مقال قيم لسماحة العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي ( حفظه الله ) يتناول فيه شيئاً من مواقف بطلة كربلاء العقيلة زينب بنت علي ( عليه السَّلام ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
و الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على محمد و آله الطيبين الطاهرين .
ليس غريباً إذا قلنا : إننا حينما نتمثل المرأة بشكل طبيعي . . فإنما نتمثل هذا الموجود الضعيف الطيب ، الذي يفيض رقة و حناناً . . و لربما لا يخطر لنا على بال أن نجد لها من المواقف و الأدوار إلا ما ينسجم مع تلك الرقة ، و يتلاءم مع ذلك الحنان . . و أما أن نتوقع منها المواقف الجريئة ، و الحازمة ، فربما ، و لكن لا إلى الحد الذي تجاري فيه الرجل مثلاً عموماً . .
هذا . . و أما المرأة في عالم اليوم . . بعد أن طغت عليها المادة و غرقت في حمأة الشهوات ، حتى أصبحت مثال المهانة و الابتذال ، بأجلى صوره و أدق معانيه . . ـ إذا أردنا أن نتمثلها ـ فإنما نتمثل ذلك الموجود الذي فقد كل شيء ، و لم يعد يملك ما يعتز به ، إلا عنصر الأنوثة الطاغي . .
نعم . . لم يعد لديها مما تعتز به إلا أنوثتها ، و بأنوثتها هذه تستدر العطف و الرحمة ، و بها تحصل على المال . . و بها و على أساسها تحاول التغلب على كل مشاكل الحياة ، و هي دون غيرها أصبحت تشكل أساس تعاملها مع الرجل ، و أساس كل روابطها به . . و أصبح ذلك هو عالمها الذي تعيش فيه ، و تدور في فلكه ، و تهيم في أجوائه . . و تقيّم كل الأمور على أساسه . . فترتبط بها أو تنفصل عنها من هذا المنطلق ، و على هذا الأساس . .
و لقد غاب عنها ـ مع كل أسف ـ أن هذا الشيء الذي ربطت حياتها و مستقبلها و مصيرها به لا يلبث أن يتلاشى و ينعدم ، و لتواجه من ثم مصاعب الحياة و مصائبها ، و هي لا تملك ـ بعد فقدها إياه على حسب منطقها ـ أي رصيد تستطيع أن تعتمد عليه في دفع الضرر عن نفسها ، أو على الأقل في تخفيف مشاكلها . .
لأن الرجل . . الذي زين لها و دفعها بشكل أو بآخر لأن تعتبر أنوثتها هي كل ما تملك ، و هي ما تستطيع فقط أن تعتمد عليه ، إنما أراد ـ و هو الذي لا مبدأ له إلا المال و اللذة ، و لا دين له إلا شهوته و مصلحته ـ أراد أن يتاجر بهذه الأنوثة و يستفيد عن طريقها المال . . أو يحصل على اللذة . . حتى إذا ذوت تلك الزهرة و ذبلت ذهب ليبحث عن غيرها ، مما يحقق له مآربه ، و يوصله إلى أهدافه . . بأساليب أمكر ، و بتصميم أكثر و أكبر . . و ليتركها هي في منتصف الطريق ، وحيدة فريدة ، رهينة البلاء و الشقاء ، و أسيرة التعب و العناء . . لأنها قد ضحت بكل شيء في سبيل لا شيء .
و الغريب في الأمر . . أنها لم تستطع أن تدرك أيضاً : أن هذه الأنوثة ، و ذلك الجمال لم تحصل عليه باختيارها . . فاعتزازها إذن بأمر لا قدرة لها فيه و لا اختيار لها معه لا معنى له ، و لا منطق يساعده . . كما أنه لا مبرر لان تأخذ على أساسه امتيازاً حتى و لو أدبياً تحرم منه مثيلاتها ممن لم يسعفهن الحظ بجمال بارع ، أو أنوثة صارخة . .
