المفهوم الفقهي للحق أخص من المفهوم اللغوي، وهو الذي تبتني عليه الأحكام الشرعية والأنظمة القانونية.
وتقرير المراد منه لا يتأتّى عبر الرجوع إلى النصوص الشرعية كحال الكثير من المفاهيم، وذلك لعدم وجود نص صريح يحدد هذا المفهوم بحسب ما هو متداول في ألسن الفقهاء، والطريق الوحيد لذلك النظر في الكلمات التعريفية المقرَّرة فقهياً.
وهذا لا يعني الإنفكاك الكامل بين الكلمات الفقهية والنص الشرعي، بل تلك الكلمات مستمدَّة من مجموع النصوص الخاصة والعامة، ومن بعض التطبيقات الجزئية التي تُعَدُّ مسرحاً للنص.
اتجاهات البحث الفقهي
دار الجدل الفقهي عند تقرير مفهوم الحق بين عناوين عدة، أحدها السلطنة، وثانيها الملك، وثالثها الأولوية، ورابعها الإشتراك اللفظي بين مجموعة عناوين، وخامسها الاعتبار الخاص الخارج عن الملك والسلطنة.
فقد ذهب المشهور إلى أن الحق سلطنة1، ووصفه المحقق الأصفهاني بالمعروف2، وهو تعبير آخر عن المشهور كما فهمه بعضٌ3.
وقد قيَّد بعض الفقهاء السلطنة بقيود، فالنائيني قيَّدها بالضعف ولو في بعض مراتبها، كما يظهر من عبارته التالية:«الحق سلطنة ضعيفة على المال، والسلطنة على المنفعة أقوى منها، والأقوى منهما على العين»4، في حين قيَّدها الشيخ الأنصاري بالفعلية5 ولو بالنسبة لبعض الحقوق، كما هو صريح متن المكاسب التالي «أن مثل هذا الحق6سلطنة فعلية»7.
واعتبر بعضٌ الحق نوعاً من الملك، كما هو ظاهر عبارة السيد اليزدي حيث قال «فهو مرتبة ضعيفة من الملك، بل نوع منه»8، مع أنه في مقدمة كلامه قال «الحق نوع من السلطنة»9، بل في خاتمته كأنما مزج بين الأمرين فقد قال: «الحق نحو من الملك، بل هو ملك بحسب اللغة، وكونه في مقابل الملك اصطلاح عام أو خاص، ولابد له من متعلق سواء جعلناه إضافة ونسبة بين الطرفين أو سلطنة كما في الملك»10.
وشِبْهُ ذلك ما جاء في عبارات النائيني، فهو تارة يعبِّر عنه بالسلطنة الضعيفة، كما مرّ بيانه قبل قليل، وتارة بالمرتبة الضعيفة من الملك والملكية الناقصة11، وتارة أخرى يجمع بين الأمرين من خلال تصوير الحق على أنه اعتبار خاص، كما في عبارته التالية «وكيف كان فإذا كان الحق عبارة عن اعتبار خاص الذي أثره السلطنة الضعيفة على شيء ومرتبة ضعيفة من الملك»12.
ولا شك أن ذلك ليس تهافتاً في الكلام، وإنما يرمز إلى تقرير خاص لمفهوم الحق، وقد جمعه أحد الشُّرَّاح بالكيفية التالية عند تعليقه على عبارة اليزدي حيث قال «ومقتضى تفسير الحق بالملك والملك بالسلطنة كون الحق سلطنة لا اعتباراً مغايراً للملك»13.
ومؤدى هذا الجمع أن الحق سلطنة والسلطنة هي نوع من الملك، وبعبارة إن التفسير الحقيقي للحق أنه سلطنة، والتفسير الحقيقي للسلطنة أنها ملك، وبالتالي حين يعرَّف الحق بالملك وبأنه مرتبة ضعيفة منه، فإنما يراد بذلك السلطنة لأنها في حقيقتها نوع من الملك.
ويمكن أن يكون هناك جمع آخر لا تعوزه القرائن، بل هي ترشح في كلمات الفقهاء كما هو جليٌّ للمتتبع، مؤدّاه أن الإختلاف في التعريف تابع لاختلاف الموارد، وهو مبنيٌّ على القول بالتمايز والإختلاف بين مفهوم السلطنة ومفهوم الملك، ففي موارد خاصة يكون الحق من قبيل السلطنة، وفي أخرى يكون نوعاً من الملك، وفي ثالثة يتمايز بنسبة عن السلطنة والملك، ولهذا يصبح اعتباراً خاصاً خارجاً عنهما تخصصاً.
