لكي يسمو الانسان المؤمن ويرتفع الى مستوى وعي وادراك القران ، وفهم الحياة التي ارادها ورسم خطوطها هذا الكتاب المجيد ، فلابد ان يعرف ان هناك آفاقا ثلاثة يتحرك في سموه من خلالها ، وهي افق التاريخ ، وبعده افق الطبيعة ، ومن ثم افق الانسانية .
1 ـ افق التاريخ
ويعني افق التاريخ ان على الانسان ان يغوص في رحاب الزمن المنقضي ، ويلمس بوجدانه واحاسيسه تجارب الماضين ، وان يستفيد وينتفع منها ، فلا يقتصر على تجاربه الذاتية ، وعدم الاقتصار هذا من شأنه ان يزيد اعتباره من السابقين ، وهذه الميزة هي من الفوارق الرئيسية التي تفصل الانسان وتميزه عن اي كائن آخر ، فالحيوان كائن غير ناطق ، ولا يملك لغة التفاهم لكي يوصل ويوضح تجاربه لنسله ، فلو افترضنا ان الحيوان يستطيع اكتساب التجارب فانها سوف تنتهي وتضمحل بانتهاء واضمحلال هذا الحيوان .
ولكن الامر عند الانسان يختلف تماما ، فقد من الله ـ تعالى ـ عليه بالنطق ، وقدرة الايضاح والبيان ، وبالتالي فانه يتوارث التجارب المنتقلة الى الاجيال المتعاقبة عبر نافذة التاريخ .
وفي القران الكريم نلحظ ونلمس قيمة تلك التجارب والعبر التي ينقلها الى وجداننا هذا الكتاب السماوي الخالد ، ولعل هذه التجارب والقصص والعبر احتلت ثلث هذا الكتاب الالهي ، ففيه نقرأ ونعيش تجارب الماضين ؛ قصص ابراهيم ونوح ومن قبلهما آدم (ع) ومن بعدهما موسى وعيسى (ع) ، والعشرات من الامم وانبيائها وتجاربهم وصراعهم المرير في هذه الحياة .
ففي القران الكريم الكثير من الايات المباركة التي تشير الى هذه الحقيقة ، وتدور حول محورها ، فتخاطبنا بأنواع الخطاب مرة بـ ” يا بني آدم ” واخرى بـ ” يا ايها الناس ” وثالثة بـ ” يا ايها الذين آمنوا ” وهكذا .
كل تلك الايات وغيرها تتوارد في القران الكريم وملؤها توجيه وارشاد الانسان وافادته بالعبر من الامم الغابرة والعصور السالفة .
ان الامة التي تتغافل عن تاريخها ، ولا تتفحص جذوره ، ليست امة اصيلة ، فالانسان الذي يعيش منعزلا دون ان يأوي الى كهف التاريخ فانه سيتهاوى ويضمحل ، والانسان المؤمن الذي يطمح لان يضحى انسانا رساليا يواصل الصعود على سلم التكامل ، ويستهدف صنع الانتصار فوقثرى هذه الارض ، هو الذي يحيى ويعي آفاق التاريخ الشماء .
2 ـ افق الطبيعة
اما آفاق الطبيعة فنعني بها ان نعيش في هذه الطبيعة ونعايشها ، فلابد للانسان من معايشة الارض وما فيها وما يدب عليها ، فانت لست وحدك الذي تستفيد من شعاع الشمس ، وتستضيء به ، ولست وحدك تتمتع بنور القمر ، وتهتدي بالنجوم ، وتنال مما تنبته الارض مأكلا ومشربا وملبسا ، فحولك تعيش المخلوقات الاخرى ويجب عليك ان تتكيف معها كي تحيا حياة طيبة .
وربما يدخل في نفسك شيء من الاندهاش والعجب حين اقول ان لابد لك من ان تكن الحب لكل تلك المخلوقات من النملة الصغيرة وحتى اغرب مخلوق لايخطر على ذهنك ، فلابد من ان يعيش الانسان روح المحبة والود لكل مظاهر الطبيعة ، ذلك لان الله ـ تعالى ـ هو الذي خلق وابدع ما في السماوات والارض ، وجعل كل هذه الخلائق في خدمة الانسان الذي فضله الله عليها ، فاضحت كلها مسخرة له .
