المبحث الثاني: المنبر الحسيني والتوعية العامّة
المطلب الأوّل: مرتكزات المنبر
اعتمد المنبر الحسيني على مرتكزات إسلامية أصيلة، فمن خلال دراسة خطب الإمام الحسين عليه السلام نجد أنّ هناك شروطاً خاصّة يجب على الخطباء الالتفات إليها؛ حتى يكون منهجهم حسينياً إسلامياً صحيحاً، ومؤثراً في الأُمّة، فكان الإمام المعصوم عليه السلام ينهج نهج جدّه الرسول عليها السلام، وأبيه المرتضى وأخيه المجتبى عليهما السلام، في مراعاة تجدد الأُمّة وتطورها، وكان عليه السلام يدعم خطبه بالمزاوجة بين النصوص الدينية والعلم، مع ربطها بالواقع المعاصر للأُمّة… لذلك على الخطباء مراعاة الشروط والمنهجية العامّة التي رسمها لهم الأئمّة المعصومون عليهم السلام، وهي:
أوّلاً: التجديد والتطوير في الخطاب الديني المنبري
وذلك لأنّ أغلبية الجيل الجديد متعلّم ومثقف، ونادراً ما نجد في مجتمعنا شخصاً غير متعلّم ، بل إنّ بعض شبابنا قد وصلوا إلى الدراسات العليا في مختلف التخصصات العلمية، وهذا التجديد مطلوب، سواءً كان من حيث الأُسلوب، أم المحتوى، فما كان يقبل في السابق لم يعُد مقبولاً اليوم؛ لأنّ ذلك أقدر على استقطاب الأجيال الجديدة والتأثير فيها. ويشمل التجديد كلّ جوانب الخطاب الديني؛ إذ يتطلع الجيل المتعلّم إلى الخوض في موضوعات جديدة وبطرق علمية، بل حتى المواضيع الوعظية، فهي ضرورية أيضاً، وبحاجة إلى أُسلوب جذّاب يترك أثراً تفاعلياً في عقول وقلوب الجمهور.
ثانياً: المزاوجة بين النصوص الدينية والحقائق العلمية
هذه المزاوجة من الأدوات المهمّة في صناعة خطاب منبري مؤثر في الأجيال الجديدة، فالجمع بين النصوص من آيات وأحاديث شريفة، وما ثبت صحته من العلم التجريبي، يساعد كثيراً على إقناع الشباب المتعلّم والمثقّف بالمفاهيم الدينية، ممّا يساعد على قبول الخطاب المنبري ومتابعته.
ثالثاً: ربط الموضوعات المطروحة بالواقع الاجتماعي المعاصر
وهذا ما يجعل من المنبر وسيلة مؤثرة وجذابة، أمّا الخطاب التجريدي البعيد عن هموم الناس وشؤونهم، والذي يناقش قضايا لا تنسجم وطبيعة المرحلة وقضاياها، فيؤدي بالشباب المثقّف إلى الابتعاد عن المنبر، والبحث عن وسائل أُخرى.
لذا يجب أن تكون الموضوعات المطروحة تمسّ الواقع الاجتماعي، والثقافي، والأُسري، والفكري، والأخلاقي للناس، وهذا التنوع مفيد؛ لأنّ للإنسان أبعاداً مختلفة، وهو بحاجة إلى إشباعها، كما أنّ الناس ليسوا على ميل واحد، فتطرّق المنبر إلى موضوعات متنوعة أمر مطلوب؛ لأنّه يلبي ميول الناس ورغباتهم الفكرية والثقافية[45].
رابعاً: اختيار الزمان والمكان المناسبين لإلقاء الخطبة
«وذلك لتحشيد الجماهير واستقطاب أكبر عدد من الأُمّة، في سبيل نجاح المشروع الإصلاحي، ومثال على ذلك اختار الإمام الحسين عليه السلام مكّة المكرّمة، كونها ملتقى يجتمع فيه الناس من مختلف أقطار العالم الإسلامي، ممّا سيهيئ له فرصة عظيمة، ليقوم بدوره في تعبئة الأُمّة، وكذلك اختياره الأشهر (شعبان، رمضان، شوال، ذو العقدة، ذو الحجة) التي تُعدّ من أخصب الأوقات لحركة التعبئة والتحشيد، للتوافد الكثيف للأفواج الزائرة لبيت الله»[46].
