النسخ في اللغة
النسخ لغة يأتي بمعنى الإزالة، يقال: نسخت الشمس الظل، والشيب الشباب، أي أزاله. أو بمعنى النقل، يقال: نسخت الكتاب، أي نقلته، كما في بعض المعاجم1.
وهل هو مشترك بين المعنيين؟ وحقيقة فيهما؟ أو حقيقة في أحدهما ومجاز في الآخر؟ أقوال، والبحث فيه موكول إلى اللغة، ولا يهمنا المعنى اللغوي هنا كثيرا.
النسخ في الاصطلاح الشرعي
وأما اصطلاحا فقد اختلفت كلمات العلماء فيه
فقال شيخ الطائفة: إن استعمال هذه اللفظة في الشريعة على خلاف موضوع اللغة، وإن كان بينهما تشبيها. ووجه التشبيه أن النص إذا دل على أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم زائل على وجه لولاه لكان ثابتا بمنزلة المزيل لذلك الحكم لأنه لولاه لكان ثابتا2.
ولعله يريد من قوله “على خلاف موضوع اللغة” هو أن النسخ في الحقيقة دفع لا رفع، فالنسخ حينئذ ليس مزيلا حقيقة إلا باعتبار ما قاله من التشبيه.
وعن الفخر الرازي: أن الناسخ هو اللفظ الدال على ظهور انتفاء شرط دوام الحكم الأول.
وعن الغزالي: هو الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم، على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه3.
وقد اورد على الرازي والغزالي بأن ذلك حد للناسخ لا للنسخ.
وأجيب بأن النسخ كما يطلق على الرفع كذلك يطلق على ما يدل عليه.
وكيف كان، فلا خفاء فيما أرادوه من النسخ، وإن كانت ألفاظهم قاصرة في بيان حده، وهو: رفع الحكم الثابت على وجه لولاه لكان ثابتا. وإذا جاء الناسخ رفعه من حينه، وهذا بخلاف التخصيص، فإنه يخرج الخاص من تحت العام من حين صدور العام. نعم، قد نقل عن بعض الأصحاب إطلاق النسخ على التخصيص أيضا، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
إمكان النسخ
ثم إن أقوى دليل على إمكان النسخ بالمعنى المذكور هو وقوعه شرعا، وفي القرآن آيات ناسخة لأحكام ثابتة بآيات أخرى، وآيات أخرى قد ادعي أيضا النسخ فيها، سوف يأتي الحديث عنها بالتفصيل عن قريب إن شاء الله.
ولكن بعض فرق اليهود قد ادعت استحالة النسخ استنادا إلى أنه يستلزم أن يكون الشئ الواحد حسنا وقبيحا في آن واحد، لأن ثبوت حكم إنما يكون عن مصلحة فيه، فإذا نسخ فإنما ينسخ لمفسدة فيه، فاجتمع فيه الصلاح والفساد في آن واحد.
وأجيب عنه بأن الحسن والقبح في الأشياء ليسا ذاتيين دائما، بل ربما كانا بالوجوه والاعتبارات، فيكون الشئ الواحد ذا صلاح في زمان وقبيحا وذا فساد في آخر، وذلك مثل شرب الأدوية وأكل الأغذية الذي قد يكون فيه مصلحة في زمان ومفسدة في آخر، وموارد النسخ من هذا القبيل.
واستدل المحيلون للنسخ أيضا بأن إزالة الحكم الثابت يستلزم البداء الناشئ عن الجهل، كما يشاهد في العباد الذين ربما يرون في بعض الأشياء مصلحة فيأمرون به، ثم يرون أنهم اشتبهوا وأنه كان فيه مفسدة فينهون وينسخون. وأما الباري تعالى فلا يتصور فيه البداء لأنه بكل شئ عليم.
وأجيب بأن النسخ إذا كان من الله فليس رفعا بل دفع، وليس بداء بل إبداء منه تعالى، بأنه قد انقضى أمد حكم كان يظهره الله على حد الدوام لمصلحة يراها جل جلاله.
هذا بالإضافة إلى وقوع النسخ في العهدين، حسب ما جاء في بعض الكتب العلمية4.
أقسام النسخ ومحل البحث منها
هذا وقد ذكروا للنسخ أقساما ثلاثة، فإنه
1- تارة يقع على التلاوة للآيات.
2- واخرى عليها وعلى الحكم الذي دلت عليه.
3- وثالثة يقع على الحكم فقط، وهذا هو المهم في بحثنا هنا. فلنذكر الآيات التي ادعي نسخها، ونذكر ما قيل أو ما ينبغي أن يقال فيها.
وقبل ذلك لا بأس بالإشارة إلى أمر مهم، وهو أن الاستثناء أو التخصيص أو الغاية إذا حصلت فليست نسخا، ولعل الأمر قد اشتبه على من أكثر في موارد النسخ، حيث ذكر موارد لا تدخل تحت النسخ، أو لعله جرى في ذلك على اصطلاح خاص عنده غير مشهور عندنا.