وفي هذا المجال يقول الامام علي (ع) : ” اعلموا انكم مسؤولون عن بقاع الارض ” ، فكل بقعة وطأتها رجلاك تأتي يوم القيامة لتكون شاهدة لك وعليك ، وان على عاتقك مسؤولية تجاه هذه الارض ، فكل ما في الحياة له قدر من الوعي والشعور .
ان الراسخ في اذهاننا ان الجماد لا يفهم ولا يشعر ، فالصخور والجبال وربما حتى بعض الاحياء كالنبات ، نعرف انها لا تفهم ولا تدرك شيئا من عالمها البسيط المحدود ، ولكن الامر اعمق من ذلك بكثير ، فكل هذه الجمادات تتمتع بنوع من الأحاسيس والإدراك غير الذي نعرفه ، ولها نوع من الشعور لا يمكن ان ندرك كنهه لأن عوالم وعيها غير التي عندنا ، ولا يمكننا ان نفقه تلك العوالم بتجاربنا وأحاسيسنا مهما تطورت وتقدمت .
قال ربنا ـ سبحانه ـ : ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾1فكل شيء ـ اذن ـ له قدر من التوجه ، وفي القران الكريم نرى في بعض اشعاعاته المباركة هذا المعنى ، فهو ـ تعالى ـ يقول : ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ … ﴾ 2، فهذه الرواسي كانت تردد مع داود (ع) تسبيحه ، وهذا المعنى مالا تتقبله عقول اولئك الذين تعلموا العلوم السطحية في هذه الدنيا ، والذيـن لا يؤمنون بما وراء الغيب ، وانما يدركه اولئك الذين اوتوا الهدى والبصيرة .
ولقد كان رسول الله (ص) يجسد هذا المعنى في أقواله ، وأفعاله الكريمة ، فقد كان يعطي لكل حاجة من حاجاته اسما كفرسه ، وبغلته ، وثوبه ، وعمامته ،وهكذا الحال بالنسبة الى أئمتنا (ع) فالإمام زين العابدين (ع) كانت له ناقة ، حج واعتمر عليها طيلة عشرين عاما ،فما افزعها يوما بصوت ولا ضربها .
وربما قد يتخذ البعض منا موقفا معاديا وكارها للاشياء ، وهذا من تعاستهم وشقائهم ، فهم يودون دمار الاشياء وفناءها ، او انهم قد يسرفون في استهلاك بعض الحاجيات ، ويتلفونها تبذيرا وبطرا واسرافا ، في حين ان علينا ـ انطلاقا من المبدأ الذي ذكرناه ـ ان نضع لكل شيء قيمته وثمنه ، وانه لمن حسن طباع الانسان وخاصة الانسان المؤمن احترام النعم ، وتقدير الخيرات .
وعلى هذا فلابد ان نتعامل ايجابيا مع الأشياء ، ونتفاعل معها بمحبة وانسجام ، فكل ما في هذه الطبيعة هو لخير ونفع ابن آدم ، ففيها ما يبعث على معرفة الله ـ تعالى ـ ويعزز الايمان الذي فيه ذروة السعادة والاطمئنان .
وكثير من الاختراعات والابداعات يتوصل اليها من خلال دراسته لهذه الطبيعة ، واستفادته من ظواهرها ، فالطائرة ـ مثلا ـ اكتشف الانسان سرها من خلال الطير ، وهكذا بالنسبة الى الكثير من الاكتشافات ، وبيت العنكبوت الذي ضرب القران به مثلا في قوله : ﴿ … وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ … ﴾ 3، هذا البيت أبدعت فيه يد الخالق ـ تعالى ـ ، فجعلته في احكم هندسة ، ومن هذه الهندسة التي اوحاها الخالق ـ تعالى ـ لهذا المخلوق تعلم المهندسون والعلماء مد الاسلاك الكهربائية ، وإقامة أبراج الضغط العالي ، فالانسان هو تلميذ الطبيعة وآفاقها .