وهذا ما مال إليه بحسب الظاهر المحقق الأصفهاني مع مزيد تفصيل، فهو لم يستبعد أن يكون الحق اعتباراً خاصاً يلتقي في بعض الصور مع السلطنة وفي بعض آخر مع الأولوية ويفترق في كثير منها، هذا ما يُلْحَظ في نص عبارته التي قال فيها «الحق مصداقاً في كل مورد اعتبار مخصوص له آثار خاصة، فحق الولاية ليس إلا اعتبار ولاية الحاكم والأب والجد، ومن أحكام نفس هذا الإعتبار جواز تصرفه في مال المولّى عليه تكليفاً ووضعاً، ولا حاجة إلى اعتبار آخر، فإضافة الحق إلى الولاية بيانية، وكذلك حق التولية وحق النظارة، بل كذلك حق الرهانة، فإنه ليس إلا اعتبار كون العين وثيقة شرعاً، وأثره جواز الإستيفاء ببيعه عند الامتناع عن الوفاء، وحق التحجير أي المسبب عنه ليس إلا اعتبار كونه أولى بالأرض من دون لزوم اعتبار آخر، وحق الاختصاص في الخمر ليس إلا نفس اعتبار اختصاصه به في قبال الآخر، من دون اعتبار ملك أو سلطنة له، وأثر الأولوية والاختصاص عدم جواز مزاحمة الغير له.
نعم لا بأس بما ساعد عليه الدليل من اعتبار السلطنة فيه كحق القصاص، حيث قال عز من قائل ﴿ … فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا … ﴾ 14، وكذا لو لم يكن هناك معنى اعتباري مناسب للمقام كما في حق الشفعة، فإنه ليس إلا السلطنة على ضم حصة الشريك إلى حصته بتملّكه عليه قهراً، فإن الشفع هو الضم، والشفعة -كاللقمة- كون الشيء مشفوعاً، أي مضموماً إلى ملكه، ولا معنى لاعتبار نفس الشفعة، وإلا كان معناه اعتبار ملكية حصة الشريك، مع أنه لا يملك إلا بالأخذ بالشفعة لا بمجرد صيرورته ذا حق.
وكذا حق الخيار هو السلطنة على الاختيار -وهو ترجيح أحد الأمرين من الفسخ والامضاء- لا اعتبار كونه مختاراً، فإنه في قوة اعتبار كونه مرجحاً أي فاسخاً أو ممضياً، مع أنه لا فسخ ولا إمضاء بمجرد جعل الحق، نعم ليس حق الخيارملك الفسخ والامضاء معاً وإلا نفذ امضاؤه وفسخه معاً، مع إنه لا ينفذ منه إلا أحدهما، وكذا السلطنة فإن حالها حال الملك، ولا أحد الأمرين من الفسخ والإمضاء، فإن أحدهما المردد لا ثبوت له حتى يتقوّم به الملك والسلطنة، بل الملك أو السلطنة يتعلق بترجيح أحد الأمرين على الآخر، فالمقوّم لاعتبار الملك أو السلطنة أمر واحد وهو ترجيحه لأحد الأمرين»15.
فظاهر هذه العبارة بطولها صريح في أن الحق اعتبار خاص يلتقي مع السلطنة والأولوية ويفترق، وثمة من قال بالإعتبار الخاص أيضاً لكن بالشكل الذي لا يلتقي مع السلطنة ولا الملك، كما هو صريح عبارة الإمام الخميني التي أشكل فيها على ما استنتجه المحقق الأصفهاني، فهو يذهب إلى أن الحق بحسب المفهوم العرفي والمرتكز العقلائي له معنى واحد، وهو اعتبار خاص يختلف عن اعتبار الملك أو السلطنة، ولهذا فقد جعل الحقوق التي عدّها الأصفهاني بعنوان حقيقة أخرى غير السلطنة خارجة عن الحقوق من رأس، لا أنها حق ولكنه مغاير للسلطنة أو الملك، ومثّل لذلك بالولاية وقال أنها أمر اعتباري لدى العقلاء مجعول بذاته غير الحق والملك والسلطنة16.
وقد تعرَّض بعض تلامذته بالشرح لمبررات هذا القول، وكان أهمها أن الحق ليس سلطة بل السلطة جزء من موضوع الحق، أي أنها في بعض الموارد أثر من آثاره لا أنها هو حقيقةً، «فكما أن المالكية منشأ للسلطة، كذلك الأمر في كونه صاحب حق هو منشأ للسلطة أيضاً»17. وهذا المبرر قريب من تعريف الآخوند الخراساني لمفهوم الحق، فقد ذهب إلى أن «الحق بنفسه ليس سلطنة، وإنما كانت السلطنة من آثاره، كما أنها من آثار الملك، وإنما هو اعتبار خاص له آثار مخصوصة، منها السلطنة على الفسخ كما في حق الخيار، أو التملك بالعوض كما في حق الشفعة، أو بلا عوض كما في حق التحجير،»18.