ولذا فنحن سوف لا نتعرض لتلك الموارد، بل نكتفي بالتحقيق في الموارد العشرين التي ذكرها في الإتقان على أنها من موارد النسخ، وتمييز ما يدخل في النسخ منها من غيره، وقد نظمها السيوطي في أبيات له مراعيا في ذلك ترتيب السور القرآنية، وهي:
وقد أكثر الناس في المنسوخ من عدد وأدخلوا فيه آيا ليس تنحصر
وهاك تحرير آي لا مزيد لها عشرين حررها الحذاق والكبر
آي التوجه حيث المرء كان وأن يوصي لأهليه عند الموت محتضر
وحرمة الأكل بعد النوم مع رفث وفدية لمطيق الصوم مشتهر
وحق تقواه فيما صح من أثر وفي الحرام قتال للألى كفروا
والاعتداد بحول مع وصيتها وأن يدان حديث النفس والفكر
والحلف والحبس للزاني وترك اولي كفر وإشهادهم والصبر والنفر
ومنع عقد لزان أو لزانية وما على المصطفى في العقد محتظر
ودفع مهر لمن جاءت وآية نجواه كذاك قيام الليل مستطر
وزيد آية الاستئذان من ملكت وآية القسمة الفضلى لمن حضروا5
ولتفصيل الكلام في هذه الموارد وإحقاق الحق فيها نفيا أو إثباتا نقول: آية التوجه:
1- قوله تعالى ﴿وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾6.
قال السيوطي في الإتقان: إنها – على رأي ابن عباس – منسوخة بقوله تعالى ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾7.
وعن تفسير النعماني8 – الذي نقله المجلسي9 ولخصه السيد علم الهدى في رسالة المحكم والمتشابه – عن علي عليه السلام أنه كان رسول الله صلى الله عليه وآله في أول مبعثه يصلي إلى بيت المقدس جميع أيام بقائه بمكة، وبعد هجرته إلى المدينة بأشهر عيرته اليهود وقالوا: أنت تابع لقبلتنا، فأحزن رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك منهم، فأنزل الله عليه – وهو يقلب وجهه في السماء وينتظر الأمر – ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ﴾10.
وقال الزرقاني: إنه لا تعارض بين الآيتين حتى تكون إحداهما نسخا، فإن معنى قوله تعالى ﴿وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ…الخ﴾ أن الآفاق كلها لله، وليس الله في مكان خاص منها، وليس له جهة معينة فيها، وإذا فله أن يأمر عباده باستقبال ما يشاء من الجهات في الصلاة، وله أن يحولهم من جهة إلى جهة11.
وقريب منه ما في تفسير بعض الأعاظم، بل كلامه أتى من كلام الزرقاني، حيث قال في تفسير قوله تعالى ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾12:
أما اعتراضهم فهو أن التحول عن قبلة شرعها الله سبحانه للماضين من أنبيائه إلى بيت ما كان به شئ من هذا الشرف الذاتي ما وجهه؟ فإن كان بأمر من الله فإن الله هو الذي جعل بيت المقدس قبلة، فكيف ينقض حكمه وينسخ ما شرعه؟ واليهود ما كانت تعتقد النسخ. وإن كان بغير أمر الله ففيه الانحراف عن مستقيم الصراط، والخروج من الهداية إلى الضلال، وهو تعالى وإن لم يذكر في كلامه هذا الاعتراض إلا أن ما أجاب به يلوح ذلك.
وأما الجواب فهو: أن جعل بيت من البيوت كالكعبة أو بناء من الأبنية أو الأجسام كبيت المقدس أو الحجر الواقع فيه قبلة ليس لاقتضاء ذاتي منه، يستحيل التعدي عنه، أو عدم إجابة اقتضائه، حتى يكون بيت المقدس في كونه قبلة لا يتغير حكمه ولا يجوز إلغاؤه، بل جميع الأجسام والأبنية وجميع الجهات التي يمكن أن يتوجه إليها الإنسان في أنها لا تقتضي حكما ولا تستوجب تشريعا على السواء، وكلها لله يحكم فيها ما يشاء وكيف يشاء13.
وعليه، فيمكن القول: إن قوله تعالى ﴿وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ ليس فيه إنشاء حكم مستحب أو واجب، بل أراد الله تعالى أن يدفع إشكالا أوردوه على تحويل القبلة، فهو يريد أن يقول: إن جميع الأرض شرقها وغربها عنده تعالى سيان، وله أن يأمر الناس أولا بالتوجه إلى بيت المقدس، ثم يأمرهم بالتوجه إلى الكعبة، فلا إشكال.
ولكن يبقى في المقام سؤال هو: أنه كيف إذا يصح تمسك الأئمة عليهم السلام بقوله تعالى ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ﴾ على جواز الصلاة إلى غير القبلة، وذلك كما في الرواية المروية عن حماد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن رجل يقرأ السجدة وهو على ظهر دابته، قال: يسجد حيث توجهت، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يصلي على ناقته النافلة وهو مستقبل المدينة، يقول ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ﴾14. فهذا الحديث يدل بظاهره على أن الآية في مقام إنشاء الحكم، حيث استدل بها الإمام، فكيف يصح ما تقدم من أنها ليست في مقام إنشاء الحكم؟
وأجيب بأنه لا تنافي بين ما قلناه وبين استدلال الإمام عليه السلام بالآية على جواز السجدة حيث توجهت، فإن ذكره عليه السلام للآية لعله لدفع توهم المستشكل، أي ليفهم أن جميع الجهات هي لله لا للاستدلال بها على الحكم الشرعي. إن الصلاة إذا كانت على الناقة إلى غير القبلة كانت صحيحة، لأن النافلة يشترط فيها فقط التوجه لله، والجهات كلها لله، بخلاف الفريضة فإنها يجب فيها التوجه إلى الكعبة بإجماع المسلمين، بل يستفاد وجوب ذلك من قوله تعالى: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ فإن وجوب استقبال الكعبة في الصلاة لا يتصور إلا إذا كانت الصلاة واجبة.
