المؤمن الحق هو ذلك الإنسان الذي آمن بالله تعالى بقلب سليم نقي؛ فملأ الايمان جوانب قلبه ، وانتشر في كل جوارحه ، كما يضخ القلب السليم الدم النقي إلى كل الشرايين في انحاء الجسم .
والمؤمن الحق هو ايضا ذلك المرء الذي كان ايمانه كقلبه النقي لا يعتريه ادنى كدر . ومن علامات هذا الايمان التي تجدها ملموسة في مواقفه وسلوكه واقواله ؛ الصدق و الاخلاص و الوفاء و الامانة والشجاعة والثبات وغير ذلك من صفات الذين يحبهم الله ويحبونه.
اما المنافق فهو على العكس من ذلك ؛ فهو متردد ، متراجع ، ذو وجهين ، مريض في مواقفه وسلوكه ، منهزم عند المواقف الجدية ، يبحث عن مبررات انهزامية ، وتتلاطم في نفسه امواج التناقض الداخلي فيطفح منها الكدر ، ويغرق فيها ضميره ووجدانه فيترسخ الكفر في اصل اعتقاده وايمانه .. فهو والكافر إلى مآل واحد ، بل انه ربما يكون اكثر عقاباً وعذاباً من الكافر .
والناس يتراوحون بين هذين الصنفين ، ولعل الاكثرية منهم ينتمـون إلى الصنف الثاني ؛ أي ممن ترجح في نفوسهم كفة خصال المنافقين كما يشير إلى ذلك قوله تعالى : ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ 1والتاريخ يحمل في طياته امثلة كثيرة على اولئك الذين احبهم الله واكرمهم بأحسن الكرامات ، وكذلك الذين ابغضهم وسخط عليهم وجعل مآلهم إلى جهنم وبئس المهاد .
صدق على طول الخط
فالتاريخ ـ مثلاً ـ يحدثنا بكل فخر عن واحد من المؤمنين الصادقين الذين باعوا حياتهم الدنيا بالآخرة ؛ فكانت قلوبهم طاهرة سليمة ، ونفوسهم نقية تقية ، وكلماتهم صادقة صريحة ، ومواقفهم واضحة لا لبس فيها ولا تدليس ، وسلوكهم في حياتهم الاستقامة والثبات .. فرضوا بما قضى الله تعالى لهم وما قدر . انه ابو ذر الغفاري رضوان الله تعالى عليه ، ويكفيه فخراً وعلو منزلة وقدر ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال في حقه : ” ما أظلّت الخضراء ولا أقـلّت الغبراء على ذي لهجة اصدق من ابي ذر ” 2 .
لقد بلغ في الصدق درجة بحيث انه كان صادقاً في جميع مواقفه، حتى تلك التي كان ينبغي فيها الكذب لضرورة العقيدة ، ولكنه صدق ـ مع ذلك ـ فكان الله عز وجل معه ؛ فقد حمل رسول الله صلى الله عليه وآله بردائه على ظهره ، وخرج من البيت يوم تآمروا على قتله صلى الله عليه وآله . فلما سأله الكافرون عن الذي يحمله على ظهره ، قال وبكل صراحة : انه رسول الله . فظن المشركون ان اباذر يستهزىء بهم ، فهل يعقل ان يقول الحقيقة لو كان رسول الله صلى الله عليه وآله على ظهره فعلاً ؟
وهكذا خدعهم ابو ذر بصدقه وذكائه . فكانت مواقفه الصادقة هذه دليلاً على شجاعته ، وقوة نفسه الأبية .
عن زيد بن وهب ، قال مررت على أبي ذر بالربذة فقلت : ما أنزلك بهذه الأرض ؟ قال كنا بالشام فقرأت ﴿ … وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ … ﴾ 3قال معاوية : ما هذه فينا ما هذه إلاّ في أهل الكتاب ، فقلت انها فينا وفيهم فكان بيني وبينهم في هذا الكلام .. فوصل ذلك إلى عثمان ، فكتب اليّ : ان شئت تنحيت عنه . فذلك الذي انزلني هنا 4 . وجاء في رواية أبي الجارود عن ابي جعفر عليه السلام في قوله : ﴿ يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ﴾ 5 قال : كان ابوذر الغفاري يغدو كل يوم وهو بالشام فينادي بأعلا صوته : بشّر أهل الكنوز بكيٍّ في الجباه ، وكيٍّ بالجنوب ، وكيٍّ بالظهور أبداً حتى يتردد الحر [ق] في أجوافهم 6 . وهكذا فان الرجال على نوعين : نوع يبقى ذكره خالداً بالسمو والرفعة كأبي ذر عليه الرحمة ، ونوع يلفظه التاريخ ، واذا ما ذكر فباللعن الأبدي . وهناك أناس يتأرجحون بين الاثنين ؛ فمنهم من يميل إلى كفة النفاق ، وهم ذوو التبرير والتردد ، وهؤلاء كثيرون في العصر الاول للإسلام ، وكثيرون على امتداد فترات التأريخ التي شهدت منعطفات في الحركات والمواقف الثورية ضد داء الانحراف الذي استمر يدب في جسد الامة بدء من رؤوس انظمتها .