3 ـ افق الانسانية
الذين يتحركون ويعملون ويتنفسون ويشعرون يبلغ عددهم اليوم على وجه الارض ستة الاف مليون ، انهم يشتركون في صفة الانسانية ، فلا يمكن لاي واحد منهم ان يحصر اهتماماته في ذاته او عائلته او حتى في اطار مجتمعه ، فهذا الامتداد يجب ان يمتد الى كل افق يحيى في نطاقه انسان ، خصوصا اولئك الذين يعيشون هموم الحياة ، ويعانون آلامها ومصاعبها الجمة ، واعني بذلك المظلومين والمضطهدين والجياع في كل ناحية من نواحي هذه الارض المترامية ، ثم ان لهؤلاء ايضا عقولهم ومداركهم وتجاربهم فيمكنك الإفادة منهم انطلاقا من كونهم ابناء جنسك .
وهكذا لابد ان تعرف ما حولك ، وتتصل بشتى المجتمعات ، وتتابع اخبارها ، فليس من الصحيح ان نتذرع في هذا المجال بأن اهتمامنا يجب ان يقتصر على بلدنا ومجتمعنا ، بل يجب ان نتفاعل قدر استطاعتنا مع المجتمعات والأمم الأخرى بالإضافة الى مجتمعنا وامتنا .
وفي هذا الصدد يقول أمير المؤمنين (ع) : ” العارف بزمانه لا تهجم عليه النوائب ” ، ويريد الإمام بذلك انك تعيش ضمن حياة معينة ، ولابد لك من ان تكتشفها ، وان تعرف العصر الذي تعيش فيه ، والانتفاع من تجاربه .
لقد شيدت الحضارة الأولى على أسس الوحي الالهي الهابط من السماء نقيا صافيا ، ومع ذلك يحث الرسـول (ص) علـى المعرفـة والأخذ والاعتبار من الغير ، يقول (ص) : ” اطلب العلم ولو في الصين ” و ” الحكمة ضالة المؤمن اينما وجدها التقطها ” .
والانسان المسلم يمر اليوم بمرحلة حساسة في هذه الفترة الزمنية ، فربما نكون غافلين عن احداث و وقائع تحدث في بلد من البلدان القريبة او البعيدة ، وقد تقول : وما شاننا بهذا البلد او ذاك ؟ كلا .. بل لك شأن بها ، وهي تهمك ، وترتبط بقضاياك المصيرية . فالحدث الذي يقع في اي موضع من العالم قد ترى تأثيره المباشر والسريع في الجهة الاخرى من الكرة الارضية ، وذلك بفضل وسائل الاتصال السريع الذي يتمتع به العالم المتحضر اليوم ، وربما سيصبح بأمكاننا في القريب العاجل التقاط واستقبال عدة محطات تلفزيونية ونحن جالسونفي بيوتنا بفضل تطور تكنلوجيا الفضاء والأقمار الصناعية ، وهذا ليس بألامر الهين لما ينطوي عليه من خطورة الإفساد من خلال أجهزة التلفاز ، وبالتالي فان المجتمعات الإسلامية مهددة بالآفات الثقافية والخلقية .
في هذه الحالة لا يمكننا ان نسكت ونقول ان هذا أمر لا يعنينا ، فموقف كهذا مرفوض اشد الرفض ، لان الارض التي نعيش عليها هي بمثابة سفينة ، والافساد فيها هو بمثابة خرق لها ، وعندما تخرق هذه السفينة فان أحدا سوف لا يسلم من الغرق والموت ، بل الجميع سوف يصبح عندئذ مهددا .
فلنعرف موقعنا اليوم ، والحالة التي نحن عليها ، علينا ان نعرف ذلك ، وان نعرضه على التاريخ ، ونقارنه به ، كي نستفيد من ايحاءات هذا التاريخ ، ومن القيم والقمم الشامخة التي تبرز بين ثناياه ، تلك التي نـراها واضحة بينة عندما نتصفح كتاب الله المجيد ، فنستوحي منها هدى وبصيرة نافذة ، لنصحح عندئذ مسيرتنا ، ونستثمر طاقاتنا في الطريق السوي 4 .
- 1. القران الكريم: سورة الإسراء (17)، الآية: 44، الصفحة: 286.
- 2. القران الكريم: سورة سبإ (34)، الآية: 10، الصفحة: 429.
- 3. القران الكريم: سورة العنكبوت (29)، الآية: 41، الصفحة: 401.
- 4. الوعي الإسلامي ، آية الله السيد محمد تقي المدرسي ، الناشر : دار الكلمة الطيبة ، مجلد واحد في قطع الرقعي ، الطبعة الثانية .