نص الشبهة:
قال: ولكتب الشيعة في حيلة التقية غرام قد شفعها حبا الخ.
الجواب:
(فاقول): ان اخواننا من اهل السنة ـ اصلح الله شؤونهم ـ يستفظعون امر التقية، وينددون بها، ويعدونها وصمة في الشيعة، مع ان العمل بها عند الخوف على النفس أو العرض أو المال مما حكم بوجوبه الشرع والعقل، واتفقت عليه كلمة اولي الالباب من المسلمين وغيرهم، فالتقية غير خاصة بالشيعة وان توهم ذلك بعض الجاهلين، وقد هبط بها الروح الامين، على قلب سيد النبيين والمرسلين صلى الله عليه وآله فتلا عليه ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾ 1 وتلا عليه مرة اخرى ﴿ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ 2.
والصحاح الحاكمة بالتقية عند الاضطرار إليها متواترة، ولا سيما من طريق العترة الطاهرة، وحسبك ما صح على شرط الشيخين، عن ابي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن ابيه 3 قال: اخذ المشركون عمارا فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وآله وذكر آلهتهم بخير ثم تركوه، فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وآله قال: ما وراءك؟ قال: شر يا رسول الله ما تركت حتى نلت منك، وذكرت آلهتهم بخير، قال صلى الله عليه وآله: كيف تجد قلبك قال: مطمئن بالايمان، قال صلى الله عليه وآله: ان عادوا فعد، وصح على شرط الشيخين ايضا عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: ﴿ … إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً … ﴾ 1 قال: التقاة التكلم باللسان، والقلب مطمئن بالايمان، فلا يبسط يده فيقتل الحديث 4.
قلت: هذا حكم الشرع كتابا وسنة، والعقل بمجرده حاكم بهذا لو كانوا ينصفون.
وقد مني الشيعة بملوك الجور، وولاة الظلم، فكانوا يسومونهم سوء العذاب يقطعون ايديهم وارجلهم، ويصلبونهم على جذوع النخل، ويسملون اعينهم، ويصطفون اموالهم، كانت سياستهم الزمنية تقتضي هذه الجرائم، وكانوا يعولون في ارتكابها على الظن والتهمة، وكان قضاتهم من علماء السوء والتزلف، يتقربون إليهم بما يبيح لهم ما كانوا يرتكبون، فاضطرت الشيعة وائمة الشيعة عندها إلى التقية مخافة الاستئصال جريا على قاعدة العقلاء والحكماء والاتقياء في مثل تلك الشدائد، وكان عملهم هذا دليلا على عقلهم وحكمتهم وفقههم، وما كان الله عزوجل ليمنعهم ـ والحال هذه ـ من التقية وهو القائل تبارك اسمه ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا … ﴾ 5
﴿ … وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ … ﴾ 6
﴿ … يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ … ﴾ 7
﴿ … لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا … ﴾ 8
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: بعثت بالحنيفية 9 السمحة السهلة. لكن اهل البطر يعدون التقية من مساوي الشيعة ـ فويل للشجي من الخلي ـ ولو ابتلوا بما ابتلي به الشيعة لأخلدوا إلى التقية، وقبعوا فيها قبوع القنفذ، كما فعل اهل السنة إذ اتقوا شر جنكيزخان وهلاكو حقنا لدمائهم، وما يصنع الضعيف العاقل إذا ابتلي بالشديد الغاشم، ولما دعا المأمون إلى القول بخلق القرآن اجابه كثير من ابرار اهل السنة إلى ذلك بألسنتهم، وقلوبهم منعقدة على القول بقدمه، فأظهروا له خلاف ما يدينون به تقية منه، كما يفعله المسلمون اليوم في الحجاز، حيث لا يتظاهرون بالاقوال والاعمال التي لا تجوز شرعا في مذهب الوهابية، كزيارة قبور الاولياء، وتقبيل الضريح النبوي الاقدس، والتبرك به وكالاستغاثة بسيد الانبياء، والتوسل به إلى الله عزوجل في غفران الذنوب، وكشف الكروب، فان الحجاج وغيرهم من سنيين وشيعيين لا يتظاهرون بشئ منها تقية من الفتنة وخوفا من الاذى، بل لا يتظاهرون بالادعية المستحبة عندهم في تلك المواقف الكريمة والمشاهد العظيمة، عملا بالتقية.