ان المنافق ـ كما قلنا ـ كالكافر ، بل هو أسوء منه ، فهو حين يقوم بالفرائض العبادية فان قيامه هذا لا ينبع من اعتقاد صحيح في قلبه ، بل يصدر من المراءاة ، وربما خوفاً من المجتمع الذي يحيط به . والمعذرون ـ حسب التعبير القرآني ـ او المبررون هم اقل درجة من المنافقين ؛ فالمعذر يستخدم ـ مثلاً ـ الثورية بدلاً من اظهار الكذب الحقيقي والصريح ؛ اي انه يكذب بطريقة لا تشعرك بانه يكذب . وهذا هو حال اكثر الأشخاص المحيطين بنا . فالتبرير والاعتذار والالتواء هو الداء الاجتماعي الخطير الذي يسري في عروق مجتمعاتنا، ولعله يعشش في نفوسنا جميعـاً إلاّ من عصمه الله تعالى .
من مظاهر النفاق في حياتنا
وعلى سبيل المثال فان قلت لأحدهم : ما الذي يمنعك من ان تجاهد في سبيل الله ؟ نشطت ماكنة التبرير في مخه ، فيبدأ بصياغة الاعذار ، وخلق المبررات لتقاعسه . فقد يقول مثلاً انه اذا ما جاهد فسيكون طعمة في افواه الناس ، وعرضة للومهم وانتقاداتهم ، ناسياً ان رسول الله صلى الله عليه وآله الذي هو سيد الأنام و اكرم الموجودات لاقى في دعوته ما لم يلقه احد من المرسلين والانبياء من الاذى والحرمان والمعاناة والقطيعة .. فمضى في دعوته ومسيرته رغم ما قالوا عنه ، ورغم الافتراءات والتهم التي كيلت له . فلم تثبط هذه الموجات العنيفة من الاحقاد والضغائن عن عزمه ، ولم تجعله يتردد لحظة فيما ارسل به .
واذا سألت احدهم ممن فتح الله سبحانه عليه أبواب الرزق ، واغدق عليه الاموال فجعله متمكناً قادراً على الانفاق عن سبب عدم انفاقه بما يتناسب مع حجم ثروته الطائلة ، تجده يتذرع اليك بشتى الحجج والاعذار تهربـاً من هذه المسؤولية التي لا تقل أهمية عن الجهاد بالنفس ، فيقول مثلاً : ان حركة التجارة متعثرة في هذه الايام، وان الكساد يعم السوق ، والاموال ليست في متناول يدي الان ، او انني قد دخلت في صفقة تجارية تحول دون انفاقي … وما إلى ذلك من الاعذار الواهية التي تغلف شح نفسه .
ومن هنا يبدو واضحا خطر التبرير والاعتذار ، وهو انه يسلك بصاحبه إلى طريق النفاق ، والوقوع في هاويته السحيقة شيئاً فشيئاً . فمعاهدة الله تعالى ، واعطاؤه المواثيق ثم نقضها والتنصل منها ، لا تقتصر على الجهاد والانفاق ، بل قد تمتد إلى الكثير من الاصعدة في حياتنا ، بل ربما تؤدي بها ـ لا سمح اله ـ إلى سوء عواقبنا . ولذلك فقد اوصت الاحاديث الشريفة بأن يدعو الإنسان المؤمن ربه بحسن العاقبة .
مرض يهدد العقيدة
ان هذه الطبيعة النفاقية السلبية هي من امراضنا العقائدية ، التي تعرض الايمان إلى الخطر فتزلزله وربما تعدمه . فلابد من ان يحذرها المؤمنون ان هم ارادوا ان يخلصوا ايمانهم لله عز وجل ، لكي لاينزلقوا على اثرها في مهاوي النفاق والضلال ، ولكي يكونوا صادقين مع ربهم ، اوفياء لما عاهدوه عليه ، ولا ينقلبوا بين ليلة وضحاها واذا بهم يصبحون ناكثين للعهد والميثاق كما يقول تعالى : ﴿ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَسَّهُ … ﴾ 7.
وكما يقول عز وجل ايضاً : ﴿ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ﴾ 8وهناك آيات قرآنية عديدة اخرى دأب فيها القرآن على التحذير من هذه الحالة غير الصحيحة التي تهدد عقيدة الإنسان المؤمن وتزلزل ايمانه . وللاسف فانها اصبحت اليوم وباء يكاد يعمنا جميعاً ؛ فالواحد منا مستعد لأن ينفق من وقته ساعات عديدة من اجل ان يشاهد مباراة رياضية ، ولكنه يبدي الكسل ويلفق الاعذار ان نصحته بأن يصلي بضع ركعات في جوف الليل . فما بالك لو طلبت منه ان يسلك سبيل العمل الجهادي من اجل ان ينقذ بلده وشعبه ، ويعز دينه ؟!