هذا بالإضافة إلى ما ورد عن الأئمة عليهم السلام من اختصاص قوله تعالى ﴿وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ بالفريضة، وذلك مثل ما روي بسند صحيح عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: إذا استقبلت القبلة بوجهك فلا تقلب وجهك عن القبلة فتفسد صلاتك، فإن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وآله في الفريضة “فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره“…الحديث15.
وهكذا، فإن النتيجة تكون: أنه ليس بين الآيات تناف لتكون إحداهما ناسخة للأخرى.
آية الوصية
2- قوله تعالى ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾16.
-قال في الإتقان: الآية منسوخة، قيل بآية المواريث، وقيل بحديث: ألا لا وصية لوارث، وقيل بالإجماع17.
ولم يعدها في تفسير النعماني من الآيات التي نقلها عن علي أنها من المنسوخات مما يدل على أنها ليست منها.
وقال كمال الدين عبد الرحمن العتائقي: قالوا: نسخت الوصية للوالدين بآية المواريث، وهي ﴿يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ﴾18 – إلى أن قال: – وفي هذا نظر، لأن هذه الآية لا تنافي ذلك. ويؤيد ذلك ما روي عن الضحاك، فإنه قال: من لم يوص لقرابته فقد ختم عمله بمعصية. وقال الحسن وقتادة وطاووس والعلاء بن يزيد ومسلم بن يسار: هي محكمة غير منسوخة19.
وقال الإمام الخوئي: والحق أن الآية محكمة غير منسوخة.
وقال بعض الأعاظم بعد ذكر الآية: لسان الآية لسان الوجوب، فإن الكتابة تستعمل في القرآن في مورد القطع واللزوم، ويؤيده ما في آخر الآية من قوله “حقا” فإن الحق أيضا كالكتابة يقتضي معنى اللزوم، لكن تقييد الحق بقوله “على المتقين” مما يوهن الدلالة على الوجوب والعزيمة، فإن الأنسب بالوجوب أن يقال: حقا على المؤمنين. وكيف كان، فقد قيل: إن الآية منسوخة بآية الإرث، ولو كان كذلك فالمنسوخ هو الفرض دون الندب وأصل المحبوبية20.
والذي يستفاد من كلامه – ولو كان كذلك – أن النسخ غير ثابت عنده، مضافا كما أنه قد استفاد من تقييد الحق بكونه ” على المتقين ” أن نظر الآية إلى الاستحباب، وهو كذلك أيضا، فإن الاستحباب باق ولم ينسخ جزما.
ثم إن المستفاد من الفقهاء الإمامية رضوان الله عليهم هو أن الوصية للوالدين والأقربين نافذة من دون نقل إشكال من أحدهم على هذا أو نقل قول من أحد بنسخ الآية الدالة على ذلك.
قال المحقق الحلي: تصح الوصية للأجنبي والوارث.
وقال الشيخ محمد حسن في شرحه: بلا خلاف بيننا، بل الإجماع بقسميه عليه21.
وأما غير الإمامية فيقول ابن رشد: إنهم اتفقوا على أن الوصية لا تجوز لوارث لقوله صلى الله عليه وآله: لا وصية لوارث – إلى أن قال: – وأجمعوا كما قلنا إنها لا تجوز لوارث إذا لم تجزها الورثة22.
وكلامهم كما تراه ناظر إلى الوارث لا الأقربين مطلقا، بل هو يختص بالوارث إذا لم تجز الورثة ذلك.
وكيف كان، فإننا لا نرى وجها لنسخ آية الوصية للوالدين والأقربين، بعد ثبوت حكمها وتأييده بالروايات المروية عن الأئمة عليهم السلام بالأسانيد المعتبرة، ونذكر منها ما رواه الحر العاملي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن الوصية للوارث، فقال: تجوز.
قال: ثم تلا هذه الآية ﴿إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ﴾23.
نعم، قد ذكرنا قبل قليل أن أهل السنة قد ذكروا حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: لا وصية لوارث، فمن ثبت هذا عنده وكان ممن يرى نسخ القرآن بالسنة فلابد وأن يقول بالنسخ بالنسبة للوارث فقط، لا مطلق الأقربين.
آية الصيام
3- قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾24.
قال في الإتقان نقلا عن ابن عربي: إنه منسوخ بقوله تعالى ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾25.
