جرت العادة عند الشعوب والأمم مع بداية كلّ عام أن تتخذ من هذه المناسبة منطلقاً للدخول إلى العام الجديد، فيستقبلونه بالحفلات والأفراح على أمل أن يحمل إليهم ما يعينهم على تحقيق آمالهم وأمانيهم، أما الشيعة الإمامية الإثني عشرية، فإنّ لهذه المناسبة عندهم معنى آخر، ولديهم طريقة مختلفة تماماً في التعامل معها، ولعلّهم الوحيدون في هذا العالم الذين لا يعرفون للفرح في ذلك اليوم معنى، وهذه ميزة امتاز بها الشيعة عن غيرهم عبر العصور الإسلامية، وبالتحديد منذ واقعة كربلاء التي سُفِكت فيها دماء الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه على يد الجيش الأموي في زمن يزيد بن معاوية.
ولهذا فإنّ شيعة الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل البيت عموماً، تبتدئ سنتهم بموسم الأحزان والدموع، بحيث يشعر المتأمّل بأنّ العزاء هو في كلّ بيتٍ من بيوتهم، وكأنّهم فقدوا أولادهم وأهلهم وأحبّتهم، فيقيمون المآتم والمجالس، وينشرون علامات السواد في البيوت والشوارع والأحياء، للتعبير عن الحزن والأسى الذي تختزن صدورهم، وكأنّ لسان حالهم يقول: (يا ليتنا كنا معكم سيدي فنفوز فوزاً عظيماً).
إنّ هذا التفاعل، عبر فيضٍ من المشاعر والأحاسيس الوجدانية المنغرسة في أعماق النفوس من أتباع أهل البيت (عليهم السلام) لعب دوراً أساسياً ومهمّاً في مسيرة الأمّة الإسلامية منذ تلك الواقعة الفاجعة وحتّى اليوم، بل يمكن القول وبكلّ جرأة وصراحة بأنّ بقاء الإسلام كدينٍ حي وفاعل حتى عند غير الشيعة الإمامية كان الثمرة الأبرز من ثمار عاشوراء ومجالسها المحياة عبر التاريخ، لأنّ ذكرى الحسين (عليه السلام) كانت السبب الأساس، في حملهم لقضية الإسلام المحمدي الأصيل، والدفاع عنه بوجه كلّ المغرضين والمشكّكين، وهي التي كانت السبب في حملهم للواء المعارضة ضدّ كلّ الحكام الذين حكموا باسم الإسلام زوراً وبهتاناً، ومعارضتهم هي التي كانت تدفع بالحكّام بأن يحافظوا على الكثير من الشعائر الإسلامية خوفاً من الإفتضاح علي يد هذه الجماعة المعارضة التي حملت دماءها على أكفّها واستلّت السيف والقلم للدفاع عن العقيدة الإسلامية بلا مساومة أو مهادنة أو استسلام للظروف.
لهذا تعرّضت هذه الطائفة لشتّى أنواع الإتهامات، في عقيدتها تارة، وفي أحكامها تارةً أخرى، بل صار لقب “الروافض” هو الإسم الذي يطلق عليهم، لأنّهم رفضوا الدخول في طاعة الحكّام الظالمين، حتّى وصل الأمر إلى جعلهم من أتباع “عبد الله بن سبأ” وهو شخصية وهمية مخترعة لا وجود لها في التاريخ لتشويه السمعة والحط من القدر والقيمة، لمنع تأثير هذه الفئة من المسلمين الأحرار في أهل المذاهب الأخرى، وهنا لا بدّ من إلفات النظر إلى الدور السلبي والخطير الذي لعبه وعاظ السلاطين من علماء السوء الذين كانوا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً لترويج دعايات الحكام وأكاذيبهم بين العوام من المسلمين حتّى لا يقيموا أيّ اتصالٍ بالشيعة.