مظهر نفاقي
والتسويف يعتبر ظاهرة سلبية اخرى من الظواهر النفاقية ، وهو يعني ان يقول احدنا سوف افعل كذا وكذا . في حين ان على الإنسان المؤمن ان ينزع هذا الجلباب الرث عن نفسه ، وان يكون جدياً في اداء واجباته ، مؤدياً ما عليه في أوانه ، فقد لا تسنح له الفرصـة بعـد ذلك ؛ فان كان قد فاته واجب او فريضة فليقضهما في أقرب فرصة ، لان : الفرص ـ كما يقول امير المؤمنين عليه السلام ـ: تمر مر السحاب 9 . ومن هنا نفهم ان صفات التبرير والاعتذار والتسويف ما هي إلاّ انحرافات عن الخط المستقيم ، وخصوصاً اذا تعلقت القضية بمظلومين ومعذبين في ظل نظام طاغ وجائر ؛ فالواجب هنا يحتم علينا ان نعمل من أجل خلاصهم ، والقضاء على الطاغوت المتسلط عليهم بمختلف وسائل واساليب الجهاد ، وإلاّ فان مثل هذه الصفات تعد من الذنوب الكبيرة التي نحاسب عليها ، بالإضافة إلى انها منزلق تدريجي نحو حضيض النفاق والشرك والضلال .
ولذلك فان السياق القرآني الذي نحن بصدده يؤكد على خطورة هذه الظاهرة ، من خلال التحذير منها بعد الدعوة إلى تعبئة الطاقات على مختلف الاصعدة للجهاد في سبيل الله سبحانه . فيقول تعالى في هذا المجال : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا ﴾ 10.
ثم يصف المعذرين الذين يتوسلون بالتسويف والتبرير قائلاً : ﴿ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا ﴾ 11.
فالهزيمة في الصراع لها أسباب كثيرة منها ؛ تلك التي اشرنا إليها ، ومن ضمنها كوننا نتثاقل إلى الارض ونطلب العافية في غير محلها ، فلا نتحرك ولا نتحمل واجباً او نتصدى لمسؤولية . واذا ما وقعت واقعة ، واصابتنا الويلات راح كل منا يلقي اللوم على غيره ، ويتعلل بما يحلو له من المبررات التي سرعان ما تتحول إلى حائل كبير يعيقنا عن مناقشته اخطائنا ، والبحث عنها .
التبرير نوع من الكذب
ولابد من التأكيد في هذا المجال على هذه الحقيقة المرة ، وهي ان التبرير هو نوع من الكذب والدجل ، ودرجة متدنية فـي النفاق . ولو استمرت هذه الظاهرة المرضية فينا فعلينا ان نيأس من كل أمل في النصر ، فالله سبحانه لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .
فعلى كل واحد منا ان يبادر في التحرك ، ولا ينتظر الاخرين . فالتباطؤ والتسويف مرفوضـان ، وعلى الإنسان المؤمـن ان يتصف بالجد والمثابرة . فالله تعالى يخاطب المؤمنين قائلاً : ﴿ وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ … ﴾ 12و ﴿ … فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ … ﴾ 13 اي تسابقوا فيما بينكم من أجل بلوغها ونيلها . ويحث الله جل جلاله ايضاً على التنافس في الجهاد ، والعمل الصالح قائلاً : ﴿ … وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾ 14 وبعد ان نخلع لباس التبريـر والتسويف، والروح النفاقية الانهزامية، ماذا علينا ان نفعل بعد ذلك ؟
السياق القرآني الكريم يجيبنا على ذلك قائلاً : ﴿ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا * وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ﴾ 15.
الإمام الحسين محطم التبريرات
ولقـد ألغى الإمام أبو عبد الله الحسين عليه السلام كل تبرير ـ وحاشاه ان يدخل إلى نفسه الزكية شيئاً منه ـ ، فقال كلمته الحاسمة ، وخرج إلى العراق ثائراً ليلغي سلطة يزيد ، وقد كان عليه السلام حجة على الأمة في زمانه وفي كل زمان . وقد يقول البعض ومن منطلق الجهل المركب انهم قد يفقدون مكانتهم وشخصياتهم اذا ما خاضوا غمار معركة جهادية ، ولكننا نسألهم قائلين : أيهما أعظم عند الله شخصياتكم أم شخصية الحسين عليه السلام ، وأيهما أزكى دماؤكم أم دم الحسين عليه السلام ؟!
فان قالوا ان لنا اطفالاً واولاداً علينا ان نرعاهم ، قلنا : وهل جاء الحسين عليه السلام إلى كربلاء بمفرده بلا عيال واطفال ، ألم يضح حتى بالطفل الرضيع ؟ فهل أولادنا أعز عند الله من فلذات كبد الحسين عليه السلام ؟
اننا لو تأملنا في حركة الإمام الحسين عليه السلام وواقعة الطف ، ودققنا في حقائقهما ، لتساقطت حينئذ كل التبريرات والاعذار التي نختلقها لأنفسنا . وهنا لابد من القول ان قضية الإمام الحسين عليه السلام ليست قضية حزن وبكاء وذرف دموع ، وان كان هذا العمل أمراً يثاب عليه الإنسان ، ولكن شريطة ان يصحبه تطبيق للمبادىء والمنطلقات والسعي لتحقيق الاهداف الحسينية الخالدة . فالحسين عليه السلام لم يخرج إلى كربلاء ، ويذبح فيها هو وأصحابه ظلماً من أجل ان نبكي عليه فحسب ، كلاّ فهو عليه السلام أراد منا انتهاج السبيلالذي رسمه لنا بدمه ، وأراد من أجيال الأمة ان تكون مثله في مسيرتها عندما تتطلب هذه المسيرة دماء كدمائه . وعلى هذا يجدر بنا ان نحيط علماً بمعالم النهضة الحسينية ، وان نعي اهدافها ، وان نستوعب أبعادها التاريخية وآثارها الحقيقية ، وان نستلهم منها دروس الصبر والجهاد والايثار والتضحية ..