المطلب الثاني: المنبر الحسيني والخطبة
«الخَطابة: (بالفتح) مصدر خطَب (بالفتح) يخطُب، ويأتي المصدر أيضاً خُطبة وخَطْباً، وهو إلقاء الكلام على الغير، ومجازاً يأتي خطب بمعنى وعظ؛ لأنّه يمارس الوعظ عن طريق مخاطبة الناس، وقيل: إنّ الخطبة اسم للكلام وضع موضع المصدر، كما عليه جمع من اللغويين… والخطابة هذه وهي إحدى أغراض علم المنطق، والتي تسمّى بالصناعات الخمس… جاء تعريفها في المنطق بأنّها: صناعة علمية يمكن بواسطتها إقناع الجمهور بالأمر الذي يتوقع حصول التصديق به بقدر الإمكان»[47]. فهناك علاقة وطيدة بين الخطابة والمنبر فهما متلازمان، وهو أصدق مصاديقها، فكل منها يدعو إلى تربية الناس وتعليمهم وسوقهم إلى شاطئ السلام والنجاة.
و«أوّل خطبة ألقاها الإمام الحسين عليه السلام عند عزمه على الرحيل إلى كربلاء، إذ كانت في منتهى البلاغة والشجاعة، حثّ من خلالها الذين يؤيدونه في الفكر والعقيدة والعزم على اللحاق به، وكان مطلعها يقول: خُط الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة»[48]. ومن أهم الوسائل التي تدعو لاستقطاب الجماهير للمنبر وتعبئة الأُمّة هي:
أوّلاً: الخطبة
هي أُسلوب تقليدي عهدناه في دراسة كلّ علم؛ لأنّه باب الدخول إلى رحابه، وبداية الانطلاق إلى أُصوله وفروعه ومسائله وشعبه، ويمكن أن تُعرّف بـ: كلام منثور يمتاز بوقدة العاطفة، ورجاحة الفكر، وسمو المعاني، وحسن السبك، وروعة البيان، وصدق اللهجة، وعمق التأثير، وجمال النطق، وقوة الحجة، يتوجّه به المتكلّم إلى الجمهور المستمع له، قاصداً إقناعه بقوله، واستمالته إليه. والخطب في الإسلام أنواع عديدة، منها: الخطب الدينية، والخطب السياسية، وخطب الجهاد والحضّ على القتال في سبيل الله سبحانه، وغيرها من الخطب الأُخرى، ومن مصاديق الخطب الدينية هي خطبة الجمعة[49].
خطبة الجمعة
إنّ اختيار الزمان والمكان المعينين في تنشيط عملية التعبئة والتحشيد، والتفعيل الجماهيري للأُمّة، من عوامل نجاح استقطاب أكبر عدد من الجماهير حول المنبر، فهذه الخطبة التي تلقى كلّ يوم جمعة عند الزوال، ولا سيّما أنّها تنطلق من حرم الإمام الحسين عليه السلام؛ للتذكير بمواقفه وصوت ثورته التي خلّد صداها، والتي يتم فيها وعظ المسلمين وحملهم على شرع الله[50]، تمثّل عاملاً اتصالياً وإعلامياً مهمّاً ورافداً معرفياً وثقافياً، وبوصلة توجيه، وإرشاد، وتذكير بما أنزل الله من استحقاقات دينية ودنيوية للناس عامّة وللعراقيين خاصّة، وهكذا تنطلق مراسيمها وهيبتها بالشكل الذي تصبح كلّ كلمة منها مناراً، ورؤية شاملة ودقيقة للأحداث بماضيها وحاضرها ومستقبلها، فغدت دستوراً ومنهجاً أُسبوعياً للعامّة والخاصّة؛ لذا تُعدّ حراكاً جماهيرياً قوياً.
