نص الشبهة:
اصطحب رسول الله ﷺ الصديق أبا بكر في هجرته واستبقاه حياً، وبالمقابل عرّض علي بن أبي طالب «رضي الله عنه» للموت والهلاك على فراشه.. فلو كان علي إماماً وصياً، وخليفة منصوباً، فهل يُعَرض للهلاك، ويُسْتبقى أبو بكر، وهو لو مات فلا ضرر على الإمامة ولا سلسلة الإمامة من موته؟! وهنا السؤال: أيهما أولى، أن يبقى حياً لا تمسه شوكة، أو يطرح على فراش الموت والهلاك… ؟! وإن قلتم: إنه ـ أي علي ـ يعلم الغيب، فأي فضل له في المبيت؟!
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
وله الحمد، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد..
فإننا نجيب بما يلي:
هل كان أبو بكر صديقاً؟!
إن وصف أبي بكر بالصديق ليس في محله، فقد روي عن علي أمير المؤمنين «عليه السلام» أنه قال على منبر البصرة: «أنا الصديق الأكبر، والفاروق الأعظم لا يقولها بعدي إلا كاذب (كذاب مفتر)» 1.
إلا أن يقال: إن السائل لم يدَّع أن أبا بكر هو الصديق الأكبر، بل وصفه بكلمة «صديق» فقط، فلا منافاة بينه وبين أن يكون علي أمير المؤمنين «عليه السلام» هو الصديق الأكبر.
ونقول في جوابه
لا مبرر لوصف أبي بكر بالصديق أيضاً، لأن إسلامه قد تأخر عدة سنوات، ولهذا البحث مجال آخر. فراجع كتاب: الصحيح من سيرة النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله»..
هل اصطحب النبي صلى الله عليه وآله أبا بكر في الهجرة؟!
إن كلام السائل إنما يصح لو كان النبي «صلى الله عليه وآله» هو الذي بادر إلى اصطحاب أبي بكر، ولكن هذا موضع شك، لأن هناك روايات تقول: إن النبي «صلى الله عليه وآله» خرج إلى الغار من دون أن يعلم أحد، ولكن أبا بكر خرج يتنسم الأخبار، فوجد علياً «عليه السلام» نائماً على فراش النبي «صلى الله عليه وآله»، فسأله عن رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فأخبره أنه خرج نحو بئر ميمون، فلحقه أبو بكر، فوجده، وبقي معه..
وعلى هذا.. فلا معنى لقول السائل: اصطحب، لأنه «صلى الله عليه وآله» لم يصطحبه، بل كان هو الذي لحق به.
كما لا معنى لقوله: «واستبقاه حياً»، ولا لقوله: «ويستبقي أبو بكر»، فإن كل ذلك لم يكن، أو هو على الأقل موضع شك كبير.
لو طلب من أبي بكر ما طلب من علي عليه السلام!!
من الذي قال، وكيف يثبت لنا: أنه لو كان النبي «صلى الله عليه وآله» قد طلب من أبي بكر ما طلبه من علي «عليه السلام» ـ من الذي قال ـ: إنه سوف يستجيب له ؟!
ولو استجاب، من الذي قال: إنه كان سوف يثبت كما ثبت علي «عليه السلام»، حين يرى السيوف تبرق حوله ؟! فإننا لم نعهد أبا بكر من أهل الثبات في الحرب، بل عهدناه من أهل الفرار، والتلكؤ والتجافي عنها، وقد فرَّ في أحد، وفي خيبر، وفي ذات السلاسل، وفي حنين، وتلكأ في الخندق عن مبارزة عمرو بن عبد ودّ..
وفي بدر آثر أن يحتمي برسول الله «صلى الله عليه وآله» لعلمه بأن المسلمين سيفدون النبي «صلى الله عليه وآله» بأرواحهم، وسيؤثرون أن يقتلوا عن آخرهم قبل أن يصل المشركون لرسول الله «صلى الله عليه وآله»..
وحين يتحدَّث الرواة والمسلمون عن أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» كان في ساحة الحرب هو الأقرب إلى العدو، لا نجدهم يذكرون أبا بكر في كل تلك الحرب ببنت شفة، وكأنه لم يحضر حرب بدر أصلاً..
تضحية علي عليه السلام بنفسه لا ينفيها جعله خليفة
إن مبيت علي «عليه السلام» على الفراش، والتعرض للقتل، لا يتنافى مع جعله «صلى الله عليه وآله» إياه خليفة وذلك لما يلي:
ألف: إن الثابت: هو أنه «صلى الله عليه وآله» قد قال لبني هاشم يوم نزل قوله: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ 2:
إن علياً «عليه السلام» أخي ووصي وخليفتي، أو خليفتي فيكم، أو نحو ذلك، ولم يثبت أنه «صلى الله عليه وآله» قال: «من بعدي».