حقيقة الصراع في القرآن
وفي آخر السياق القرآني السابق يحدثنا تعالى عن حقيقة الصراع في هذه الحياة الدنيا بين معسكر الحق من جهة ، ومعسكر الباطل من جهة اخرى :
﴿ الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴾ 16.
وفي الحقيقة فان هذا هو واقع الصراع في كل زمان ، وفي كل مرحلة تأريخية . فهناك فترات زمنية يتوهج فيها هذا الصراع ، ويدخل مراحله الحاسمة ، وتتبين من خلاله بوضوح هوية كل معسكر وفريق . ولعل ابرز هذه الفترات ، الفترة التي حدثت فيها واقعة الطف الخالدة .
فلكي نلغي من حياتنا تلك التبريرات التي تعيق مسيرة الأمة ، ولكي نجدد لهذه الأمة المسحوقة المضطهدة حضارتها وعنفوانها ونشاطها وحياتها الحرة الكريمة ، لابد ان نعيش الدروس والعبر التي تركتها لنا واقعة كربلاء التي انتصر فيها الدم المراق على سيوف الباطل .
كيف تنمو ظاهرة النفاق ؟
عندما يتحدث القرآن الكريم عن النفاق ، فانه يقسمه إلى ثلاث مراحل ، هي :
1 ـ النفاق عندما يكون بذرة في قلب الإنسان ، ونطفـة في فـؤاده .
2 ـ مرحلة تحول النفاق إلى ظاهرة بارزة في سلوك الإنسان .
3 ـ المرحلة التي يتحول فيها النفاق إلى طبقة اجتماعية لها سماتها ، وثقلها في المجتمع الإسلامي .
لا حياة بدون مواقف
ونحن ايضاً لابد لنا من ان نتحدث عن ظاهرة النفاق ، آخذين بنظر الاعتبار هذه المراحل . ولكن قبل ان نتطرق إلى هذا الموضوع، لابد من كلمة ؛ ان الإنسان لا مناص له من ان يتخذ موقفـاً محـدداً ، فهو لا يستطيـع ان يعيش بدون موقف ، وبدون سلوك معين تجاه قضايا وظواهر الحياة .
فالإنسان لابد وان يتخذ موقفاً اما مع الحق ، واما مع الباطل ، ولا يمكن ان يكون هناك موقف خليط من الحق والباطل . والإنسان الذي يدعي انه يتخذ موقفا يتأرجح بين الحق والباطل ، انما هو في الحقيقة يخدع نفسه . وفي هذا المجال يقول الإمام علي عليه السلام : ” من لم ينفعه الحق يضره الباطل ” 17 . وهناك في التاريخ شواهد كثيرة على هذه الحقيقة ، فقد كان هناك رجال اعلنوا في البدء انهم على موقف محايد من مثل ( عبد الله بن عمر ) الذي صرح انه لا يبايع علياً عليه السلام ولا يحارب معه . ولكنه ما لبث ان بايع بعد ذلك الطاغية الجلاد ( الحجاج بن يوسف الثقفي ) ، كما وبايع ( سليمان بن عبد الملك ) الذي يعتبر اسوء الحكام الامويين .
إن الإنسان من الممكن ان يقرر مع نفسه انه يريد ان يعيش الراحة ، و الرفاه ، وانه لا يريد ان يخوض أي نوع من الصراع ، حتى لا يعكر صفوة حياته . لذا لا يخوض الصراع لصالح الحق . غير انه في نهاية المطاف يؤدي به هذا الموقف إلى ان يقف في جبهة الباطل، فيدخل الصراع ولكن من بابه الخلفي ولصالح اولئك الذين لم يكن يريد ان يشترك معهم في الصراع .
والدليل على ذلك اولئك الرجال الذين طلب منهم الإمام الحسين عليه السلام ان يؤيدوه في دعوته ، ولكن القسم الاكبر منهم قالوا : مالنا والدخول في السلاطين ، ولماذا نقحم أنفسنا في الصراع والحروب . فبقوا على ذهنيتهم هذه ، حتى انهم لم ينصروا مسلم بن عقيل رسول الإمام الحسين عليه السلام إلى الكوفة . وبالتالي فانهم قد اشتركوا في قتل الإمام عليه السلام في كربلاء ، لان ابن زياد اجبرهم بعد ذلك على خوض الحرب .
وهكذا فـان الحياة لابد وان تجبر الإنسان على الدخول في الصراع ، فان لم يكن صراعاً مع الحق فهو صراع مع الباطل .