وذكر ابن خلدون في الفصل الذي عقده لعلم الفقه من مقدمته الشهيرة مذاهب اهل السنة، وانتشار مذهب ابي حنيفة في العراق، ومذهب مالك في الحجاز، ومذهب احمد في الشام وفي بغداد، ومذهب الشافعي في مصر، وهنا قال ما هذا لفظه: ثم انقرض فقه اهل السنة من مصر بظهور دولة الرافضة وتداول بها فقه اهل البيت، وتلاشى من سواهم، إلى ان ذهبت الدولة العبيديين من الرافضين على يد صلاح الدين يوسف بن ايوب ورجع إليهم فقه الشافعي اه.
قلت: من تأمل بهذا علم ان اهل السنة في مصر اخذوا بالتقية ايام الفاطميين اكثر مما اخذ بها الشيعة ايام معاوية ويزيد وبني مروان والعباسيين والسلجوقيين والايوبيين والعثمانيين وغيرهم وشتان بين خوف اهل مصر من الفاطميين، وخوف الشيعة من تلك الدول، ولا سيما الدولة الاموية، فقد كان ملوكها وعمالها وعلماؤها ورؤساؤها والعامة باجمعها لا يتحملون ولا يطيقون ذكر الشيعة، وكانت الكلمة متفقة على سحقهم ومحقهم فلولا خلودهم إلى التقية ما بقيت منهم هذه البقية، فاي مسلم أو غير مسلم يرتاب في جوازها لهم؟ ولا سيما بعد ان صدع القرآن بها، ونص في آيتين محكمتين على اباحتها، ومن يشك في ذلك بعد ان قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعمار: ان عادوا فعد، وإذا جاز لعمار ان يعود إلى سب النبي تقية فأي شئ بعد هذا لا تبيحه التقية؟. على ان النفوس بفطرتها مجبولة عليها في مقام الخوف، كما لا يخفى على كل ذي نفس ناطقة وموسى جار الله ندد اولا بها ثم اعترف، فقال ما هذا لفظه: نعم التقية في سبيل حفظ حياته وشرفه، وفي حفظ ماله وفي حماية حق من حقوقه واجبة على كل احد اماما كان أو غيره.
قلت: تعالوا وانظروا بمن ابتلاني، كأن الشيعة وأئمتهم يأخذون بالتقية حيث لا خوف على حياتهم، ولا على شرفهم، ولا على مالهم، ولا على شئ من حقوقهم، الحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به هذا الرجل من الحمق، ولو شاء لفعل.
واحمق من كلمته هذه تسوره على مقام الائمة من آل محمد إذ يقول: اما التقية بالعبادة بان يعمل الامام عملا لم يقصد به وجه الله، وانما أتاه وهما خوفا من سلطان جائر، والتقية بالتبليغ بان يسند الامام إلى الشارع حكما لم يكن من الشارع، فان مثل هذه التقية لا تقع ابدا اصلا من امام له دين، ويمتنع صدروها من امام معصوم، وحمل رواية الامام وعبادة الامام على التقية طعن على عصمته، وطعن على دينه، إلى آخر هذيانه في طغيانه، وكأنه وجد مما تؤاخذ عليه ائمة العترة في عملهم بالتقية امرين.
احدهما انهم كانوا يعملون اعمالا لا يقصدون بها وجه الله وانما يعملونها خوفا من الجائر. والجواب: ان هذا خطأ واضح، فانهم عليهم السلام كانوا يقصدون وجه الله في كل ما يعملون، واخذهم بالتقية كان من افضل اعمالهم التي قصدوا بها وجه الله، لانها السبب الوحيد في حياتهم وحياة شيعتهم، وبها كان احياء امرهم، وانتشار دعوتهم، ولو قلنا لحضرة هذا ـ الفيلسوف ـ دلنا على مورد من اعمالهم التي لم يقصد بها وجه الله لاحرجنا موقفه.
الثاني انهم كانوا يسندون إلى الشارع على سبيل التقية احكاما لم تكن صادرة منه على مذهبهم ومعتقدهم، وهذا مما لا تبيحه التقية لامام له دين.