ومن المبررات أيضاً أن الحق ليس ملكاً، لأنه في بعض الأحيان يكون هناك حق من دون أن يوجد ملك، مثل حق السبق في المسجد9.
وقد نوقشتْ جميع هذه الأقوال بمناقشات نقضية استقرائية أو تفسيرية، عبر تتبع مصاديق الحقوق والنظر في مستوى تطابقها مع التعريفات، من جهة جمع تلك التعريفات للأفراد وطردها للأغيار، أو النظر في مستوى دلالتها على مفهوم الحق19.
والإنصاف أن جميع الآراء المذكورة ليست بمنأى عن الحق، وإن لم تكن متطابقة معه من جميع الجهات، أي أنها صحيحة في الجملة.
والأقرب أن الحق قد يكون فعلاً في بعض الموارد بمعنى السلطنة، وفي أخرى بمعنى الملك، وفي ثالثة بمعنى الأولوية، وفي رابعة بمعنى مغاير للثلاثة، ويمكن الوقوف على ذلك من خلال التأمل في مصاديق الحقوق، ففيها ما ينطبق على كل ذلك، بل فيها أيضاً ما ينطبق على أكثر من معنى في آن.
وكل ذلك لا يكون أيضاً بمعزل عن معادلة الزمان والمكان ونوعية الأعراف والقوانين الإجتماعية، فبالنسبة لبعض الحقوق المستجدة قد تعطي الأعراف أو القوانين مساحة خاصة لممارسة الحق ليست من جنس السلطنة ولا الملك ولا حتى الأولوية، في الوقت نفسه الذي تعتبر فيه تلك المساحة حقاً 20.
- 1. هدى الطالب إلى شرح المكاسب، السيد محمد المروِّج، ج1 ص130، طليعة النور، الطبعة الأولى 1428هـ.
- 2. حاشية كتاب المكاسب، مصدر سابق، ج1 ص41.
- 3. فقه العقود، مصدر سابق، ج1 ص112.
- 4. منية الطالب في شرح المكاسب، الشيخ موسى النجفي، تقريراً لأبحاث المحقق محمد حسين النائيني، ج1 ص106، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين-قم، الطبعة الثانية 1424هـ.
- 5. ويقصَد بالفعليّة ما يقابل الشأنية، فالصبي والسفيه سلطتهما على أملاكهما شأنية، فهما وإن كانا مالكين لكن لا قدرة لهما فعلاً على التصرف في تلك الأملاك بسبب الحجر، بينما الفعلية تتضمّن القدرة على التصرف الفعلي. أنظر هدى الطالب إلى شرح المكاسب، السيد محمد المروِّج، ج1 ص98، طليعة النور-قم، الطبعة الأولى 1428هـ.
- 6. يقصُد حق الخيار والشفعة.
- 7. كتاب المكاسب، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج3 ص8، مجمع الفكر الإسلامي-قم، الطبعة الثامنة 1427هـ.
- 8. حاشية كتاب المكاسب، السيد محمد كاظم اليزدي، تحقيق الشيخ عباس آل سباع، ج1 ص280، دار المصطفى لإحياء التراث، الطبعة الأولى 1423هـ.
- 9. a. b. المصدر نفسه.
- 10. حاشية كتاب المكاسب، مصدر سابق، ج1 ص288.
- 11. هدى الطالب إلى شرح المكاسب، مصدر سابق، ج1 ص132.
- 12. منية الطالب في شرح المكاسب، مصدر سابق، ج1 ص107.
- 13. هدى الطالب إلى شرح المكاسب، ج1 ص131.
- 14. القران الكريم: سورة الإسراء (17)، الآية: 33، الصفحة: 285.
- 15. حاشية كتاب المكاسب، مصدر سابق، ج1 ص44.
- 16. أنظر كتاب البيع، الإمام الخميني، ج1 ص22. نقلاً عن فقه العقود، مصدر سابق، ج1ص118.
- 17. الفقه والقانون مقاربات في خطابي الحق والواجب، حوار مع آية الله كرامي، ج1 ص100، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي- بيروت.
- 18. حاشية المكاسب، الآخوند الخراساني، ص4، وزارة الإرشاد الإسلامي، الطبعة الأولى 1406هـ.
- 19. للوقوف على المزيد من التفاصيل يمكن مراجعة هدى الطالب إلى شرح المكاسب، للسيد محمد المروِّج، مصدر سابق، ج1 ص130-139. وفقه العقود، للسيد كاظم الحائري، مصدر سابق، ج1 ص111-123. وحواشي المكاسب المشار إليها في حواشي هذا الكتاب.
- 20. نشرت هذه المقالة في الموقع الرسمي لسماحة الشيخ فيصل العوامي حفظه الله.