مراحل النفاق في القرآن الكريم
والقرآن الكريم يبين لنا هذه الحقيقة ، فيقرر ان النفاق يتجسد خلال مرحلته الاولى في تمني الإنسان ، وعدم قدرته على التغلب على ذاته ، وتسويفه للعمل بالحق إلى المستقبل . وهكذا تبدأ بذرة النفاق بالنمو في قلب الإنسان . فمن الملاحظ ان هنالك من يتمنى من الله الرزق حتى ينفق أمواله في سبيل الله ، وآخر يتمنى من الله الجاه حتى يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، وهكذا .. وحينما تتحقق امنياتهم هذه ، تجدهم ينقضون ما عاهدوا الله عليه . وبهذا تنشأ .
وثمة سؤال مهم : كيف يتحول النفاق إلى طبقة اجتماعية ؟
الجواب ؛ ان الإنسان المنافق لا يرتضي من الاخرين ان يدعوه منافقاً ، ويصفوه بأنه على باطل . وفي هذه الحالة فانه سيعمد إلى التفتيش والبحث عن عيوب للمؤمنين ، ثم ومن اجل ذلك فانه يعمد إلى الاتحاد مع المنافقين الاخرين ، فتتشكل بذلك طبقة اجتماعية معينة تقوم بمحاربة المؤمنين .
وإلى هذه المراحل الثلاثة اشار القرآن الكريم في قوله : ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ 18فالله عز وجل يصرح في الآيات السابقة ان الإنسان اذا لم يبادر إلى القضاء على بذرة النفاق في قلبه ، فانها لا تلبث ان تتحول إلى سلوك. فعندما يحقق الله تعالى الشرط الذي شرطه الإنسان على نفسـه لئن يكون صالحاً ، فان البذرة الصغيرة سرعان ما تتحول إلى شجرة خبيثة ، كما أشار إلى ذلك ربنا عز وجل في قوله : ﴿ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ … ﴾ 19.
صفات نفاقية
ثم بيّن الله جل جلاله سبب ترسخ النفاق في قلوبهم ، بانهم قد اخلفوه وعده ، وكذبوا عليه . وهذه هي من صفات الإنسان المنافق التي يشير اليها النبي صلى الله عليه وآله في قوله: ثلاث من كنّ فيـه كان منافقاً وإن صام وصلّى وزعم أنه مسلم من اذا ائتمن خان ، واذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف 20 . وقد أكدنا في اكثر من موضع على ان الإنسان عندما يؤمن بفكرة، فانه سيعيش جميع الصفات المرتبطة بهذه الفكرة . فان عاش الكذب في حياته ، فانه سيكون خائناً ومخلفاً للوعد ، بل انه سوف لا يتورع عن ارتكاب جميع الفواحش والجرائم .
وعن كيفية تحول النفاق إلى طبقة وشريحة اجتماعية ، يقول القرآن الكريم : ﴿ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ 21.
فهؤلاء المنافقون يقرون انهم لا ينفقون في سبيل الله ، إلاّ إذا آتاهم من فضله . في حين انهم يرون المؤمنين وهم يبادرون إلى الانفاق ، فانهم لا يجدون بداً من ان يلمزوا المطوعين من المؤمنين في الصدقات ليبرروا المستوى الهابط لأنفسهم ولكي لا يقول لهم الناس: لماذا انتم متخلفون عن اولئك .
ومثل هذه المشكلة تتفاقم اكثر لدى هؤلاء المنافقين عندما يرون ان بعض المؤمنين ينفقون رغم قلة امكانياتهم المادية عملاً بالحديث الشريف : ” لا تستح من إعطاء القليل فان الحرمان اقل منه ” 22 . فليس من الصحيح ان يستصغر الإنسان قلة احسانه ، لان هذا التفكير يمثل فكرة شيطانية يشيعها اولئك المنافقون ، فيحاولون بذلك ان يسخروا من المؤمنين الفقراء لصغر حجم الانفاق الذي يقدمونه في سبيل الله سبحانه وتعالى . وهذا ما اشار اليه القرآن الكريم في قوله : ﴿ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ 21.
مرحلة جديدة من الصراع الاجتماعي
وإذا ما تحول النفاق إلى طبقة اجتماعية بهذا الاسلوب ، فحينئذ تبدأ مرحلة جديدة من الصراع الاجتماعي في الأمة الإسلامية . وقد تجسدت هذه المرحلة في التاريخ الإسلامي عندما هاجر النبي صلى الله عليه وآله إلى المدينة ، وقد كان مع المهاجرين من اصحابه صلى الله عليه وآله طائفة من المنافقين . ولكن النفاق كان مجرد بذرة فيهم ، اما الشريحة الاجتماعية الكاملة من المنافقين فقد ظهرت في المدينة المنورة بقيادة ( عبد الله ابن ابي ) الذي اسلم في الظاهر ولكنه كان يمارس دور النفاق في الواقع . وقد كان هؤلاء المنافقون يمثلون الطابور الخامس لقريش واليهود ، فكانوا يتعاونون معهم على جميع الاصعدة ؛ في السلاح ، وفي المال ، وفي مجال تقديم المعلومات لهم عن تحركات المسلمين .
