضل وسيلة يتوسل بها . أما الشرك ؛ فهو ضعفوذل وهوان .
وعلينا ـ ونحن نتلو آيات القرآن المجيد ـ أن نتبصّر ذلك النور الفياض منها ؛ ابتداءً من باء ﴿ بِسْمِ اللَّهِ … ﴾ 2، وانتهاءً بسين ﴿ … وَالنَّاسِ ﴾3.
ولعلّ من أعظم أنوار القرآن ؛ نور الهداية إلى اللَّه سبحانه وتعالى . وقد ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام : ( لقد تجلى اللَّه لخلقه في كلامه ، ولكنهم لا يبصرون ) 4 .
فإذا كنّا لا نبصر ولا نسمع ولا نعقل ، فلماذا وهبنا اللَّه تبارك وتعالى السمع والبصر والفؤاد ؟
إنّ القرآن الكريم كتاب التوحيد ، ومفتاح فهم هذا الكتاب هو معرفة اللَّه عزّ وجل ، ومن ضلّ عن ربّه فقد ضلّ ضلالاً بعيداً ، ومن لم يجعل اللَّه له نوراً فما له من نور . والشرك هو الضلالة الكبرى والتيه الأكبر . .
ومن أجل توضيح هذه الفكرة التي استوحيها من آيات مباركات من سورة العنكبوت ، لابد أنّ أضرب لكم مثلاً فيذلك ، لأن الأمثال تقرب الحقائق ، فأقول ؛ من يقصد منطقة معينة فيركب صهوة حصان هائج ، لن يصل إلى مقصوده ،ولن يفلح راكب سيارة ذات فرامل ضعيفة في الوصول بسلام ، ولن ينجو الغريق إذا ما توسّل بقشّة . .
وكذلك الإنسان إذا ما اعتمد على غير اللَّه ، فإنه سيتأكد في نهاية المطاف أنّ ( هذا الغير ) ليس لن ينفعه فقط ،وإنّما سيضره أيضاً . فهذا الغير سيتحول إلى وسيلة هدم لحياته .
فلقد اعتمد فرعون على قدرته الاقتصادية والزراعية وثروته المائية ، حتى قال : ﴿ … وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي … ﴾ 5. إشارة إلى تسلطه المطلق على نهر النيل ، وأنّه يسيره كيف شاء . لكن هذا النهر هو الذي غرق فيه فرعون وأصبح بذلك آية للعالمين .
وتلك عادٌ الأولى التي كانت قبيلة قوية ، ذات شوكة و بطش وجبروت ، كانت تقطن في الطرف الشمالي للجزيرة العربية ، متشبّثة ببيوتها وصخورها ، إذ نحتت من الجبال بيوتاً ، فأرست قواعد حضارتها ، إلاّ أنها لفرط اعتمادها على صخورها وحصونها دمّرها اللَّه بذات الصخور .
إذن ؛ قانون وسنّة إلهية ، مفادها ضرورة فتح الإنسان لعينيه وأذنه وعقله ليرى حقيقة التأريخ ، وأنّ من يحجم عن ذلك ويريد ابتداع سنّة كونية من عند نفسه ، أو يهدف محاربة السنن الإلهية في الكون ، فإن عقاب اللَّه سيقف له بالمرصاد ،حيث سيدمّر ويمحق بذات الشيء الذي اعتمد عليه من دون اللَّه .
أتعلمون أن أبا مسلم الخراساني هو الذي أقام حكومة أبي العباس السفاح والمنصور العباسي ، ولكنّهما هما اللذان قتلاه . والبرامكة على عظمة صيتهم رفعوا هارون العباسي إلى سلطان الهيبة والاقتدار ، فما كان منه إلاّ أن بدأ بهم فقتلهم شرَّ قتلة . ذلك لأنهم وأمثالهم ممن يعينون الطغاة ، يتغافلون عن الحقيقة الإلهية القائلة : بأنّ من اعتمد على غير اللَّه ذلّ . ولعلفي صعود وأفول نجم الحضارات البشرية عبر التأريخ أمثلة ومصاديق لذلك .
والمثل الجديد الذي أرغب في إيضاحه لكم هو مَثل الثورة المعلوماتية الجديدة التي تعتمدها الحضارة البشرية الراهنة ، وكيف أن هذه الحضارة التي لا تتخذ من الحق والعدل والحرية وكرامة الإنسان مرتكزاً لها ، سيكون مصيرها نفسمصير ما سبقها من حضارات ، وكيف أنّها تعيد عجلة التأريخ على نفسها وكأنّها غير معنيّة بما سبق للبشرية أن ذاقته منعذاب إلهي شديد . . .
