قال الله تعالى: ﴿ … إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ … ﴾ 1.
تحصر الآية الكريمة حالة الخشية من الله بأنّها عند العلماء فقط من الناس، وفي هذا إشارة واضحة إلى أنّ غير العالم لا يمكن بسبب جهله أن يعيش هذه الحالة المعنوية الكبيرة التي تحتاج إلى وضوح الرؤية وسلامة النفس وقوّة الإرادة، وهذه المواصفات يمكن أن تتوافر في العالم بالدرجة الأولى لأنّه بما يحمله من علمٍ يفتح أمامه الآفاق ويدرك به عواقب الأمور ويستطيع أن يكون كذلك، ومن هنا نرى أنّ الله عزّ وجل يستنكر على من يحاول أن يضع العالم وغيره في منزلةٍ واحدة وفي مرتبةٍ سواء حيث يقول: ﴿ … هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ … ﴾ 2.
ولا شكّ أنّ العالم له درجات ومراتب، فالأنبياء علماء، والأئمّة علماء، والفقهاء علماء، مع ما بين أصحاب هذه المراتب من الإختلاف على مستوى القابليات والقدرات الإيمانية الذاتية. ولمكان علم هؤلاء جميعاً جعلهم الله سبحانه وتعالى من جملة الشهود على وحدانيته وذلك في قوله تعالى: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ … ﴾ 3، وهذه الآية تدلّ بوضوحٍ على المكانة العظيمة للعلم ولمن يحملونه عند الله.
ولا تقتصر أهمية العلم على تقويمه الذاتي، بل لما يؤدّي من دور خطير وكبير جداً في حياة البشرية، حيث له الفضل الأساس في سلامة المسيرة الإنسانية وصيانتها من الإنحراف عندما تلتزم الناس بما يصدره من أحكام وقوانين تجعل الحياة الإجتماعية العامّة في مورد التطابق مع الأهداف الإلهية المطلوب من البشر السعي للوصول إليها في الدنيا.
إلاّ أنّ للعلم من منظار إلهي شرطاً رئيساً لا بدّ من وجوده، ولا بدّ من الإتصاف والتحلّي به وهو “الخشية من الله” ليكون ذلك العلم علماً إلهياً لا علماً دنيوياً بحتاً، ولتكون تلك الخشية واسطة لقبول العالم على مستوى ما يعطيه للناس من أحكام وتشريعات، باعتبار أنّ الخشية بما تعنيه من رعاية شاملة ومراقبة ذاتية دائمة وانضباط كامل على مستوى الفكر والسلوك الذاتي لمن يعيشون هذه الحالة الإيمانية والمعنوية العالية، فإنّ كلّ هذا الجو ينعكس في قلوب الناس وعقولهم ويتحوّل إلى عامل ثقة واطمئنان نفسيين عندهم، ممّا يدفعهم بالتالي إلى الإلتزام بالعلماء وبكلّ ما يصدر عنهم من أحكامٍ تحدّد للناس طريقة التعامل مع كلّ القضايا والأحداث الكبيرة منها والصغيرة على حدٍّ سواء.
من هنا نرى أنّ خط المرجعية في زمن الغيبة الكبرى قد استطاع أن يصل إلى المقام المؤهّل للدفاع عن التراث الإلهي العام، والإسلامي منه على وجه الخصوص، وذلك لأنّ المراجع العظام عبر التاريخ قد استطاعوا أن يتمثّلوا ويطبّقوا في الواقع الحركي الذي عاشوه تلك الخشية المتعالية من الله على اختلاف المؤامرات والمحن والضغوطات التي كانوا يتعرّضون لها، وكانوا في مواجهة كلّ ذلك الوضع المأساوي يستعينون بالخشية من الله لكي لا يعيشوا الخوف ثمّ السقوط أمام كلّ الواقع الظالم والضاغط.
ولأجل ذلك كلّه، نرى التفاعل الكبير والتكامل الرائع ما بين العلماء والمراجع الذين يجسدون تلك الخشية من الله في حياتهم وبين الأمّة الإسلامية، ذلك لأنّ موقعية المرجعية المتّصفة بذلك الوصف الربّاني هي الحصن المنيع والسدّ القوي المحكم الذي لا يستطيع أحد اختراقه ليتسلّل منه إلى تلك المقامات الرفيعة وليعمل بالتالي على الإنحراف بالأمّة عن صراطها وأهدافها، بل سرعان ما كان أمثال هؤلاء يكشفون أنفسهم من خلال عدم الإتّصاف بذلك الوصف فكانت الأمّة تعزلهم باجتنابها لهم وعدم الإستماع أو الإتّباع لتوجيهاتهم.
وهذه الثقة الرفيعة التي اكتسبها خطّ المرجعية النائب عن الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) قد استطاع أن يجسّد كلّ القيم والمثل الإنسانية من منظارها الإسلامي من دون تهاون أو مساومة، واكتسب بذلك موقعيته الريادية المعنوية في قلوب الناس الذين صاروا ينظرون إلى كلّ من يتمثّل هذه الموقعية على أنّه قريب من مقام الإمامة أو النبوّة، ويتعاملون معه على أنّه صاحب القرار الأول والأخير فيما يرجع إلى الشؤون الخاصة والعامة، ويسمعون له ويطيعون، ويعتبرون أنّ عدم الإنصياع والطاعة له جريمة كبيرة وخطيئة عظمى.
ولهذا تشعر الأمّة مع فقدِ ورحيل كلّ واحد ممّن يمثّل خطّ المرجعية أنّه خسارة كبيرة للأمّة، ولهذا نراها تعيش هذا الحدث بشكلٍ يتناسب مع أهمية الموقعية المميزة لتعبّر بذلك عن عمق الإرتباط وصدق الولاء بطريقةٍ عاطفية مؤثرة ناتجة عن عقائدية واعية لأهمية المنصب وما يمثّله في واقع الأمّة ومسيرها.
والحمد لله رب العالمين4.
- 1. القران الكريم: سورة فاطر (35)، الآية: 28، الصفحة: 437.
- 2. القران الكريم: سورة الزمر (39)، الآية: 9، الصفحة: 459.
- 3. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 18، الصفحة: 52.
- 4. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ محمد توفيق المقداد حفظه الله.