والقول بالنسخ هنا مبني على أن التشبيه في قوله “كما كتب” تشبيه في جميع الجهات في أصل الصوم، وفي عدده، وفي كل مكان شرطا لصوم ” الذين من قبلنا “، والمعروف أنه كان من جملة شروط صحة صيامهم الإمساك عن الرفث في الليل، فنسخ بقوله “أحل لكم…الخ”.
وأما إذا قلنا: إن التشبيه إنما هو في أصل الوجوب لا في جهات أخرى وفاقا لبعض العلماء26 فلا تعارض بين الآيتين ولا نسخ في البين. نعم، تكون الآية الثانية ناسخة للحكم الثابت بالسنة.
ففي تفسير النعماني عن علي عليه السلام: إن الله تعالى لما فرض الصيام فرض أن لا ينكح الرجل أهله في شهر رمضان على معنى صوم بني إسرائيل في التوراة، فكان ذلك محرما على هذه الأمة. وكان الرجل إذا نام في أول الليل قبل أن يفطر قد حرم عليه الأكل بعد النوم، أفطر أو لم يفطر، وكان رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله يعرف بمطعم بن جبير شيخا، فكان الوقت الذي حفر فيه الخندق حفر في جملة من المسلمين، وكان ذلك في شهر رمضان، فلما فرغ من الحفر وراح إلى أهله صلى المغرب، وأبطأت عليه زوجته بالطعام فغلب عليه النوم، فلما أحضرت الطعام أنبهته، فقال لها: استعمليها أنت، فإني قد نمت وحرم علي، وطوى ليلته وأصبح صائما، فغدا إلى الخندق فجعل يحفر مع الناس، فغشي عليه، فسأله رسول الله صلى الله عليه وآله عن حاله فأخبره، وكان من المسلمين شبان ينكحون نساءهم بالليل سرا لقلة صبرهم، فسئل النبي صلى الله عليه وآله في ذلك فأنزل عليه: “أحل لكم ليلة الصيام الرفث – إلى قوله تعالى: – وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل” فنسخت الآية ما تقدمها. والمراد من قوله عليه السلام “نسخت الآية ما تقدمها” أنها نسخت ما ثبت من الحكمين، وهما حرمة الرفث في الليل، وحرمة أكل الطعام والشراب إذا نام قبل أن يفطر، كما هو ظاهر قوله عليه السلام “لما فرض الصيام فرض أن لا ينكح الرجل أهله في شهر رمضان بالليل والنهار“.
فالآية نسخت الحكمين اللذين ثبتا بالسنة، لا أنها نسخت ما يستفاد من قوله تعالى ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ لأنها تدل على وجوب أصل الصوم على هذه كالتي قبلها، وهو ثابت لم ينسخ. وأما الحكمان المتقدمان فهما مستفادان من الأخبار كالرواية المتقدمة، وكالذي ذكره الجصاص حول الآية، حيث قال: إنه كان من حين يصلي العتمة يحرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى القابلة، رواه عطية عن ابن عباس. وعن معاذ: أنه كان يحرم ذلك عليهم بعد النوم، وكذلك ابن أبي ليلى عن أصحاب محمد، قالوا: ثم إن رجلا من الأنصار لم يأكل ولم يشرب حتى نام، فأصبح صائما، وأجهده الصوم – إلى أن قال: – ونسخ به تحريم الأكل والشرب والجماع بعد النوم.
آية كفارة الصوم
4 – قوله تعالى ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ﴾27.
قال في الإتقان: قيل: إنها منسوخة بقوله ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه﴾28. وقيل: محكمة.
وقال العتائقي: هذه الآية نصفها منسوخ ونصفها محكم، وكان الرجل إذا شاء صام، وإذا شاء أفطر وأطعم مسكينا، ثم قال تعالى ” فمن تطوع خيرا ” فأطعم مسكينا ” فهو خير له “، فنسخ بقوله ” فمن شهد منكم الشهر فليصمه ” تقديره: فمن شهد منكم الشهر حيا حاضرا صحيحا عاقلا بالغا فليصمه.
وقال الطبرسي في تفسيره مجمع البيان: خير الله المطيقين الصوم من الناس كلهم بين أن يصوموا ولا يكفروا وبين أن يفطروا ويكفروا عن كل يوم بإطعام مسكين، لأنهم كانوا لم يتعودوا الصوم، ثم نسخ بقوله تعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه﴾.
ويقول البعض: إنه روي عن أبي سلمة بن الأكوع أنه قال: لما نزلت الآية ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ كان من شاء منا صام، ومن شاء أن يفتدي فعل، حتى نسختها الآية بعدها29.
ثم لا يخفى أن النسخ مبني على أن يكون المراد من قوله تعالى “يُطِيقُونَهُ” هو يسعونه ويقوون عليه، كما في مجمع البيان، حيث قال: يقال: طاق الشئ يطوقه، وأطاق إطاقة إذا قوي عليه. وكذا قال غيره30.
وأما إذا كان المراد منه ما قاله بعض المحققين31 من أن معنى “يطيقون الصوم” أن الصوم على قدر طاقتهم، بأن يكونوا قادرين عليه لكن مع الشدة والحرج، فلا نسخ، لبقاء الحكم بالتخيير على من كان الصوم عليه حرجيا كالشيخ والشيخة، فيجوز لهم: إما الفدية، وإما الصوم، لكن الصوم خير لهم. ﴿وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾. ثم نقل عن تفسير المنار نقلا عن شيخه: أنه لا تقول العرب أطاق الشئ إلا إذا كانت قدرته عليه في نهاية الضعف بحيث يتحمل به مشقة شديدة.