يتعاظم الخطاب الديني لأسباب عديدة، منها: المصداقية العالية، وقد دأب ممثّل المرجعية العليا كلّ أُسبوع وقبل الصلاة من يوم الجمعة التحدّث في الشأن العام، وتحليل الواقع السياسي والخدمي، والسلوك العام.
«وخطبة الجمعة وبما تحمله من نابض أساس، بطريقة تفكير الناس، وبناء صورهم الذهنية إزاء جلّ الأُمور، سواء كانت إيمانية، أو جهادية، أو سلوكية، فهي تنساب للناس على شكل حُزم متعددة من الأفكار، والتعليمات، والمؤشرات التي يذكرها الجميع على أنّها خارطة طريق جديدة، وأنّها بوصلة الحراك القادم، ونحن اليوم نعيش صراعاً وجودياً مع التنظيمات الإرهابية المتمثّلة بداعش ومَن يدعمهم من العرب والأجانب، الذي جعل المرحلة هي الأخطر والأهم في التنوير والوحدة ، ولمّ الشمل، وتحليل ما يجري، وبالتالي فإنّ الخطاب الديني وخطبة الجمعة خاصّة، أصبحت جرعة إنسانية في استنهاض الهمم؛ لمواجهة هذا السرطان الذي فتك ببلادنا، في ظلّ تلكؤ الخطاب السياسي والإعلامي، وقد ارتبط خطاب المرجعية الأُخرى بهندسة وكيفية المواجهة مع هذا الخطر، ومحفزات الصبر والمطاولة والتصحيح»[51]، وما فتوى الجهاد الكفائي التي أطلقتها المرجعية المتمثّلة بسماحة السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظله) في حزيران (2014م) إلّا الانطلاقة الأُولى لتحرير العراق؛ إذ تمخّضت عن حشد شعبي ذي طاقة تعبوية هائلة، وألزمت الجميع أن يهبّوا دفعاً لخطر محدق بالأُمّة والوطن، وبذلك تحققت أبرز أهداف المنبر؛ إذ من خلاله تم تعبئة الأُمّة والجماهير كافة.
ثانياً: خطباء المنبر الحسيني
«هم الأشخاص القادرون على التصرف في فنون القول عند مخاطبة جمهور الناس؛ لإقناعهم بما يجول في خواطرهم من أفكار، والتأثير في نفوسهم بما في أعماقهم من عواطف، إذ يتصف الخطيب بصفات، منها: الاستعداد الفطري، وقوة البيان، وفصاحة اللسان، والزاد العلمي، وقوة الشخصية، وحسن الأخلاق، والإخلاص، وغيرها من الصفات التي تؤهّله ليكون خطيباً للمنبر بحق»[52].
«لقد أسهم وجود خطباء نوعيين استطاعوا أن يرفعوا مستوى أداء المنبر؛ ليواجه التحديات الفكرية والثقافية التي غزت العالم الإسلامي في العصر الحديث، وكذلك اهتمام الطبقة الواعية من رواد المنبر الحسيني بالخطيب، الذي يعالج على منبره مشكلات العصر، والنهوض بواقع المنبر الحسيني في العصر الحديث، ومدى أهميته وسعة تأثيره على المجتمع»[53]، ومن هؤلاء الخطباء عميد المنبر الحسيني الدكتور الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله، الذي وُلد في النجف الأشرف عام (1927م)، وأظهر نبوغاً في صغره، وتتلمذ على يد ثُلّة من العلماء، أشهرهم: المصلح الإسلامي الكبير الشيخ (محمد رضا المظفر).