أتحدّث معكم ونحن في مطلع القرن الواحد والعشرين ، حيث مرت علينا سنة الألفين ، وعاش فيها العالم أزمة الكومبيوترات الكبرى ، المبني نظامها أساساً على رقمين هما واحد وصفر أو صفر وصفر ؛ أي صفران . ولما كانت سنة ألفين تحوي ثلاث أصفار ، فإنّ أجهزة الكومبيوتر الحاوية لمليارات المليارات من المعلومات ، والتي أضحت القائد والموجّه لمعظم الأجهزة التكنولوجية في العالم عموماً والغرب على الخصوص ؛ وما فيها من صواريخ وطائرات ومطارات وقطارات وبنوك وبورصات وأقمار صناعية وغير ذلك ، كلّها عانت الرعب أن تصاب بالعطل ، لو لم يعثر على حلّ مجدٍ لتلك الأزمة الكبرى .
إن هذا الغلط البسيط كان له أن يتسبّب بحدوث كارثة عظمى ، حسب ما أكد رئيس لجنة كارثة الألفين في مجلسالشيوخ الأميركي . إذ أكد أنه بعد سنة ألفين ستتوقف القطارات ، لأنّها تعتمد على الكومبيوتر ، وكان متوقعاً في أول يوم من هذه السنة أن تتعطل الأقمار الصناعية وأنظمة الاتصال ومحطات الوقود والطائرات وكل الكومبيوترات مركّبة بطريقة غير صحيحة .
ولقد انكبّ العلماء والمتخصّصون على اكتشاف حلٍّ لهذه المعضلة التأريخية .
ولكنّ العالم المهدّد بسبب بسيط ، وهو عدم قدرة الكومبيوتر على التجانس مع قراءة رقم ألفين وما بعده ، هذا العالم منالممكن جداً أن يتعرض لمشكلة وكارثة أكبر وأخطر إذا ما توقفت كل الأجهزة المعلوماتية وأجهزة الاتصال ، لأنّه يعتمد على نظام شركي ، قوامه الأوّل الأمواج التي تثير الأجهزة وتحركها وتمنحها مزيداً من الدقة في الفعل وردّ الفعل . فهذه الصواريخ كلها تتوجّه وتعمل عبر الأمواج ، وإذا ما أمكن تعطيل حركة الأمواج ، فإنها ـ الصواريخ ـ ستنتهي إلىاحتمالين ؛ إمّا التصويب غير الدقيق ، وهذا يعني نهاية العالم . واحتمال آخر هو التوقّف عن العمل أساساً .
إنّ عجز الكومبيوتر ليس بالشيء الغريب أبداً ، فإن لدينا من القصص والتجارب العديدة ما يؤيد ويسهل هضم هذه الحقيقة الملموسة . فهذا العالم الفيزيائي الشهير ( ألبرت أنشتاين ) الذي يقال إن حجم دماغه كان أكبر من الأحجام المعتادة بنسبة ثلاثين بالمائة من الأدمغة الطبيعية للناس . . وكان ذا قدرة عجيبة على التحليل واكتشاف القوانين والنظريات ، وآخرها نظرية النسبية المعروفة . هذا الرجل ـ على عظمة قدرته الرياضية ـ كثيراً ما كان يفشل في كتابة أو قراءة الرقم ( 2 ) ، مما كان يتسبب في وقوعه في المشاكل والإزعاجات اليومية . ولما كانت قدرة العقل البشري المتوسط يفوق بمليارات المرات قدرة أدق وأحدث كومبيوتر مخترع ، فما بالك بالفارق الذي لا يوصف والذي يميّز عقل أنشتاين عن جهاز الكومبيوتر المشار إليه ؟
وما أريد تأكيده هنا ، هو القول بأنّ احتمال أو توقع حصول خطأ تكنولوجي في الاختراع أو طريقة الاختراع من قبل المخترعين أمر في غاية الصحّة ، وأنّ القول بحصول كارثة بشرية تأريخية قول لا يجانب الصواب أبداً ، بل القول المعاكس هو الخطأ تماماً . وما كانت البشرية لتصل إلى هذا الواقع المرير من القلق والرعب والانفعال ، لو كانت اعتمدت على أسس أفضل ومعتمدات أرقى . فهي تعمّدت ظلم نفسها باعتمادها على المادة المجردة ، وتناسيها آيات خالق المادة . وعلى هذا فإن جزاءها العادل ، هو استمرار الرعب والقلق والانفعال الشيطاني ، ثم حدوث الكارثة فضلاً عمّا ينتظرها منعذاب في يوم القيامة ، يوم الحساب العادل .