وفي تفسير الجلالين مثل لقوله تعالى “يطيقونه” بالشيخ والمريض لكنه قدر كلمة “لا”.
وكيف كان، فإن التأمل في الآيتين يعطي أن المراد من قوله تعالى “وعلى الذين…الخ” غير ما يراد من قوله تعالى قبلها “كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ – إلى قوله: -﴿وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَر﴾.
والحقيقة أن المستفاد هاهنا أحكام ثلاثة: وجوب أصل الصوم، وخروج المسافر والمريض عن العموم، ووجوب القضاء عليهما في أيام أخر. وهذا الأخير هو حكم الذين يكون الصوم عليهم حرجيا، وكان على قدر طاقتهم لا دونها.
والذي يسهل الأمر هو ورود أخبار كثيرة دالة على أن المراد من هؤلاء الشيخ الكبير وذو العطاش، وذلك مثل ما رواه السيد البحراني في تفسيره البرهان، بسنده عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله عز وجل ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ قال عليه السلام: الشيخ الكبير والذي يأخذه العطاش.
ومثل ما روي عن علي عليه السلام: أنه تأول قوله تعالى ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ على الشيخ الكبير32.
وما روي عن ابن عباس أنه قال: إلا الحامل والمرضع إذا أفطرتا خوفا على الولد33.
والحاصل: أن المراد من قوله تعالى ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ من كان في الصوم عليه حرج ومشقة، كما تدل عليه الأحاديث الكثيرة، إما بإفادة اللفظ له وضعا، أو بتقدير كلمة “لا” في الجملة. وعلى التقديرين فالمراد منه هو الشيخ والشيخة وأمثالهما ممن يكون في الصوم عليه حرج ومشقة. وهذا الحكم قد بقي في الشريعة، ولم ينسخ كما يظهر لمن راجع الكتب الفقهية.
المورد الخامس
قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾34.
قال في الإتقان: قيل: إنه منسوخ بقوله تعالى ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾35.
وقال العتائقي في جملة ما قال: فقالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وآله، ما حق تقاته؟ فقال: أن يطاع ولا يعصى وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر. قالوا: ومن يطيق ذلك؟ (و) نسخها قوله تعالى ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم﴾36.
وعدها في تفسير النعماني مما رواه عن علي عليه السلام من المنسوخات.
ونجد في قبال هؤلاء من يقول بعدم النسخ، كالشيخ الزرقاني، حيث قال في مناهل العرفان ما حاصله: إنها غير منسوخة، فإن معنى تقوى الله حق تقاته هو الإتيان بما يستطيعه المكلفون، دون ما خرج عن استطاعتهم، وعلى هذا فلا تعارض بين الآيتين، بل تكون إحداهما مفسرة للأخرى، فلا نسخ.
ولكن الذي يبدو لنا هو أن المستفاد من قوله ” حق تقاته ” أمر أعظم وأشد مما يستفاد من قوله تعالى ﴿مَا اسْتَطَعْتُم﴾، وكأن الآية الأولى تدل على أنه يجب تحصيل ما أراده الله تعالى وأحبه، وترك ما نهى عنه وأبغضه بأي وجه أمكن وبأي طريق، فلابد من أن يتحرز المكلف من النسيان والغفلة، ولو بالاحتياطات الشاقة التي تمنع ذلك، ومعلوم أن هذا أمر صعب جدا. وأما الآية ﴿مَا اسْتَطَعْتُم﴾ فهي تخفف ذلك، وتقول: إننا الآن نطلب منكم قدر وسعكم، أي بمقدار الوسع العرفي لا العقلي، فحينئذ يكون بين الآيتين تعارض، فلابد من القول بالنسخ.
وهذا المعنى هو الذي يظهر من كل مورد وقع فيه نظير هذا التعبير، كقوله تعالى ﴿وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾37، وقوله سبحانه ﴿فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾38.
وكقول الإمام عليه السلام لمعاوية بن وهب: يا معاوية، ما أقبح بالرجل يأتي عليه سبعون سنة أو ثمانون سنة يعيش في ملك الله ويأكل نعمته ثم لا يعرف الله حق معرفته39.
ومن المعلوم أن معاوية بن وهب – مع جلالته وعظم شأنه – لم يكن يفقد المعرفة المتعارفة بالله عز وجل، وإنما استحق العتاب منه عليه السلام بسبب عدم وصوله إلى حق المعرفة التي ترتفع عن مستوى المعرفة المتعارفة.
إذا، فيستفاد من كلمة “حق تقاته” درجة من التقوى تزيد على الدرجة التي تستفاد من قوله ﴿مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾. فتكون هذه ناسخة لتلك.
هذا بالإضافة إلى أنه قد روي عدد من الروايات الدالة على النسخ في هذه الآية عن أئمة الهدى عليهم السلام، ونحن نذكر على سبيل المثال:
1- ما رواه السيد هاشم البحراني بسند صحيح عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل ﴿اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ قال: يطاع ولا يعصى، ويذكر ولا ينسى، ويشكر ولا يكفر40.