«كان شامخاً في طرحه، مبدعاً في أُسلوبه، عميقاً في فكره، بسيطاً في العرض، جمع أُسس الفكر الإسلامي ومجاميع الفكر الحديث»[54]، وبيّن النصوص من آيات وأحاديث شريفة، وما ثبت صحته من العلم التجريبي، وسعى دائماً إلى أن لا يدع في منبره فسحة لذكر الأساطير والخرافات، وبعض الروايات غير المعتبرة، كما حرص على أن يكون المنبر الحسيني خالياً من الشذوذ في الأفكار والعقائد، فجعل من الحسين عليه السلام شعلة وضّاءة للوعي السياسي، فضلاً عن مواقفه الشجاعة النادرة بعد أن وقف شاعراً ناقداً للمواقف السياسية المخالفة لتطلعات الشعب العراقي، فما كان منبره إلّا أن يكون أُنموذجاً للمنبر الحسيني المعاصر.
وكذلك تنبيهاته المستمرة لجمهور الأُمّة من محاولات بعض علماء السوء (وعّاظ السلاطين)، ومحاولاتهم العديدة والمتكررة لحرف مسار المنبر، وتوجيهه بما يلائم منافعهم ومصالحهم وأهواءهم، وهذا هو سرّ نجاحه.
«لذا تتضح منهجيته بالمحاولات المتعددة لتنقية الفكر والثورة الحسينية من ترهّلات العقائد والمعتقدات المستصحبة من بسطاء وعوام الناس، فكان شديد الحرص، متألماً لبعض ممارسات إحياء الشعائر التي تؤثر على مسار النهضة الحسينية، لقد عاش عمق النهضة الإصلاحية، بعد أن كان له من النضوج الفكري ما يؤهله أن يمارس دوراً مهماً ضمن حيثيات ومتطلّبات هذه النهضة»[55].
لم يمرّ الشيخ الوائلي بفترة طويلة من أجل أن يصل إلى القمّة الخطابية، فإنّ الفاصلة بين انطلاقته وبين تربعه على قمّة هرم الخطابة كانت وجيزة جداً، بحيث يمكننا أن نقول: إنّ الوائلي ظهر منذ بدايته كبيراً، ثمّ سرعان ما صار لامعاً.
وقد فقد المنبر صوته الصدّاح في (14/ تموز/ 2003م)، فعزاؤنا أنّه قد ترك لنا تراثاً ضخماً ومدرسة فكرية متميزة… وأنّه قد جاور قمماً أُخرى سبقته، ضمتهم أرض النجف الأشرف.
المبحث الثالث: دور المنبر في الإصلاح
المطلب الأوّل: الإصلاح في اللغة والاصطلاح
الإصلاح لغوياً
يأتي بمعنى إزالة الفساد في المجتمع، وتغيير الأوضاع؛ لتكون صالحة نافعة على جادة الاعتدال والاستقامة والصواب.
صَلَحَ الشيء صلاحاً وصُلوحاً: زال عنه الفساد. وصَلَحَ الشيء: كان نافعاً أو مناسباً. وأصلح بينهما، أو ذات بينهما، أو ما بينهما من عداوة وشقاق. والصلاح: الاستقامة، والسلامة من العيب[56].
ولهذه المعاني اللغوية آثارها المعنوية في الإصلاح مفهوماً وممارسةً، حيث تلقي بظلالها الفكري والعملي على مجمل العملية الإصلاحية وطبيعة سلوك المصلحين.
الإصلاح اصطلاحاً
قوبل الإصلاح في القرآن تارةً بالسيئة، كما في قوله تعالى: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّـهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[57]. وغالباً يقابل الفساد. واللغويون غالباً ما عرّفوا الفساد بأنّه: نقيض الصلاح… والمفسدة: خلاف المصلحة.
«والفساد أيضاً بمعنى: التلف والعطب، والاضطراب والخلل، والجدب والقحط، وأيضاً بمعنى إلحاق الضرر»[58].
«والإصلاح كذلك هو: الإتيان بما هو صالح ونافع ومفيد، والإصلاح في كلّ شيء إنّما هو: الإتيان بالمفيد حسب ذلك الشيء»[59].