نعم . . لقد أصبحنا نجد أن المرأة في عالم اليوم لا تهتم إلا بما يبرز معالم فتنتها ، و يزيد من أنوثتها . . فهي تعيش في عوالم الأزياء ، و المساحيق ، و الموضة . . و تخشى باستمرار أن يسبقها الزمن ، و تتجاوزها الأيام . . فتفقد أعز شيء تملكه أو يفوتها الموديل الذي سوف تعتز به ، أو فقل تستعين به على إظهار ما تعتز به ، و عرضه في سوق المتاجرة فيما لا ينفع و لا يجدي ، و لا يجر على الإنسانية أي نفع أو فائدة إن لم يكن عكس ذلك هو الصحيح . .
أما الإسلام . . هذا الدين السماوي الخالد ، فلقد ألغى كل الامتيازات القائمة على أساس الفتنة و الإغراء ، و الاعتزاز بالأنوثة .
و اعتبر أن أساس التفاضل بين بني الإنسان هو التقوى و رضا الله و الأخلاق الرفيعة و الفاضلة الرضية ، نعم لقد جعل العمل هو الميزان و المقياس و جعل الأساس للاعتزاز به لكل الناس بما فيهم المرأة هو الهدف الذي من أجله و في سبيله يكون ذلك العمل ، فكلما كان الهدف سامياً رفيعاً كلما كان ذلك مصدر اعتزاز و تقدير للإنسان . .
و حيث أن العقيدة الإسلامية هي التي تمثل أرفع المبادئ و أسماها . . و أجل الأهداف و أعلاها . . فإن من الطبيعي : أن يكون لنسبة التمسك بمبادئ الإسلام ، و حجم العمل من أجله و في سبيله . . أثر كبير في الحصول على الامتيازات ، و الاستحقاق و التقدير و الاحترام في مختلف المجالات . . و الدين و العقيدة و الإسلام إذا كان هدفاً للإنسان أي إنسان . . فإنه لا ينفك في أي من الظروف و الأحوال عن أن يكون مصدراً لعزته و شرفه و سؤدده سواء في حال شبابه أو في حال طفولته ، أو في حال هرمه و شيخوخته . . و سواء أ كان جميل المنظر جذاباً ، أو غير جميل و لا جذاب ، و سواء أ كان غنياً ، أو كان فقيراً ، و هكذا . . فهو له و معه في كل ظرف و في كل حين . . معه في هرمه كما كان معه في شبابه . . معه في قوته كما هو معه في ضعفه ، معه في غناه كما هو معه في فقره . . و على هذه فقس ما سواها . .
و إننا حينما نعتبره له و معه . . فإنما يعني ذلك : أنه معه و له بكل ما لهذه الكلمة من معنى ، يتفاعل معه ، و ينسجم معه ، و يعيش له ، و يعمل له ، و يفني فيه وجوده ، و تذوب فيه شخصيته ، و يجري فيه مجرى الدم . . و يتحكم بوجوده تحكم الروح بالجسد ، و بكلمة : أن يعود في الحقيقة إسلاماً حياً يمشي على وجه الأرض . .
و لا يمكن أن يكون الذوبان في الإسلام ، و تجسد الإسلام ، خيالاً عذباً يراود مخيلتنا من حين لآخر . كما أنه لا يجوز أن نعتبر أن الذوبان في الإسلام و التفاعل معه لا يتيسر إلا للأنبياء و أوصيائهم ( عليهم السلام ) . . فلقد ربى النبي ( صلى الله عليه و آله ) و كذلك علي عليه السلام من بعده ، و بعده الأئمة المعصومون من أبنائه عليهم السلام ـ قد ربوا ـ الكثير الكثير من هذه النماذج الحية للإسلام ، التي تعيش الإسلام بكل وجودها و كيانها و تفديها بكل ما تملك من غالٍ و نفيس . . لقد ربوا الكثيرين ليس رجالاً فحسب و إنما رجالاً و نساء . .