ب: قد تكون خلافته له على حد خلافة هارون لأخيه موسى «عليه السلام» مع أن هارون قد مات قبل موسى «عليه السلام».. حيث لا بد من أن يريد بذلك عموم خلافته له في حياته وبعد وفاته، إذ لو كان المقصود خصوص خلافته له حال حياته لم يكن معنى لأن يقول: إلا أنه لا نبي بعدي، بل كان الأحرى أن يقول: لا نبي معي..
ولو كان المراد خصوص الخلافة في تبوك لم يكن هناك حاجة إلى تنزيله منزلة هارون من موسى، لأنه «صلى الله عليه وآله» قد استخلف كثيرين غيره على المدينة، فلماذا ؟! لم يجعل لهم منزلة هارون من موسى أيضاً.
فالعبرة هي بعموم اللفظ لا بخصوصية المورد.. ويشهد لذلك: أن أحداً لا يدعي أن آية: ﴿ … وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ … ﴾ 3. خاصة بحياة الرسول «صلى الله عليه وآله».
ج: إن هذا النحو من التعابير، يستبطن قيداً واقعياً هو: أنه خليفته على تقدير البقاء حياً، فإن أي إنسان يجعل وصياً أو وكيلاً، فإنه لا يستطيع أن يضمن بقاء وصيه أو وكيله حياً إلى ما بعد وفاته، لاحتمال موته قبله أيضاً، ولكنه يجري الأمور على سبيل التقدير، واستناداً إلى ما يغلب على ظنه، بملاحظة سنه وما جرت العادة عليه لو سارت الأمور بصورة طبيعية..
وكذلك الملك حين يجعل ولده أو أخاه ولي عهده، فإنه لا يضمن بقاءه حياً بعده..
د: حتى لو كان الله سبحانه قد أمر نبيه بنصب علي «عليه السلام» إماماً للأمة في حياته وبعد وفاته، فإنه لا شيء يمنع من أن يكون ذلك قد جرى وفق قانون البداء حسبما شرحناه في إجابتنا على السؤال رقم 103، حيث قلنا: إن الله تعالى يخبر نبيه بأن الأمر الفلاني سيحصل، وفق السنن الإلهية الموضوعة، ولكنه لا يخبره عن أن بعض الموانع سوف تطرأ وتمنع من حصوله، أو أن بعض شرائط حصوله سوف لا تتوفر له..
هـ: وعدا ذلك كله، لو فرضنا أن المورد ليس من موارد البداء، فإن جعل الخلافة له لا يمنع من تعرضه إلى الجراح وقطع الأعضاء، أو تعطيلها، أو كسرها في مواجهة كهذه..
وربما يكون قوله «صلى الله عليه وآله» لعلي «عليه السلام» بعد قصة المبيت بيومين: «إنهم لن يصلوا إليك من الآن يا علي بأمر تكرهه» 4، منسجماً مع هذين الجوابين الأخيرين.. حيث دلَّت هذه الكلمة على أنه «عليه السلام» لم يكن قبل ذلك في مأمن من وصول المكروه إليه، وكما يحتمل أن يكون هذا المكروه هو الموت، فإنه يحتمل أن يكون قطعاً أو جرحاً وآلاماً..
آية الشراء نزلت في علي عليه السلام
وعن آية الشراء نقول:
ألف: إن نزول قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ 5. يكفي في الدلالة على عظمة الإنجاز الذي حققه علي «عليه السلام» في هذه المناسبة ـ أعني مبيته ليلة الهجرة ـ، وأنه لم يكن هناك استهانة به ولا تخل عنه. بل كان مرعياً بعين الله، تشهد موقفه الملائكة، ويشيد الله تعالى بذكره في كتابه المجيد.
فمن الذي قال: إن أبا بكر لو كان في مكان علي «عليه السلام» كان سيصمد أمام الخطر الذي يحدق به ؟!
بل من الذي قال: إنه يستطيع أن ينفذ أمر النبي «صلى الله عليه وآله» لو طلب منه أن يحتل مكان علي «عليه السلام»، كما يدل عليه حزنه، حتى وهو في كنف رسول الله «صلى الله عليه وآله» في الغار: ﴿ … إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ … ﴾ 6.
مع أنه كان يشاهد المعجزات تتوالى الواحدة بعد الأخرى..
وقد رأينا: أن النبي «صلى الله عليه وآله» حين طلب في الحديبية من عمر أن يذهب برسالته إلى أهل مكة لم يقبل، وتعلل بأنه لا عشيرة له في مكة تحميه، فأرسل عثمان 7.. ولا شيء يدل على أن أبا بكر كان أقوى من عمر في هذه الجهة..
وخلاصة الأمر: إن أبا بكر لم يذكر في القرآن بشيء يدلُّ على فضيلة له، بل ذكر بما دلَّ على ضد ذلك، وهذا الأمر يدلُّ على عظيم فضل علي «عليه السلام»، وأن المطلوب هو تكريم علي «عليه السلام» وإعزازه، وليس المطلوب ذكر أي فضل لغيره على الإطلاق.
ولو كان المطلوب هو استبقاء أبي بكر، وحفظ حياته. لكان الله قد أثنى عليه ولو بكلمة، لا أن يعرض بذمه الشديد في آية: ﴿ … ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ … ﴾ 6.