2- ما رواه أيضا في حديث آخر أنه عليه السلام قال: ﴿اتَّقُواْ اللّهَ﴾ منسوخة، قلت: وما نسخها؟ قال: قول الله ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾.
إلى غير ذلك من الروايات الدالة على النسخ عن أهل البيت عليهم السلام.
3- وفي تفسير الجلالين قال في بيان الآية: بأن يطاع ولا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر ولا ينسى، فقالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وآله: ومن يقوى على هذا؟ فنسخ بقوله تعالى ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾.
المورد السادس
قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ﴾41.
قال في الإتقان: إنها منسوخة بقوله تعالى ﴿وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً﴾42.
وقال العتائقي: إنها منسوخة بقوله ﴿فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾43.
وعبر الزرقاني في المناهل عن ذلك بلفظ “قيل”.
ونجد في قبال هؤلاء من يقول بعدم النسخ فيها، وأنها من المحكمات، ولم يعدها النعماني من المنسوخ المنقول عن علي. وعدم النسخ محكي عن عطاء44، وبه قال الزرقاني في المناهل، والإمام الخوئي في تفسير البيان.
وقال الطبرسي بعد نقله النسخ عن قتادة وغيره: إن تحريم القتال في أشهر الحرم وعند المسجد الحرام باق عندنا على التحريم فيمن يرى لهذه الأشهر حرمة، ولا يبتدئون فيها القتال، وكذلك في الحرم. وإنما أباح الله تعالى للنبي صلى الله عليه وآله قتال أهل مكة عام الفتح، فقال صلى الله عليه وآله: إن الله أحلها لي في هذه الساعة، ولم يحلها لأحد من بعدي إلى يوم القيامة45.
ثم إن التأمل في هذه الآية يعطي أنها محكمة غير منسوخة، فإنها قررت تحريم القتال في الشهر الحرام، حين ورد فيها قوله تعالى ” قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله ” ولكن لو كان القتال جزاء لما هو أعظم وأشد منه لم يكن فيه بأس. ويستفاد من الآية أنها وقعت عن سؤال حول قضية حدثت آنذاك، ولعلها هي ما في تفسير البرهان في بيان هذه الآية: عن علي بن إبراهيم: أنه كان سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما هاجر إلى المدينة بعث السرايا إلى الطرقات التي تدخل مكة، يتعرض بعير قريش، حتى بعث عبد الله بن جحش في نفر من الصحابة إلى النخلة – إلى أن قال: – وقد نزلت العير وفيهم عمرو بن عبد الله الحضرمي، وكان حليفا لعتبة بن ربيعة، فقال ابن الحضرمي: هؤلاء قوم عباد ليس علينا منهم بأس، فلما اطمأنوا ووضعوا السلاح حمل عليهم عبد الله بن جحش فقتل ابن الحضرمي وقتل أصحابه، وأخذوا العير بما فيها وساقوها إلى المدينة. فكان ذلك أول يوم من رجب من أشهر الحرم، فعزلوا العير وما كان عليها، ولم ينالوا منها شيئا.
فكتبت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وآله: إنك استحللت الشهر الحرام، وسفكت فيه الدم، وأخذت المال. وكثر القول في هذا، وجاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، فقالوا: يا رسول الله، أيحل القتل في الشهر الحرام؟ فأنزل الله ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ الآية.
فتحصل: أن القتال الذي وقع في الشهر الحرام بإذن النبي صلى الله عليه وآله لا يدل على نسخ حرمة القتال فيه، لأنه إنما كان جزاء لما هو أعظم وأشد.
هذا بالإضافة إلى أن صدر الآية – وهو قوله: ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ…الخ﴾ – يأبى عن النسخ، إذ كيف ينسخ أمر كبير فيه صد وكفر؟! وكيف يصح تجويز أمر كهذا؟! إلا أن يكون عقابا لهم على ذنب أعظم وأشد، وهذا الذنب قد أشير إليه في ذيل الآية، حيث قال ﴿وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ﴾الآية.
وأما قوله تعالى ﴿وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً﴾ فهو وإن كان له عموم زماني بمقتضى إطلاقه فيشمل الشهر الحرام بالإطلاق إلا أن النهي الصريح عن القتال فيه يقيد هذا العموم، ويكون وجوب قتال المشركين مختصا بغير الأشهر الحرم. ويؤيد ذلك الإجماع المنقول عن الطبرسي على أن التحريم باق إلى الآن، وقد سبق.
وقال العلامة الحلي: كان الغرض في عهد النبي صلى الله عليه وآله الجهاد في زمان ومكان دون آخر، أما الزمان فإنه كان جائزا في جميع السنة، إلا في الأشهر الحرم – وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم – لقوله تعالى ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾. – إلى أن قال: – إذا عرفت هذا فإن أصحابنا قالوا: إن تحريم القتال في أشهر الحرم باق إلى الآن لم ينسخ في حق من يرى لأشهر الحرم حرمة، وأما من لا يرى لها حرمة فإنه يجوز قتاله فيها. وذهب جماعة من الجمهور إلى أنهما منسوختان بقوله ﴿فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾46.
