نص الشبهة:
ويقولون: إنهم صنعوا للنبي «صلى الله عليه وآله» عريشاً من جريد النخل[في غزوة بدر] فكان فيه وأبو بكر معه، وليس معه غيره. ويدّعون أيضاً: أنه «صلى الله عليه وآله» قد وافق على أن يضعوا نجائب وركائب مهيأة عنده، فإن انتصر فهو المطلوب وإن كانت الأخرى ركب النجائب، ولحق بمن وراءهم من الصحابة في المدينة (سيرة ابن هشام ج2 ص222 و279، ومغازي الواقدي ج1 ص49 و55، والكامل لابن الأثير ج2 ص122، وشرح النهج للمعتزلي ج4 ص118، والسيرة الحلبية ج2 ص155 و156 و161 وغير ذلك من المصادر الكثيرة.).
الجواب:
ولكن ذلك لا يصح بأي وجه؛ فقد قال المعتزلي: «قلت: لأعجب من أمر العريش من أين كان لهم أو معهم من سعف النخل ما يبنون به عريشاً، وليس تلك الأرض ـ أعني أرض بدر ـ أرض نخل؟ والذي كان معهم من سعف النخل، يجري مجرى السلاح يسيرٌ جداً. قيل: إنه كان بأيدي سبعة منهم سعاف عوض السيوف، والباقون كانوا بالسيوف والسهام والقسي. هذا قول شاذ، والصحيح أنه ما خلا أحد منهم عن سلاح. اللهم إلا أن يكون معهم سعفات يسيرة، وظلل عليها بثوب أو ستر، وإلا فلا أرى لبناء عريش من جريد النخل هناك وجهاً» (شرح النهج للمعتزلي ج14 ص118.).
ونقول:
أولاً: إن ما ذكره من وجود السلاح مع المهاجرين لا يمكن قبوله.
فقد تقدمت النصوص التي تتحدث عن مستوى تسلحهم، وليس فيها ما ذكره المعتزلي. والظاهر هو أن عدداً منهم كان مسلحاً بالقسي، كما يدل عليه أمر النبي «صلى الله عليه وآله» لهم برمي المشركين بالنبل إذا أكثبوهم. ولعل بعضهم كان معه رماح، والبعض الآخر عصي، وفريق كان لديه سيف، أو حربة، وفريق آخر كان معه سعف النخل، يدفع بها عن نفسه، ويهاجم العدو بها إن وجد فرصة لذلك.
وثانياً: إن استدراكه الأخير في غير محله ؛ فإن السعفات المظلل عليها بالثوب يقال لها: خيمة، وليس عريشاً، بل لا يقال لها خيمة أيضاً، كما يرى البعض. كما أن ما ذكره من عدتهم وسيوفهم محط نظر يعرف مما تقدم.
ونضيف نحن هنا:
أولاً: إن النبي «صلى الله عليه وآله» لا يمكن أن يفر من الزحف.
وثانياً: قوله «صلى الله عليه وآله»: «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد» ـ وهو ما نقله مختلف المؤرخين ـ يكذب أن يكون «صلى الله عليه وآله» أراد الفرار على نجائبه، لو ربح المشركون هذه الحرب. إذ إن الله تعالى لا يمكن أن يعبد في الأرض حتى ولو رجع النبي «صلى الله عليه وآله» إلى أهل المدينة ؛ فكيف يقول ذلك ثم يقدم على تصرف كهذا؟!
وثالثاً: لو أن النبي «صلى الله عليه وآله» خسر حرب بدر، فلن يتركه المشركون ينجو بنفسه منهم ؛ ولن يعطوه الفرصة ليجمع لهم الجموع من جديد؟!. ولسوف لن يتركوا مهاجمة المدينة، والقضاء على مصدر متاعبهم فيها. وهم الآن بالقرب منها، ويعيشون نشوة النصر والظفر، ومعهم جيش على أحسن ما يرام في عدده وفي عدته.
ورابعاً: كيف يكون «صلى الله عليه وآله» قد اتخذ العريش مكاناً له، وحرسه الحراس فيه، وهم يقولون: إنه «صلى الله عليه وآله» رؤي يوم بدر في أثر المشركين مصلتاً السيف، يتلو قوله تعالى: ﴿ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ﴾ 12.
ويقولون أيضاً: إنه قد اشترك في حرب بدر بنفسه، وقاتل بنفسه قتالاً شديداً 3.
ومما يدل على اشتراكه في الحرب أيضاً، قولهم: كان ثمة يوم بدر رجال يقاتلون، واحد عن يمينه، وآخر عن شماله، وثالث أمامه، ورابع خلفه 4.
ويروون عن علي «عليه السلام» أيضاً قوله: لما كان يوم بدر اتقينا المشركين برسول الله «صلى الله عليه وآله»، فكان أشد الناس بأساً، وما كان أحد أقرب إلى المشركين منه 5.
إذن، فلا بد أن نسأل: أين كان أبو بكر آنئذٍ؟ أمع النبي «صلى الله عليه وآله» في ساحة القتال؟ أم في العريش وحده، ليكون في موقع القائد والرئيس كما يريد الجاحظ أن يدَّعي حسبما سيأتي؟ وسوف تأتي بقية الحديث حول موضوع شجاعة أبي بكر، وحضوره في العريش في الفصل الذي يأتي بعد وقعة بدر إن شاء الله تعالى.
وخامساً: إنه إذا لم يكن معهم سوى فرس المقداد، فمن أين جاءت النجائب المعدة لفرار رسول الله «صلى الله عليه وآله»؟! ولماذا لم تشارك في الحرب، للدفاع عن الدين وعن المسلمين؟!.
إشارة:
ولو فرض صحة الحديث المتقدم المروي عن علي «عليه السلام»، فلا بد أنه كان يتحدث عن غيره لا عن نفسه، لأن علياً لم يكن يخشى المشركين، ولم يكن ليحتاج إلى ملجأ يحميه منهم. كيف وهو الذي قتل أكثر من نصف قتلى المشركين في بدر؟ وشارك في النصف الآخر كما سنرى؟
ويكون قوله «عليه السلام» ذلك نظير أن يقول شخص مثلاً: إننا في بلادنا نأكل كذا، أو نلبس أو نصنع الشيء الفلاني. مع أن هذا القائل لم يأكل، أو لم يلبس، أو لم يصنع ذلك الشيء شخصياً أبداً 6.
- 1. القران الكريم: سورة القمر (54)، الآية: 45، الصفحة: 530.
- 2. تاريخ الطبري ج2 ص172.
- 3. السيرة الحلبية ج2 ص123 و167، لكنه حاول توجيه ذلك بما هوخلاف صريح الكلام، فقال: إن المراد بالجهاد: الدعاء!!. كل ذلك من أجل أن يصح حديث العريش!!.
- 4. مغازي الواقدي ج1 ص78.
- 5. راجع: تاريخ الطبري ج2 ص135، والسيرة الحلبية ج2 ص123، والبداية والنهاية ج6 ص37، وحياة الصحابة ج2 ص677 عن أحمد، والبيهقي.
- 6. الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه و آله)، سماحة العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي، المركز الإسلامي للدراسات، الطبعة الخامسة، 2005 م. ـ 1425 هـ. ق، الجزء الخامس.