نص الشبهة:
ذكر جامع الأسئلة تحت هذا الرقم سؤالاً يرجع إلى أمرين: الأوّل: ان أقصى هدف لوجود الإمام هو رفع الاختلاف ومع القول بوجود الإمام الحي بين الشيعة فكيف يسوغ الاختلاف.
الثاني: قد ذكروا أن ثلاثين رجلاً من علماء الشيعة اتصلوا بالإمام. ذكر المجلسي أنّ الإمام الغائب لا يُرى، ومن ادّعى أنّه رأى الإمام المهدي فقد كذب، فكيف يجتمع هذا مع رؤية ثلاثين عالماً له (عليه السلام).
الجواب:
أمّا عن الأمر الأوّل فهو مبني على أنّ وجود الحجة الإلهية قالع للخلاف من رأس، ولكنّه ليس صحيحاً وإنّما هو يقلل الاختلاف ولا يقلعه، والشاهد على ذلك أنّ المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام) بعث إلى بني إسرائيل، وكانت إحدى وظائفه رفع الاختلاف بينهم، قال تعالى:﴿ … قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ … ﴾ 1.
فأمّا أُولئك الذين كانوا يعشقون الحقّ والحقيقة فقد اتّبعوا عيسى (عليه السلام)، وقبِلوا الحقّ، وأمّا أُولئك الذين يتّبعون أهواءهم، فقد احتضنتهم الاختلافات واتّبعوا طرق الضلال.
إذن: وجود الحجّة من قبل الله تعالى (سواء كان نبيّاً أو إماماً) لا يلازم رفع الاختلاف.
ويشهد على ذلك قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمانٌ لأُمّتي من الاختلاف فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس» 2.
ومع وجود الحجة نرى أنّ النبي يخبر عن الاختلاف وهذا من أوضح الأدّلة على أنّ وجود الحجة الإلهية لا يلازم رفع الاختلاف من رأس، وإنّما يخفف منه، فمن صلحت سيرته تبع الحجة، وأمّا من خبثت فيسلك سبيلاً منحرفاً.
هذا كله حول الضابطة الكلية، وأمّا وجود الاختلاف ـ رغم القول بوجود الأئمة المعصومين بعد رحيل الرسول عصراً بعد عصر ـ فالجواب عنه:
أوّلاً: انّ وظيفة الإمام هو بيان الأُصول الّتي تناط بها الحياة الأُخروية، وأمّا الاختلاف في المسائل الكلامية المتداولة بين المتكلمين فليس رفع الاختلاف فيها من وظائفه، ولو سئُل الإمام عنها ربّما يقوم ببيان الحق فيها تفضّلاً لا إيجاباً.
فالروايات الواردة في الكافي وتوحيد الصدوق حول الأُصول والعقائد كافية لرفع الاختلاف في المسائل العقائدية الأصلية، ونحن نحمد الله سبحانه أنّ الشيعة متفقة في هذه الأُصول بفضل هذه الروايات.
وأمّا الاختلاف في المسائل العقلية كتجزّؤ الجزء في الجسم الطبيعي وإمكانه وعدم إمكانه، أو الطفرة وعدمها، فهذا لا صلة له بمقام الإمامة.
وأمّا الأحكام فالاختلاف فيها أمر طبيعي، لأنّ أئمة أهل البيت كانوا في المدينة أو مضيقاً عليهم في العراق ومرو، ولم يكن بإمكان الفقهاء الاتصال دوماً بهم (عليهم السلام)، ولذا لجأوا إلى الاجتهاد طبقاً لما عندهم من روايات، فصار الاختلاف أمراً طبيعياً، كما هو الحال عند السنة بالنسبة لما عندهم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
ثم إنّ المتلقّين عن الإمام يختلفون في قابلياتهم وملكاتهم الفكرية والعلمية.. ومن ثم يختلفون في فهمهم لما يُلقى إليهم.. وبذلك تتعدد آراؤهم في المسائل والأحكام.
وأمّا ما يرجع إلى الإمام المهدي (عليه السلام)، وقوله إنّه مع وجوده (عليه السلام)، ظلّ الاختلاف قائماً، فالجواب عنه بوجهين:
أوّلاً: أنّ ما ذكره من أنّ (30) عالماً تشرّفوا بلقائه، أمر غير ثابت، ولم يذكر له مصدراً، ولو نقله شخص، فهو خبر واحد لا يُعتمد عليه في مجال العقائد.
وثانياً: أنّ لقاء الأماثل من الشيعة لإمام عصرهم، قد يتفق في فترات قصيرة، لا يترقب منه رفع الاختلاف في المسائل الشرعية، الّتي لا تتناهى عدداً.
أضف إلى ذلك: أنّ الشريعة إنّما صارت حيةً في ظل البحث والنقاش، والحقيقة بنت البحث، فلو كان الغرض من وجود الإمام هو إظهار الحقائق في كل مسألة فرعية جزئية، فمعنى ذلك إقفال باب البحث والاجتهاد، الّذي هو رمز حيوية الشريعة وبقائها، والشاهد على ذلك أنّ الاختلاف كان سائداً في حياة الأئمة السابقين، كما تقدّم 3.