وليت القضية وقفت عند هذا الحد، بل تجاوزتها إلى افتعال الأحداث لتبرير المجازر التي ارتكبت بحقّ هذه المجموعة من المسلمين، ومع هذا لم يتنازلوا ولم يرضخوا، واستعملوا أسلوب التقية كسلاح يقيهم جور الحكام الظالمين الذين لم يتركوا فرصة إلاّ استغلّوها لفرض إرادتهم وطريقتهم على الشيعة.
إلاّ أنّ تلك الأجواء المحمومة والمشحونة كلّها لم تستطع أن تنال من عزيمة أهل التشيّع عبر العصور، بل ازدادوا إصراراً على التمسّك بالنهج العلوي الحسيني، حتّى أنّهم دفعوا أثماناً غالية من الدماء العزيزة التي لم يخجلوا بها، بل كيف يخجلون وهم أتباع الأئمة (عليهم السلام) أطهر أفراد البشر وأقدسهم على الإطلاق في هذه الأرض الذين رفضوا أن يبيعوا الأمانة الإلهية والإرث النبوي بأيّ ثمنٍ للحكام، ووقفوا مواقف المعارضة الشريفة والنبيلة لكلّ ما قام به أولئك لتحريف العقيدة وتشويه صورتها بالقلوب والنفوس، حتّى ورد عنهم صلوات الله عليهم: “ما منا إلاّ مقتولٌ أو مسموم”.
وهكذا، لم تضعف الهمة ولا العزيمة عند أتباع خط الأئمة (عليهم السلام)، بل جاهدوا وصبروا على كلّ أنواع البلاء والمصائب التي مرّت عليهم، حتّى يئس الآخرون من التأثير عليهم، وسقطت كلّ مقولات الترغيب والترهيب أمام ذلك الإصرار المشبع بحرارة دماء الحسين (عليه السلام) الذي صبر على القتل في سبيل الله، بل أقدم عليه بكلّ نفسٍ مطمئنّة وقلبٍ جريء، لعلمه بأنّ ذلك في طريق رضا الله سبحانه وتعالى، وحفظاً للإنجازات العظيمة المتحقّقة على يد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، ووفاءً للصبر العظيم الذي صبره أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يدافع عن دين الله ورسالته.
وها هي عاشوراء، تطلّ علينا هذا العام، في ظلّ الأجواء القائمة المخيمة على المنطقة والعالم الإسلامي، بعد سلسلة مأساوية من التطوّرات التي أفقدت الأمّة الكثير من قدراتها وطاقاتها، وجعلها تحت القبضة والهيمنة الأمريكيتين بشكلٍ مباشر عملياً، وفي ظلّ السعي الجاري للإعتراف بإسرائيل “جرثومة الفساد”، فإنّنا أحوج ما نكون لأن نتمسّك بالروح الثورية الحسينية الرافضة لكلّ أنواع الذلّ والهوان، وليكن شعارنا في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الأمّة هو “هيهات منّا الذلّة” يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وعلينا أن نحمل سيوفنا على عواتقنا ودماءنا على أكفّنا ضدّ كلّ هذه الأجواء التي تريد إماتة روح الجهاد والثورة والتضحية من النفوس.
وها هو نداء كربلاء “هل من ناصرٍ ينصرنا” يقترب منا مع اقتراب موعد الذكرى، فهل نجيب ونلبي النداء؟ إنّه سؤال موجّه إلى كلّ فردٍ من أفراد الأمّة الإسلامية وإلى محبّي الحسين (عليه السلام) وعاشقي طريق الحياة الخالدة في الدنيا والآخرة.
فهيا أيّها الأخوة المجاهدون الحسينيون الكربلائيون لتلبية النداء الحسيني العلوي المحمدي، فالمسألة كما قال الإمام الخميني العظيم (قدس سره): (الموت الأحمر أفضل بكثير من الحياة السوداء).
والحمد لله ربّ العالمين1.
- 1. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ محمد توفيق المقداد حفظه الله.