ولعظم أهمية الإصلاح وعلو شأنه، ولأنّ الإنسان أشرف مخلوقات الله، وهو خليفته في أرضه، أكرمه وسخّر له الأرض، والسماء، والشمس، والقمر، فقد تولّى عز وجل إصلاحه وإصلاح أوضاعه المعيشية وبيئته، بخلقه صالحاً، وبإزالة ما به من فساد بعد وجوده، والحكم له بالصلاح.
إنّ الفساد لو عمّ، وتُرك الفاسد، لم يقم المصلحون بمسؤولياتهم، ويعالج الواقع بالإصلاح، فإنّه يحفظ الأرض ومَن عليها، ويسبب دفع البلاء، وجلب الرحمة الإلهية.
«فالمجتمعات البشرية تحتاج دائماً إلى أن تقف على مستجدات واقعها، لتحديد أماكن الخلل وسدّ الثغرات؛ من أجل أن يصل ذلك المجتمع إلى مصافِّ المجتمعات المتحضِّرة»[60].
(الإصلاح) عنوان الرسالات الإلهية، ومضمون غايتها، قال تعالى: (إِنَّ هَـٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا)[61].
ذلك أنّ الرسل والأنبياء إنّما بُعثوا لإصلاح المجتمع، سواء كان ذلك على مستوى الإيمان والاعتقاد، أم على مستوى السلوك والعمل، فالهدف كلي: (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ)[62]، فهي رسالة الأنبياء والأولياء عليهم السلام، ومَن سارع إلى نهجهم واقتدى بهم.
«ولم يترك الإسلام نظام المجتمع وشؤونه المختلفة، إنّما عمد إلى وضع الأُسس القويمة للنظام العادل والمجتمع الصالح، وسنَّ التشـريعات اللازمة لذلك، فحرّم كلّ فاسد وسيّئ ومضر، وأوجب كلّ ما يصلح المجتمع، فتلاقت مناهج القرآن في الهداية والإصلاح على مستوى ذات الإنسان وسلوكه الخارجي، والقرآن فهو الهادي والصراط، وهو دستور الأخلاق ووثيقة الإصلاح، به تسعد الدُّنيا وتطيب الآخرة؛ ولذا كان التمسك به وإقامة شرائعه سبيل المصلحين، وبه فلاحهم ونجاحهم، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ)[63]» [64]، وقد وردت العديد من الآيات في هذا الشأن، منها: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّـهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ)[65]. و(وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)[66].
و(وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)[67].
ومن أجل أن تحصل نهضة الإصلاح والتغيّر في أيّ مجال من مجالات حياة الأُمّة، لا بدّ من توفر ثلاثة عوامل[68]:
الأوّل: مبادرة القيادات الدينية والسياسية في الأُمّة
1 ـ القيادات الدينية
إنّ للقيادات الدينية والسياسية دوراً مهماً في عملية الإصلاح؛ إذ كانت القيادات الدينية صمام الأمان للناس في كلّ المراحل، وذلك بالحدّ من الانحراف، والسير على الخط الصحيح، فقد قامت الحوزات العلمية منذُ أمدٍ بعيد ببناء الذات الإنسانية، ومقارعة الظلم والفساد، وحرست حدود الكتاب والسنّة، وظهر الكثير من العلماء والعارفين الذين أوضحوا الطريق لمسير الإنسان المتخبط في ظلمات الدنيا، فكان للمرجعية الرشيدة الدور الفاعل في المشهد السياسي العراقي، إذ كانت كلاعب حقيقي في ضبط إيقاع الأحداث التي مرّ بها البلد.
2 ـ القيادات السياسية
مَن يقود العملية السياسية يجب أن يتحلّى بالشجاعة والجرأة؛ لأنّ أيّ قيادة سياسية تريد الإصلاح ستجد أمامها معوّقات وتعبئة وقوى ضاغطة ضدها، وعلى القيادات السياسية أن تضع أمامها الإمام علياً عليه السلام كقدوة للقائد السياسي، فحين تسلَّم عليه السلامالخلافة بدأ بتطبيق منهجه الإصلاحي رغم علمه بالعوائق والعراقيل الهائلة، وهنا نرى توفّر أوّل عنصر لعملية الإصلاح، وهو المبادرة والتصدّي.