وفي مقابل ذلك كان من الواجب على المؤمنين ان يتمتعوا باليقظة الكاملة ، والحذر الشديد .. فكانوا مضطرين إلى ان يحاربوا على جهتين ؛ خارجية وداخلية . ولذلك كانت هذه المرحلة من المراحل الصعبة والخطيرة التي مر بها الرسول صلى الله عليه وآله والمؤمنون في المدينة المنورة .
صحيح انه صلى الله عليه وآله قد أسس دولة ايمانية ، ولكن الصعوبات التي واجهتها هذه الدولة الفتية كانت اكثر بكثير من الصعوبات التي كان المؤمنون قد واجهوها في مكة المكرمة . وقد وصلت هذه الصعوبات إلى مستوى من الخطورة ، بحيث ان هؤلاء المنافقين قاموا وبايعاز من اسيادهم المشركين واليهود بمحاولات جادة لاغتيال النبي صلى الله عليه وآله والقضاء على الدولة الإسلامية الفتية. ولكن محاولاتهم تلك باءت بالفشل الذريع .
وهكذا فان الفئـة المنافقـة التي وجدت في الأمة الإسلامية كانتفي البدء مجرد مجموعة صغيرة من الأشخاص ، ولكن هؤلاء الأشخاص ما لبثوا ان تحولوا شيئاً فشيئاً إلى منافقين من الدرجة الاولى . بل ان البعض منهم كانوا مؤمنين بادىء ذي بدء ، ولكن الظروف المتغيرة في الامة الإسلامية ، والامتحانات المتوالية ، سرعان ما حولتهم إلى منافقين . فبدؤوا ينضمون إلى الطبقة المنافقة حتى تنامت ، واستفحل أمرها .
ولأجل ان نحذر جبهة النفاق ، قال الله عز وجل : ﴿ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ … ﴾23. وقد كان من ضمن هذه الشريحة المنافقة ، جماعة من اهل المدينة ، الذين نشؤوا وتربوا على النفاق . وهذه الشريحة موجودة دائما في المجتمع ، وهي تميل على الدوام إلى تأييد الجانب الاقوى والوقوف معه . ولم يخف الله جل وعلا مصير هؤلا عنا ، إذ قال : ﴿ … سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ ﴾ 23.
وخلاصة القول : ان الله تبارك وتعالى قد بيّن لنا في الآيات السابقة مراحل النفاق ؛ وهي مرحلة ظهور بذرة النفاق في قلب الإنسان ، ومن ثم تحولها إلى شجرة خبيثة عندما لا يفي الإنسان بعهوده تلك فيصبح بذلك منافقاً حقيقياً . وحينئذ يتحول النفاق إلى طبقة اجتماعية ، عندما لا يقف الإنسان مع الحق فتدفعه الظروف إلى ان يكون مع الباطل .
وفي هذه المرحلة بالذات تظهر المشكلة الاساسية امام الامة ، لان الطبقة المؤمنة من الممكن ان تتهاون وتتخاذل ، ويعتريها الضعف والفتور .. عن مواصلة المسيرة . في حين ان الطبقة المنافقة تبدأ بالنمو والانتشار حتى ينتهي أمرها إلى تزييف القيم وتحريف المبادئ ،ومن ثم اضلال الأمة .
النفاق بين الذات و المجتمع
كيف يستطيع الإنسان ان يميز منذ البدء هل انه يتحرك باتجاه الله تعالى أم باتجاه الشيطان ، وهل يسير نحو التكامل إلى ان يدخل الجنة أم انه في حالة هبوط إلى قعر نار جهنم ؟
ان الإنسان اذا استمر في حالة السقوط حتى يجيئة ملك الموت ليقبـض روحـه ، وليكتشف انه من اهل النار . فان هذا الاكتشاف لا فائدة من ورائه ، لان الإنسان لا يمكنه آنئذ ان يعيد النظر في حياتـه . فهو انما يأتي إلى الدنيا مرة واحدة ، فهل ستسمع الملائكة كلامه عندما يقول : ﴿ … رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ … ﴾ 24وعندما يأتي الجواب ﴿ … كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ 25. ان مثل هذا الكلام الذي يبدي من خلاله حسرته وندمه ، لا يمكن ان ينفعه ذلك . لان اكتشاف الإنسان لحقيقة مسيرته ، وتحركه يجب ان يكون منذ البدء .
وعلى هذا فاي مقياس يجب اتباعه ، وما هي النظارة التي لو جعلها الإنسان على عينيه وبلور بها بصيرته استطاع ان يكتشف وجهة سيره ؟
في هذا المجال يقول رب العزة : ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ 26؛ فهم يتصورون انهم سائرون في طريق الحق ، وانهم يقومون بالاعمال الصالحة ، ولكنهم سيكتشفون في نهاية المطاف انهم في النار . وانهم هم الاخسرون اعمالاً ، فلا يوجد احد غيرهم اكثر خسارة منهم .
وعلى هذا فان القضية المهمة هي اكتشاف الطريق منذ البدء من خلال الاستناد إلى مقياس معين تقدمه لنا الآيات القرآنية التالية : ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ ﴾ 27.