ثم إن القول بنسخ تحريم القتال – كما حكيناه عن العتائقي ونسب إلى النحاس – غريب وعجيب، ولعله كان غفلة وسهوا منهم، فإن قوله تعالى ﴿فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ قد علق الحكم فيه على قوله ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ﴾ فكيف يكون ناسخا؟!
المورد السابع
قوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾47.
ذكر في الإتقان: أنها منسوخة بآيتين فـ﴿مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْل﴾ منسوخ بآية ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾48.
والوصية منسوخة بقوله ﴿وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم﴾49.
وفي تفسير النعماني عن علي عليه السلام: أن العدة كانت في الجاهلية على المرأة سنة كاملة، وكانت إذا مات الرجل ألقت المرأة خلف ظهرها شيئا، بعرة أو ما يجري مجراها، وقالت: البعل أهون إلي من هذه، ولا أكتحل ولا أتمشط ولا أطيب ولا أتزوج سنة، فأنزل الله تعالى في الإسلام: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾فلما قوي الإسلام أنزل الله تعالى ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ…الخ﴾.
وممن قال بالنسخ هنا العتائقي قال: وليس في كتاب الله آية تقدم ناسخها على منسوخها في النظم إلا هذه الآية.
وكذا الشيخ الطبرسي في مجمع البيان، وقال: اتفق العلماء على أن هذه الآية منسوخة.
وقال الزرقاني في مناهل العرفان: والحق هو القول بالنسخ، وعليه جمهور العلماء.
ثم قال: إن البعض يقول: إن الآية محكمة، ولا منافاة بينها وبين الثانية، لأن الأولى خاصة فيما إذا كان هناك وصية للزوجة بذلك ولم تخرج ولم تتزوج، أما الثانية ففي بيان العدة والمدة التي يجب عليها أن تمكثها، وهما مقامان مختلفان.
والذي يبدو لنا هو أن ما يظهر من الآيتين موافق لما نقله الزرقاني عن بعض، من أنهما تتضمنان لحكمين مختلفين، الأول: بيان وظيفة الأزواج بالنسبة لزوجاتهم بأن يوصوا لهن. والثاني: بيان وظيفة الزوجات أنفسهن بالنسبة إلى العدة، وأنه يجب عليهن التربص أربعة أشهر وعشرا، ولا تنافي بين هذين الحكمين، فلا وجه للنسخ.
ولكننا مع ذلك نجد أن الطبرسي قد نقل اتفاق العلماء على أن آية الوصية منسوخة بآية التربص، والزرقاني نقل اتفاق جمهور العلماء على ذلك.
ونجد أيضا عدة روايات تدل على وقوع النسخ في الآيتين، ونحن نذكر على سبيل المثال:
1- ما تقدم عن تفسير النعماني عن علي عليه السلام.
2- ما رواه السيد هاشم البحراني عن العياشي عن معاوية بن عمار قال: سألته عن قول الله ” والذين يتوفون منكم ويذرون أزوجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول ” قال: منسوخة، نسختها آية﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ ونسختها آية الميراث.
3- عن أبي بصير قال: سألته عن قول الله ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ قال: هي منسوخة، قلت: وكيف كانت؟ قال: كان الرجل إذا مات أنفق على امرأته من صلب المال حولا، ثم أخرجت بلا ميراث. ثم نسختها آية الربع والثمن، فالمرأة ينفق عليها من نصيبها50.
إذا، فالنسخ ثابت بالإجماع والأخبار، ولعل ثبوته ووضوحه هو الموجب لعدم ذكر الإمام الخوئي لهذه الآية في جملة المنسوخات، وذلك لأنه قال في أول البحث: نحن نذكر الآيات التي كان في معرفة وقوع النسخ فيه وعدم وقوعه غموض في الجملة.
وكيف كان، فإن النسخ ثابت، ولم يخالف فيه أحد ظاهرا إلا الشافعي على ما في تفسير الجلالين، وقال السيوطي فيه: السكنى ثابتة عند الشافعي ولم تنسخ.
المورد الثامن
قوله تعالى ﴿وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ﴾51.
قال في الإتقان: إنها منسوخة بقوله بعده ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾52.
وقال العتائقي: فشق نزولها ﴿إِن تُبْدُوا…الآية﴾ عليهم، ثم نسخ ذلك بقوله: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾، والمنسوخ قوله: ﴿أَوْ تُخْفُوه﴾.
ولكن لم يعد تفسير النعماني هذه الآية من المنسوخات فيما نقله عن علي، وكذلك فإن الإمام الخوئي لم يتعرض لها، وكأنه لا يراها من الآيات المنسوخة.
وقال في مناهل العرفان: والذي يظهر لنا أن الآية الثانية مخصصة للأولى، وليست ناسخة، فكان مضمونها: أن الله تعالى كلف عباده بما يستطيعون مما أبدوا في أنفسهم أو أخفوا، لا تزال هذه الإفادة باقية، وهذا لا يعارض الآية الثانية، حتى يكون ثمة نسخ.