الثاني: ثقافة الإصلاح
أيّ قيادة تريد الإصلاح ينبغي أن تفكّر في إنتاج الثقافة الداعمة لتوجهات الإصلاح؛ لأنّه لا يمكن أن يحصل الإصلاح في بيئة ثقافية متخلفة. ولا بدّ من تشجيع ثقافة الانفتاح، والوعي بمتطلبات الزمن، وإتاحة الفرصة لحرية الرأي والتعبير عنه، على المستوى السياسي والديني والاجتماعي، فلكي تشق برامج الإصلاح طريقها في ساحة الأُمّة، لا بدّ من ثقافة داعمة، تُشجّع الناس على تجاوز ما ألفوه من عادات سيئة، وأفكار غير صحيحة، وتحصّنهم من تأثيرات مراكز القوى المضادة لعملية الإصلاح، ولخلق بيئة مناسبة للتغيير.
الثالث: تفاعل الجمهور
وعي جمهور الأُمّة واستجابتهم لبرامج الإصلاح والتغيير، هو الذي يؤذن بانطلاق نهضة الإصلاح، أمّا الاكتفاء باجترار الشعارات، وتمنيات التغيير، دون رفع مستوى الفاعلية والإنتاج، والالتفاف حول القيادات المخلصة، والبرامج الصالحة، فإنّه لن يغيّر من واقع الأُمّة شيئاً.
المطلب الثاني: استراتيجية المنبر في الإصلاح
«يعتمد المنبر في استراتيجيته في الإصلاح على آليات الحركة الجماهيرية وهي: التعبئة، التحشيد، التحريك»[69].
أوّلاً: التعبئة
تعني تنبيه الناس وتوعيتهم بحقيقة واقعهم الذي يعيشونه، وتعميم حالة الوعي لحقوقهم على مختلف شرائح الأُمّة، وبثّ ثقافة تحمل المسؤولية في روحها، وخير مثال لذلك خطبة الإمام الحسين عليه السلام في أصحاب الحر في منطقة البيضة، حيث قال عليه السلام بعد الحمد لله والثناء: «أيّها الناس، إنّ رسول الله عليها السلام قال: مَن رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام الله… حتى قال: وسيغني الله عنكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته»[70].
ثانياً: التحشيد
وهو القيام بعملية استقطاب لأكبر عدد ممكن من جماهير الأُمّة، ومختلف شرائحها، وطاقاتها، وكفاءاتها؛ لمناصرة مشروع النهضة والحركة الإصلاحية.
ثالثاً: التحريك
ويعني تحريك الحشود الجماهيرية وتفعيلها في ميدان المطالبة الحقوقية، وممارسة دورها في التغيير والإصلاح على أرض الواقع، عبر برامج وأنشطة تهدف إلى الإصلاح وفرض واقع جديد، وتختلف أشكال وصور التحرّك الجماهيري، وتتفاوت في حدّتها وهدوئها بحسب ما يفرضه الواقع السياسي والاجتماعي، ومراحل التغيير، فقد تكون (تظاهرات سلمية، أو اعتصامات، أو إضرابات…).
فمن دون التوعية، وتحريك الناس، وإثارة تطلعاتهم، وتوجيه شعورهم بالحرمان، والشعور بالقدرة على تغيير الوضع الفاسد، لا يمكن حشد الطاقات جميعاً لتصب في قنوات محددة، حتى تبلغ ذروة الوعي المتجسدة في تحريك الوعي الجماهيري الصانع للثورة. فمنذ اليوم الأوّل الذي قرر فيه الإمام الحسين عليه السلام الانتفاضة والثورة، بدأ يُحشّد جماهير الأُمّة للحضور معه في عملية الإصلاح والتغيير.