ان القرآن الكريم يشير في هذه الآيات ان هناك بعض الناس يحومون حول أنفسهم ، ويتمحورون حول ذواتهم ، ويتحركون بدافع من مصالحهم . فكعبتهم شهواتهم ، وهدفهم اشباع ميولهم ورغباتهم وتحقيق الانا والذات في أنفسهم .. وهناك البعض الآخر مرتبطون بمقدار الصدقات التي يحصلون عليها ؛ فان اعطاهم الرسول صلى الله عليه وآله المقدار الكافي قالوا : نعم الرسول هذا الرسول ، ونعم الدين هذا الدين . اما اذا لم يعطوا من تلك الصدقات ، اذا بهم يسخطـون ويتذمرون وينهالون باللوم والتقريع على الرسول والرسالـة .
وهناك نوع آخر من الرجال يشير اليهم ربنا جل وعلا بشكل غير مباشر في قوله : ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ ﴾ 28. وهؤلاء الأشخاص ذوو مطامح وتطلعات متمحورة حول الحق . فالشيء الذي يرضي الله تعالى ، ويرضي الرسول صلى الله عليه وآله يرضيهم ايضاً .
وفي هذا المجال يروى ان الإمام علي عليه السلام سمع ذات مرة ان احد القادة الكبار في جيشه قد ارتكب معصية شرب الخمر ، وربما كان هذا الرجل قديرا من الناحية العسكرية ، وربما كان انساناً صالحاً ولكن الشيطان وهوى النفس دفعاه إلى ارتكاب هذا الذنب ، وبعد ان ثبت للامام عليه السلام من خلال الشهود ان ذلك القائد قد شرب الخمرة بالفعل ، استدعاه ثم اجرى عليه الحد امام الناس بنفسه. فما كان من ذلك القائد إلاّ ان قال للامام عليه السلام وهو ممتعض من اجراء الحكم عليه ( ما مضونه ) : يا أمير المؤمنين الفرار منك كفر، والبقاء معك لا يطاق ، انني لا استطيع ان التحق بمعاوية واتركك لكي انضم إلى نظام الكفر ، وحكم الظالمين ، ولكن الذي يبقى معك ، وينصرك ، ويحارب من اجلك ، ويضحي بنفسه في سبيلك فانك لا تحترمه بل تأتي به امام الناس لكي تجري الحد عليـه ، وبعد ان فرغ هذا الرجل من كلامه قال له الإمام علي عليـه السلام مصححاً مفاهيمه الخاطئة هذه : كلاّ ، ان البقاء معي عز .
وبنـاء على ذلك فان اقامـة حكم الله تعالى في الارض هو عز لكـل الناس . فعندما يجرى الحد على الإنسان الضعيف المسكين الذي لا يمتلك سنداً من عشيرة او قبيلة .. ثم يجرى نفس هذا الحد على القائد الاعلى في الجيش ؛ فان الحكومة التي تتعامل بهذا العدل والمساواة مع ابناء الشعب ، انما هي عز له . وعندما يكون الإنسان بهذا المستوى ، ويرضى بحدود الله تبارك وتعالى على نفسه ، ويخضع ويرضخ عن طيب خاطر للحد الذي يجرى عليه ، فانه سيكون في الحقيقة انساناً كاملاً ، ومواطناً صالحاً ، وان كان وزيراً او قائداً . فتسليمه للحكم الإسلامي يعني تسليمه لله ، وللقيادة الرسالية التي يؤمن بها .
وفي الحقيقة فان هذا هو التسليم والايمان الحقيقان . والفرق بين المؤمـن الحقيقـي والزائف يظهر جلياً هنا ، كما يقـول الله تعالى : ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ 29.
فعندما يحكم الله ، ويحكم رسوله ، وتحكم القيادة الرسالية التي تؤمن بها وبفضلها وايمانها وتقواها وكفاءتها ، وعندما تحكم بينك وبين خصمك وغريمك ، ثم يكون هذا الحاكم لصالح خصمك هذا ، فحينئذ يجب ان لا تجد في نفسك حرجاً مما قضت ؛ اي يجب ان لا تتظاهر بانكراض عن هذا الحكم ، بل يجب ان لا تجد في قرارة نفسك غيظاً او سخطاً فيما يتعلق بذلك الحكم ، لانك ان لم ترض بهذا الحكم فانك ستكون قد كفرت بالله تعالى وبحكمه . فالراد على حكم القيادة الشرعية هو كالراد على حكم الله .
وهكذا فاذا اردت ان تكتشف هل انك تسير في طريق الحق ، ام في طريق الباطل . فان المقياس هو ان تلتف حول القيادة الرسالية ، وتحوم حول الحق سواء كان لك ام عليك .