وفي مجمع البيان للطبرسي قال: قال قوم: إن هذه الآية منسوخة بقوله: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ ورووا في ذلك خبرا ضعيفا، وهذا لا يصح، لأن تكليف ما ليس في الوسع غير جائز، فكيف ينسخ؟ وإنما المراد بالآية ما يتناوله الأمر والنهي من الاعتقادات والإرادات.
وغير ذلك مما هو مستور عنا – إلى أن قال: – فعلى هذا يجوز أن تكون الآية الثانية مبينة للأولى، وإزالة توهم من صرف ذلك إلى غير وجهه، وظن أن ما يخطر بالبال أن تتحدث به النفس مما لا يتعلق بالتكليف فإن الله يؤاخذ به، والأمر بخلاف ذلك.
ولكن الظاهر لنا من الآية الشريفة هو أن معناها: أن ما في أنفسنا من السوء سواء ابدي أو أخفي مما يحاسب الله به فله تعالى أن يغفر لمن يشاء فضلا ويعذب من يشاء عدلا.
ويؤيد هذا المعنى ما ورد في الأخبار الكثيرة من المؤاخذة على النية، وهي كثيرة، نذكر منها على سبيل المثال:
1- ما رواه الشيخ الكليني رحمه الله عن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: نية المؤمن خير من عمله، ونية الكافر شر من عمله53. والحديث دال على أن الكافر يؤخذ بنيته أشد مما يؤخذ بعمله.
2- ما رواه أيضا عن أبي هاشم قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: إنما خلد أهل النار في النار لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله أبدا…الخ54.
ورواه مثله البرقي في المحاسن والصدوق في العلل.
وفي قبال هذه الأخبار أخبار دالة على العفو عن النية مطلقا أو عن النية إذا كانت من المؤمن فقط، فمن ذلك:
1- ما رواه الحر العاملي عن زرارة عن أحدهما عليهما السلام قال: إن الله تبارك وتعالى جعل لآدم في ذريته: أن من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن هم بحسنة وعملها كتبت له عشرا، ومن هم بسيئة ولم يعملها لم يكتب عليه، ومن هم بها وعملها كتبت عليه سيئة55.
2- ما رواه أيضا عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن المؤمن ليهم بالحسنة ولا يعمل بها فتكتب له حسنة، وإن هو عملها كتبت له عشر حسنات، وإن المؤمن ليهم بالسيئة أن يعملها فلا يعملها فلا تكتب عليه56.
فالأخبار متعارضة كما ترى، فلابد من الجمع بينها، وقد تعرض علماء الأصول في مبحث التجري إلى طرق الجمع بينها، فراجع.
ولكن لا تفوتنا هنا الإشارة إلى شئ وهو: أن المرتكز في أذهان المسلمين جميعا – حتى صغارهم ونسائهم – هو أن النية لا يؤاخذ أحد بها، وهو يؤيد القول بالعفو.
وتكون النتيجة بعد كل ذلك هي: أنه ليس المراد من قوله “أو تخفوه” ما يعرض للأنفس من الخواطر القهرية الخارجة عن الاختيار والوسع، حتى ينسخ بقوله ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾57 بل المراد منه هي النية التي هي مقدورة واختيارية، وهي معفو عنها من المؤمن.
المورد التاسع
قوله تعالى ﴿وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا﴾58.
قال في الإتقان: قيل: إنها منسوخة، وقيل: لا، ولكن تهاون الناس في العمل بها. وقال العتائقي: نسخها ﴿وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ﴾59.
وقال الزرقاني كذلك، ثم قال: وقيل: إنها غير منسوخة، لأنها تدل على توريث مولى الموالاة، وتوريثهم باق، غير أن رتبتهم في الإرث بعد رتبة ذوي الأرحام، وبذلك يقول فقهاء العراق60.
والذي يمكننا القول به هنا هو أن قوله تعالى “وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ” كغيره من الآيات القرآنية يدل إجمالا على وجوب إيتاء النصيب لمن كان بينه وبين الميت عقد يمين، ولكن ما هو هذا النصيب؟ وضمن أي شروط؟ الجواب: غير معلوم.
فلو قلنا: إن الآية تفيد وجوب إيتاء النصيب لمن كان له ولاية بعقد اليمين الثابتة في الشريعة بنحو من الأنحاء الثلاثة لكانت الآية محكمة غير منسوخة.
والأنحاء الثلاثة لعقد اليمين هي إجمالا مع بيان الدليل:
1- الموالاة بالعتق.
2- ولاء ضمان الجريرة.
3- الولاء بالنبوة والإمامة.
وتفصيل ذلك هو: أما الولاء بالعتق – بمعنى أن من أعتق عبدا فله ولاؤه الموجب لإرثه، إذا لم يكن له وارث من أرحامه – فهذا ثابت في الإسلام، وقد نقل الإجماع عليه61.
وتدل عليه أخبار كثيرة، نذكر منها على سبيل المثال:
1- ما رواه الفيض الكاشاني عن عيص بن القاسم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قالت عائشة لرسول الله صلى الله عليه وآله: إن أهل بريرة اشترطوا ولاءها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: الولاء لمن أعتق62.
والحديث مذكور في كتب السنة