والجواب: ان هذا كسابقه خطأ واضح، فان أئمة اهل البيت اعدال الكتاب، وبهم يعرف الصواب، وكانوا ذوي مذهب تلقوه عن جدهم رسول الله صلى الله عليه وآله، وكان من مذهبهم ان التقية تبيح بالمسائل الخلافية ان يفتوا اهل الخلاف لهم بما جاء عن أئمتهم، ويفتوا شيعتهم بما يرونه الحق في مذهبهم، فتعارض النقل عنهم بسبب ذلك، لكن العلماء من اوليائهم، العارفين بأسرارهم، محصوا تلك الاحكام المأثورة عنهم في الاخبار المتعارضة، فعرفوا ما كان منها لمخالفيهم فصرحوا بحمله على التقية، وما كان منها لاوليائهم فتعبدوا به.
اما ما اقترحه موسى جار الله على ائمة اهل البيت من السكوت عن الفتوى في مقام التقية ففي غير محله، لان الله عزوجل اخذ على امثالهم ان يصدعوا باحكامه، ويبينوا للناس ما اختلفوا فيه من شرائعه، وقد فعلوا ذلك ببيانها لاوليائهم على ما يقتضيه مذهبهم، واضطروا إلى بيانها لمن سألهم عنها من مخالفيهم على ما تقتضيه مذاهب المخالفين لهم، ولو لم يؤثر عنهم الثاني لحلت بهم اللاواء، ونزل بهم البلاء، وإذا اباحت التقية لعمار ما اباحته من سب رسول الله وذكر الاوثان بخير كما سمعت، فبالاحرى ان تبيح للامام افتاء مخالفيه بما تقتضيه مذاهبهم، واي مانع من هذا يا مسلمون؟.
قال موسى جار الله: وعلي امير المؤمنين عليه وعلى اولاده السلام كان يحافظ على الصلوات، ويراعي الاوقات، ويحضر الجماعات، ويصلي المكتوبات، ويصلي صلاة الجمعة مقتديا خلف الاول والثاني والثالث كان يقصد بها وجه الله فقط، ولم يكن يصلي صلاة الا تقربا وتقوى واداء الخ.
قلت: حاشا امير المؤمنين ان يصلي الا تقربا لله واداء لما امره الله به، وصلاته خلفهم ما كانت الا لله خالصة لوجهه الكريم، وقد اقتدينا به عليه السلام فتقربنا إلى الله عَزَّ و جَلَّ بالصلاة خلف كثير من ائمة جماعة اهل السنة، مخلصين في تلك الصلوات لله تعالى، وهذا جائز في مذهب اهل البيت، ويثاب المصلي منا خلف الامام السني كما يثاب بالصلاة خلف الشيعي، والخبير بمذهبنا يعلم انا نشترط العدالة في امام الجماعة إذا كان شيعيا، فلا يجوز الائتمام بالفاسق من الشيعة ولا بمجهول الحال، اما السني فقد يجوز الائتمام به مطلقا 10.
- 1. a. b. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 28، الصفحة: 53.
- 2. القران الكريم: سورة النحل (16)، الآية: 106، الصفحة: 279.
- 3. فيما اخرجه الحاكم في تفسير الآية من سورة النحل من من صحيحه المستدرك ص 357 من جزئه الثاني وصرح بانه صحيح على شرط الشيخين واورده الذهبي في تلخيصه مصرحا بصحته على شرطهما ايضا.
- 4. اخرجه الحاكم في تفسير الآية من سورة آل عمران من مستدركه ص 291 من الجزء الثاني مصرحا بصحته على شرط الشيخين، واورده الذهبي في التلخيص مصرحا بصحته على شرطهما ايضا.
- 5. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 286، الصفحة: 49.
- 6. القران الكريم: سورة الحج (22)، الآية: 78، الصفحة: 341.
- 7. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 185، الصفحة: 28.
- 8. القران الكريم: سورة الطلاق (65)، الآية: 7، الصفحة: 559.
- 9. قال ابن الاثير عند ذكر هذا الحديث في مادة حنف من النهاية والحنيف عند العرب من كان على دين ابراهيم.
- 10. أجوبة مسائل جار الله، بقلم سماحة آية الله السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي، الطبعة الثانية 1373 ه مطبعة العرفان ـ صيدا. 1953 م، ص 78 ـ 87، المسألة العاشرة.