الخاتمة
إنّ أخطر مهمّة هي إصلاح الناس؛ إذ تتطلب بذل الجهود والسير وفق خطوات علمية رسمها لنا أئمّة أهل البيت عليهم السلام، وكذلك توفر آليات ووسائل جدّية قوية ومؤثرة لنشر هذه الثقافة.
فالمنبر والخطب اللذان يعدّان ركناً مهماً في منظومة الشعائر الحسينية، يشكلان وسيلة فعّالة ومهمّة في عملية الإصلاح، خصوصاً المنبر الحسيني الذي استلهم مبادئه من ثورة الإمام الحسين عليه السلام، ولأهمية الموضوع ارتأينا الولوج في هذا المجال والخوض فيه؛ لإبراز معالم مميّزاته، وأهدافه، والعوامل المؤثرة فيه.
وهو دعوة للخطباء بالتعامل معه بروح علمية وفق المعايير المحددة في هذا البحث، والتمسك بالشروط والمنهجية العامّة للخطبة التي رسمها أئمّة أهل البيت عليهم السلام، إذ تُعدّ إحدى وسائل استقطاب الجماهير، لعلّ هذا ما يجعل هذا البحث رافداً يستفيد منه الباحثون في هذا المجال، وكذلك الخطباء وعامة الناس؛ ليكون تعاملهم مع المنبر بروح علمية وفق المعايير المحددة في هذا البحث.
والله ولي التوفيق.
الكاتبة : أزهار عبد الجبار حسن
مجلة الإصلاح الحسيني – العدد الخامس عشر
مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية
________________________________________
[45] اُنظر: اليوسف، عبد الله أحمد، مرتكزات المنبر الحسيني المتميّز: ص19ـ 21.
[46] السادة، ماجدة، استراتيجيا النهضة الحسينية في الإصلاح والتغيّر السياسي: ص53ـ54.
[47] الكرباسي، محمد صادق محمد، معجم خطباء المنبر الحسيني: ج1، ص15ـ 16.
[48] مطهري، مرتضى، بين المنبر والنهضة الحسينية: ص211.
[49] اُنظر: مكتبي، نذير محمد، خصائص الخطبة والخطيب: ص27، ص29، ص55.
[50] اُنظر: المصدر السابق: ص29.
[51] القيم، كامل، خطاب المرجعية وأثره في الرأي العام: ص11ـ12.
[52] اُنظر: مكتبي، نذير محمد، خصائص الخطبة والخطيب: ص241.
[53] الكاظمي، فيصل الخالدي، المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل: ص313ـ 314.
[54] الطريحي، محمد سعيد، أمير المنبر الحسيني الدكتور الشيخ أحمد الوائلي: ص211.
[55] الروازق، صادق جعفر، أمير المنابر: ص171وص237وص268.
[56] اُنظر: مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط: باب الصاد.
[57] التوبة: آية 102.
[58] الأميني، إحسان، نظرية الإصلاح من القرآن الكريم: ص17ـ 19.
[59] العاملي، محمد شقير، الإصلاح الديني هل كان هدفاً للحسين عليه السلام: ص17.
[60] الأميني، إحسان، نظرية الإصلاح من القرآن الكريم: ص27ـ 28.
[61] الإسراء: آية9.
[62] هود: آية88.
[63] الأعراف: آية170.
[64] الأميني، إحسان، نظرية الإصلاح من القرآن الكريم: ص15ـ16.
[65] الأعراف: آية56.
[66] الأعراف: آية85.
[67] هود: آية117.
[68] اُنظر: الصفار، حسن، الإمـام عـلي عليه السلام رائـد الإصلاح، موقع: .www.saffar.org
[69] السادة، ماجدة، استراتيجيا النهضة الحسينية في الإصلاح والتغيير السياسي: ص47ـ 49وص73.
[70] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44.
المصدر: http://www.imamhussain.org