إنّ اللَّه عزّ وجلّ يؤكد سنّته الثابتة بقوله المجيد : ﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ … ﴾ 6؛ أي إنّ اللَّه يعاقب كل فرد وكل مجتمع وكل حضارة بعقوبة تتجانس والشيء الذي حاولت عبره تحدّيه . وها هي آيات اللَّه العجيبة تترى علينا كل يوم ونراها بأمّ أعيننا ، فضلاً عمّا قص علينا القرآن الكريم من قصص المدنيات القديمة التي أصيبت بذات السلاح الذياتخذته لنفسها حامياً ودرعاً .
وها هو ( فورد ) مخترع السيارة الحديثة وصاحب الثروة والنفوذ ، ورجل الاقتصاد الأميركي الكبير يواجهه الموت بين دولاراته وصكوكه في صندوق ادّخاره الحديدي ، حيث أقفله على نفسه غافلاً عن أن المفتاح فيالخارج ، ولم ينفعه صياحه واستغاثاته . . تماماً كما قضى اللَّه عزّ وجل على قارون الذي كان يتفاخر على قومه بثروتهوأراضيه الواسعة ، فقبره اللَّه في عمق الأرض ليكون عبرة لمن تسول له نفسه وتوسوس له .
إن طغاة المعلومات اليوم يظنون بأنهم توصلوا إلى قمة العلم ، وأنه من الصعب التطور أبعد من ذلك . وهذا ما يطلقون عليه بنظرية حافّة التأريخ فيما يخص الصراع البشري وتطور البشرية ، غافلين عن قول اللَّه تعالى : ﴿ … وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ 7، ومتغافلين أيضاً عن أنهم ما يظلمون إلاّ أنفسهم بنظريتهم هذه .
إنّ هؤلاء الذين اتخذوا من العلم ولياً من دون اللَّه ، إنما كيانهم ككيان العنكبوت المعرض للزوال بأدنى ريحٍ وحركة .
وها هي سنّة اللَّه الثابتة نراها تتكرر يومياً وبين لحظة وأخرى ؛ إذ من يعتمد على القوّة يهزم بالقوة ، ومن يعتمد على مؤسسات الأمن والمخابرات تنقلب عليه هذه المؤسسات فتبيده ، ومن يعتمد على الإمكانات المادية ينسحق بها .
أمّا الإنسان المؤمن ، فإن من شأنه توحيد اللَّه والاعتماد عليه ، لأن اللَّه لا يهدي إلاّ إلى الخير ؛ بل ذلك قانون كتبه اللَّه على نفسه ، فقال سبحانه : ﴿ … وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ … ﴾ 8سواء كان حاكماً أم محكوماً ، جاهلاً أم مجتهداً . .
بلى ؛ إن من الممكن أن يتخذ المرء أغراض الدنيا وإمكاناتها وسيلة إلى الكمال والتقرب إلى صاحب الكمال المطلق ، وهو اللَّه جل وعلا ، دون أن تتحول هذه الوسيلة إلى مركز ثقل واعتماد . فالذكاء والخبرة والمادة والجنود كلّها ينبغي أن تكونمجرد وسيلة نحو الإقرار بوحدانية اللَّه وقدرته وجبروته وتحكمه بمجريات الأمور 9.
- 1. القران الكريم: سورة العنكبوت (29)، الآيات: 38 – 43، الصفحة: 400.
- 2. القران الكريم: سورة الفاتحة (1)، من بداية السورة إلى الآية 1، الصفحة: 1.
- 3. القران الكريم: سورة الناس (114)، الآية: 6، الصفحة: 604.
- 4. بحار الأنوار : 89 / 107 .
- 5. القران الكريم: سورة الزخرف (43)، الآية: 51، الصفحة: 493.
- 6. القران الكريم: سورة العنكبوت (29)، الآية: 40، الصفحة: 401.
- 7. القران الكريم: سورة يوسف (12)، الآية: 76، الصفحة: 244.
- 8. القران الكريم: سورة الطلاق (65)، الآية: 3، الصفحة: 558.
- 9. من كتاب : الحضارة الإسلامية ، آفاق و تطلعات ، الفصل الرابع : حضارتان متقابلتان .