سيرة الحسين ( عليه السلام ) ، سِلسلة أدلَّة على قوَّة حُسن ظَنِّه بالناس ، وإنَّ نفسه كانت مُفعَمة بآمال الخير فيهم ، ولا غَرو ؛ فإنَّ قوَّة آمال الناهضين تُقاس بقوَّة اعتقادهم بحَقِّهم ، والحسين ( عليه السلام ) كان رمز الإيمان ، وآية الحَقِّ ، ويرى حَقَّه كما يرى الشمس في رابعة النهار ، فحَريٌّ بأنْ يكون على الدوام مُتفألاًّ وبشيراً ، وهو يرى أكثر الناس ، نحو ما يرى نفسه مُستعدِّين لعبادة الحَقِّ ، إذا صادفوا الدليل ، فكان الحسين ( عليه السلام ) يُعامل أعداءه مُعاملة مَن يَحترمون الحَقَّ ، بينما هم غافلون عنه ، فكان يبذل قُصارى الجُهد في تنوير أفكارهم بالاحتجاجات ، وإقامة المُظاهرات ، ويستفرغ وسعه في إنذارهم وإخطارهم ، بالرُسل والخُطب.
وجمهور خصومه كانوا مِن سَفلة البشر ، وعَبدة الطاغوت ، أولئك الذين لا يُقيمون للحَقِّ وزناً ، ولا يرون لغير المال والقوَّة شأناً ؛ وعليه قام حسين الإيمان ، بمُظاهرة باهرة ، بعد اليأس مِن سماح القوم له بالرجوع ، فلَبس عِمامة رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ورداءه ، وتقلَّد بسيف جَدِّه النبي ، وركب ناقته أو فرسه المَعروفة ، وخرج إلى العدوِّ بهيئة جَدِّه النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وزيِّه ، وقد كان هو في مَلامحه شَبيه جَدِّه ، وكانت هذه الهيئة وحدها ، كافية لإظهار أولويَّته بخِلافة جَدِّه مِن طاغية الشام ، لو كانوا يعقلون .
وعَرف شياطين القوم ، أنّ هذه المُظاهرة تعود على الحسين ( عليه السلام ) بفائدة ، سيَّما لو وجد مجالاً للكلام ، وذكَّر السامعين بآيات مِن وحي جَدِّه ، فولولوا بلَغطٍ وضَجيج ؛ ليُضيِّعوا على السامعين كلام الله ، مِن فَم وليِّ الله ، بهيئة نبيِّ الله ، وهو ابن بنت رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، غير إنَّ حسين المَجد ، لم يُضيِّع فُرصته ، فاستنصتهم فأبوا أنْ يُنصتوا له ؛ لجُاجاً وعِناداً ، فنادى فيهم : أيُّها الناس ، اسمعوا قولي ، ولا تَعجلوا ، حتَّى أعِظكم بواحدة ، وحتَّى أُعذر إليكم ، فإنْ أعطيتموني النَّصف كُنتم بذلك سعداء ، وإلاّ فاجمعوا رأيكم ، ثمَّ لا يَكُن أمركم عليكم غُمَّة ، ثمَّ اقضوا إليَّ ولا تُنظرون ، ( إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ) .
فلمَّا ساد الصَّمت ، وهدأ الضجيج خَطبهم ، فحمد الله وأثنى عليه ، ونعت النبي ، فصلَّى عليه ، فلم يَسمع أبلغ مَنطقاً منه .
ثمَّ قال : ( أمَّا بعد ، فانسبوني مَن أنا ، ثمَّ راجعوا أنفسكم وعاتبوها ، فانظروا هلْ يَحلُّ لكم قتلي وانتهاك حُرمتي ؟
ألستْ ابن بنت نبيِّكم ، وابن وصيِّه ، وابن عمِّه ، وأوَّل المؤمنين المُصدِّق لرسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، وبما جاء مِن عند ربِّه ؟
أوليس حمزة سيِّد الشهداء عَمِّى ؟ أوليس جعفر الطيار في الجَنَّة بجَناحين عَمِّي ؟
أولم يَبلغكم ما قال رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لي ولأخي : ( هذان سيِّدا شباب أهل الجَنَّة ) ، فإنْ صدَّقتموني فيما أقول وهو الحَقُّ ، والله ، ما تعمَّدت الكذب مُنذ علمت أنَّ الله يَمقت أهله ، وإنْ كذَّبتموني ، فإنَّ فيكم مَن إنْ سألتموه عن ذلك أخبركم ، سَلوا جابر الأنصاري ، وأبا سعيد الخِدري ، وسهل الساعدي ، وزيد بن أرقم ، وأنس بن مالك يخبروكم أنَّهم سمعوا هذه المَقالة ، مِن رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، أما في هذا حاجز لكم عن سَفك دمي ؟ ) ـ إلى أنْ قال ـ ( فإنْ كنتم في شَكٍّ مِن ذلك ، أو تَشكُّون في أنِّي ابن بنت نبيِّكم ، فو الله لا يوجد بين المشرق والمغرب ، ابن بنت نَبيٍّ غيري ، ويَحكم ، أتطلبوني بقتيل منكم قتلته ، أو مال لكم استهلكته ؟ ) .
ثمَّ نادى : ( يا شَبث بن ربعي ، ويا حجَّار بن أبجر ، ويا قيس بن الأشعث ، ويا يزيد بن الحارث ، ويا عمرو بن الحجَّاج ، ألم تكتبوا إليَّ أنْ قد أينعت الثمار ، واخضرَّت الجِنان ، وإنَّما تُقدِم على جُند لك مُجنَّد ) .
لقد أسمعهم شِبل علي ( عليه السلام ) خِطاباً قويم اللَّهجة ، قويَّ الحُجَّة ، لو كان ثَمَّة مُنصِفٌ ؛ لكنَّما القوم لم يُقابلوه إلاَّ بكلمة ( إنَّا لا ندري ما تقول ! انزل على حُكم بَني عَمِّك ، وإلاِّ فلسنا تاركيك ) .
كلمة مُرَّة طُليت بالقحة ، وتُبطُّنِت بالعَجرفة والانحراف ، نحو الزور والغُرور ، فأجابهم حسين العُل ا: ( لا والله ، لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أقرُّ لكم إقرار العبيد ، يأبى الله ذلك لنا ورسوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، وحُجور طابت وطَهُرت ، فلا نؤثِر طاعة اللئام على مَصارع الكرام ) .
لكنَّما المُظاهرة باحتجاجه ، لم تَذهب سُدى وعَبثاً ، فما مَدَّ الظلام رواقه ، حتَّى انجذب إلى الحسين ( عليه السلام ) ، عديد مِن فرسان ابن سعد ، مِن ذوي المروءة والفتوَّة ، ثائبين تائبين عند المُخيَّم الحسيني .
المصدر: http://h-najaf.iq