ب: إن آية الشراء هذه تدلُّ على أن علياً «عليه السلام» كان هو الساعي، والمبادر، والباذل لنفسه من أجل حفظ الرسول «صلى الله عليه وآله»، وأن القضية لم تكن مجرد امتثال لأمر الرسول «صلى الله عليه وآله»، واستجابة لطلبه ولو على مضضٍ. بل هو طلب كالماء الزلال صادف أرضاً عطشى!!
علم علي عليه السلام بالغيب
بالنسبة لعلم علي «عليه السلام» بالغيب نقول:
إنه يعلم ما أعلمه إياه رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وليس ثمة ما يثبت أنه «صلى الله عليه وآله» قد أعلمه بأكثر مما قلناه فيما تقدم..
والحمد لله، والصلاة والسلام على محمد وآله.. 8.
- 1. راجع: مستدرك الحاكم ج 3 ص 112 وتلخيص ه للذهبي (هامش نفسه الصفحة)، والأوائل ج 1 ص 195 وفرائد السمطين ج 1 ص 248 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج 13 ص 228 وراجع ج 1 ص 30 والبداية والنهاية ج 3 ص 26 والخصائص للنسائي ص 46 بسند رجاله ثقات، وسنن ابن ماجة ج 1 ص 44 بسند صحيح، وتاريخ الأمم والملوك ج 2 ص 56 والكامل في التاريخ ج 2 ص 57 وذخائر العقبي ص 60 عن الخلفي، والآحاد والمثاني (مخطوط في كوپرلي رقم 235)، ومعرفة الصحابة لأبي نعيم (مخطوط في مكتبة طوپ قپوسراي رقم 497) ج 1 وتذكرة الخواص ص 108 عن أحمد في المسند، وفي الفضائل، وفي هوامش ترجمة الإمام علي «عليه السلام» من تاريخ ابن عساكر (بتحقيق المحمودي) ج 1 ص 44 و 45 عن: المصنف لابن أبي شيبة ج 6 الورق 155 / أ وكنز العمال (ط 2) ج 15 ص 107 عن ابن أبي شيبة، والنسائي، وابن أبي عاص م في السنة، والعقيلي والحاكم، وأبي نعيم، وعن العقيلي في ضعفائه ج 6 الورق 139 ومعرفة الصحابة لأبي نعيم ج 1 الورق 22 / أ وتهـذيب الكـمال للمزي ج 14 الورق 193 / ب وعن تفسير الطبري، وعن أحمد في الفضائل الحديث 117 ورواه في ذيل إحقاق الحق (الملحقات) ج 4 ص 369 عن ميزان الإعتدال ج 1 ص 417 وج 2 ص 11 و 212 والغدير ج 2 ص 314 عن كثير ممن تقدم، وعن الرياض النضرة ص 155 و 158 و 127 وراجع: اللآلي المصنوعة ج 1 ص 321.
- 2. القران الكريم: سورة الشعراء (26)، الآية: 214، الصفحة: 376.
- 3. القران الكريم: سورة الشورى (42)، الآية: 38، الصفحة: 487.
- 4. راجع: الأمالي للطوسي ج 2 ص 83 و (ط دار الثقافة) ص 468 وحلية الأبرار ج 1 ص 147 وبحار الأنوار ج 19 ص 62 والميزان ج 9 ص 82 والدرجات الرفيعة ص 411 وأعيان الشيعة ج 1 ص 237 و 376 وكشف الغمة ج 2 ص 32.
- 5. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 207، الصفحة: 32.
- 6. a. b. القران الكريم: سورة التوبة (9)، الآية: 40، الصفحة: 193.
- 7. مسند أحمد ج 4 ص 324 وتخريج الأحاديث والآثار ج 3 ص 309 و 310 وجامع البيان للطبري ج 26 ص 111 وتفسير الثعلبي ج 9 ص 47 وتفسير البغـوي ج 4 ص 193 وتفسير القرآن العظيم ج 4 ص 200 و 210 وتفسير الثعالبي ج 5 ص 254 والثقات لابن حبان ج 1 ص 298 و 299 وتاريخ مدينة دمشق ج 39 ص 78 وتاريخ الأمم والملوك (ط مؤسسة الأعلمي) ج 2 ص 278 والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج 4 ص 191 والسيرة النبوية لابن هشام ج 3 ص 780 وعيون الأثر ج 2 ص 118 والسيرة النبوية لابن كثير ج 3 ص 318 وسبل الهدى والرشاد ج 5 ص 46 والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج 2 ص 700 وبحار الأنوار ج 20 ص 329 وعين العبرة في غبن العترة ص 24 وتفسير مجمع البيان للطبرسي ج 9 ص 194.
- 8. ميزان الحق (شبهات.. و ردود)، السيد جعفر مرتضى العاملي، المركز الإسلامي للدراسات، الطبعة الأولى، سنة 1431 هـ ـ 2010 م، الجزء الأول، السؤال رقم (27).