النفاق بذرة خبيثة
والنفاق يشبه إلى حد كبير بذرة صغيرة تسقط في نفس الإنسان ثم تنمو وتنمو حتى تصبح شجرة خبيثة اصلها في القلب ، وفرعها في النار . وهذه حقيقة ، فالإنسان لا يستطيع ان يكتشف هذه البذرة الخبيثة ، والخلية الفاسدة التي تشبه الخلايا السرطانية التي نستطيع ان نسيطر عليها في البدء ونقضي عليها ، ولكن هذه البذرة بعد ان تتنامى وتتكاثر فانها تتحول إلى شجرة تكون فروعها في جميع اعمال الإنسان وسلوكياته ، بل وحتى في نظرته وآرائه حتى يصل هذا الإنسان إلى درجة يكون فيها مصداقاً لقوله عز من قائل : ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴾ 30. فتتجمع الغشاوات على عين الإنسان ، ويجتمع في اذنه الوقر ، ويحتجب قلبه في الاكنان ، ولا يستطيع ان يرى الحقيقة ، فتسلب منه البصيرة ويتحول بذلك إلى مجرم من الدرجة الاولى في جميع مفردات وجوانب حياته .
وفي الحقيقة فان الطغاة في التاريخ كانوا كسائر البشر ، فقد خلقهم الله عز وجل خلقـاً سويـاً كما خلق سائر الناس ، ولكن وبسبب نمو جذور النفاق في أنفسهم فانهم تحولوا إلى مجرمين لا نظير لهم من مثل فرعون ونمرود وشداد والحجاج وهتلر وصدام ..
لنكتشف أنفسنا منذ البدء
وعلى هذا فان على الإنسان ان يكتشف منذ البداية ذاته ، وإلاّ فما فائدة دخول الإنسان في الصراعات الاجتماعية . فالطغاة عبر التاريخ استرسلوا مع الشهوات والاهواء والخبائث ، ولم يلتفتوا إلى بذور النفاق في أنفسهم ، وإلى الخلايا السرطانية التي كانت كامنة فيذواتهم ، فكانت عاقبتهم ان مرضت قلوبهم ، واصبحت المواعظ والنصائح لا تنفع معهم ، وبالتالي فانهم قد ادخلوا النار وساءت سبيلا .
وبناء على ذلك فان على الواحد منا ان ينتبه ، ويأخذ بنظر الاعتبار منذ البدء لتلك الحقيقة ، لكي لا يتحول هو بدوره إلى طاغية . فمن الاهداف الاساسية لكل نهضة بناء الذات ، وبلورتها على الصعيد الفردي . اما على الصعيد الاجتماعي فان نهضات الأمم تعتبر كالمنخل، فهي بمثابة ابتلاء من الله تقدسة اسماؤه . فهذه الانتفاضات، والصراعات ، والتوترات ما هي إلاّ حركة باتجاه تصفية المجتمع من العناصر الفاسدة ، وتمييزها عن العناصر الخيرة 31 .
- 1. القران الكريم: سورة يوسف (12)، الآية: 103، الصفحة: 247.
- 2. بحار الأنوار ج 15 ص 109 رواية 53 .
- 3. القران الكريم: سورة التوبة (9)، الآية: 34، الصفحة: 192.
- 4. بحار الأنوار ج 33 ص 194 رواية 476 .
- 5. القران الكريم: سورة التوبة (9)، الآية: 35، الصفحة: 192.
- 6. بحار الأنوار ج 70 ص 138 رواية 4 .
- 7. القران الكريم: سورة يونس (10)، الآية: 12، الصفحة: 209.
- 8. القران الكريم: سورة فصلت (41)، الآية: 51، الصفحة: 482.
- 9. بحار الأنوار ج 68 ص 337 رواية 23 .
- 10. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 71، الصفحة: 89.
- 11. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 72، الصفحة: 89.
- 12. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 133، الصفحة: 67.
- 13. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 48، الصفحة: 116.
- 14. القران الكريم: سورة المطففين (83)، الآية: 26، الصفحة: 588.
- 15. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 74 و 75، الصفحة: 89.
- 16. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 76، الصفحة: 90.
- 17. بحار الأنوار ج 74 ص 293 رواية 2 .
- 18. القران الكريم: سورة التوبة (9)، الآيات: 75 – 80، الصفحة: 199.
- 19. القران الكريم: سورة التوبة (9)، الآية: 77، الصفحة: 199.
- 20. بحار الأنوار ج 69 ص 108 رواية 8 .
- 21. a. b. القران الكريم: سورة التوبة (9)، الآية: 79، الصفحة: 199.
- 22. نهج البلاغة قصار الحكم ـ 67 .
- 23. a. b. القران الكريم: سورة التوبة (9)، الآية: 101، الصفحة: 203.
- 24. القران الكريم: سورة المؤمنون (23)، الآية: 99 و 100، الصفحة: 348.
- 25. القران الكريم: سورة المؤمنون (23)، الآية: 100، الصفحة: 348.
- 26. القران الكريم: سورة الكهف (18)، الآية: 103 و 104، الصفحة: 304.
- 27. القران الكريم: سورة التوبة (9)، الآية: 58 و 59، الصفحة: 196.
- 28. القران الكريم: سورة التوبة (9)، الآية: 59، الصفحة: 196.
- 29. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 65، الصفحة: 88.
- 30. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 11، الصفحة: 3.
- 31. من كتاب : لكي نواجه النفاق ، للسيد محمد تقي المدرسي .