فكانت النساء كالرجال في إيمانها و تضحياتها و مواقفها . نعم كالرجال . . بل و لقد زدن عليهم . . و حينما ننظر إلى تلكم النساء اللواتي صنعهن الإسلام . . فلا نكاد نعثر ، و لا يمكن أن نعثر على واحدة منهن تعتبر المصدر لعزتها و سؤددها هو جمالها و أنوثتها أو فستانها أو مساحيقها و لا نكاد نجد فيهن شيئاً من ملامح الضعف و الوهن . . بل هن يكدن يذبن حناناً و رقة في موضع الرقة و الحنان . . و هن تزول الجبال و لا يزلن ، و لا تزعزعهن الرياح العواصف في موقع الحزم و الصبر و الشجاعة ، و هن يضحين بكل شيء مهما عز و غلا في موضع التضحية و الفداء . .
و لنا في تاريخ الإسلام الكثير من الأمثلة على ذلك . . و لا نريد أن نذكر فاطمة صلوات الله و سلامه عليها و مواقفها السياسية و العقيدية ، و لا نريد أن نذكر خديجة و صبرها و تضحياتها . .
و إنما نكتفي بالإشارة إلى موقف واحد من مواقف بنت فاطمة و علي ( عليهما السلام ) و أخت سيد الشهداء الحسين بن علي صلوات الله و سلامه عليه . .
إنها زينب عقيلة بني هاشم و بطلة كربلاء . .
زينب . . التي كانت تعتز بدينها و عقيدتها . . و تعتز بخلقها الرضي و سجاياها الرفيعة ، و أدبها الجم . . زينب . . التي كانت تعتز بسلوكها المثالي ، و مواقفها الرائدة ، و علمها النافع و رأيها الحصيف . . زينب . . التي كانت أبعد ما تكون عن حب المال و الجاه و الشهرة . . زينب التي كانت ابعد ما تكون عن الميوعة و الابتذال و المهانة . . زينب . . التي كانت لا تعرف الأزياء و لا فواتير الطعام و لا غير ذلك مما يعرفه فتيات و نساء اليوم . .
زينب هذه . . قد صنعت في مصنع الإسلام ، و ربيت تربية الإسلام و عاشت الإسلام عقيدة سلوكاً و هدفاً . .
نعم . . زينب هذه . . لها مواقف و مواقف أين منها مواقف أفذاذ الرجال ، و عظمها التاريخ . . لها مواقف و مواقف في كربلاء ، و في الكوفة و في المدينة . . و في الشام . . و في كل مكان تواجدت فيه . .
و لن نستطيع أن نستوفي الحديث عن مواقف زينب الرائعة و الرائدة ، ولا أن نلم ببطولاتها النادرة . . و لذا فنحن نكتفي بتسجيل لمحات عن موقفها في الشام مع يزيد الطاغية . . و بالأخص تسجيل مقارنة سريعة بين موقفي كل من : زينب الحق و الخير و المعرفة و الوعي . و يزيد الخمور و الفجور و الظلم و الطغيان و الجبروت .
فيزيد . . هو صاحب الجاه و السلطان . . و يرى نفسه ملكاً على أعظم إمبراطورية في العالم ، و الناس كلهم تحت طاعته ، و رهن إشارته . .
و يزيد . . يملك الرجال ، و الجيوش التي تدافع عنه و تحمي سلطانه ، و تخنق كل صوت يرتفع ضده ، و تسحق كل مخالف و مناوئ له . . و يستطيع أن يضرب بيد من حديد و يقضي على كل حركة أو إشارة من أعدائه .
و يزيد . . يملك مقدرات أعظم دولة على وجه الأرض . . و كل الأموال الهائلة تجبى إليه من أقطار الأرض ، فالمال كل المال له ، و بين يديه ، و من أجله و في سبيله .
و يزيد . . هذا الذي يرى نفسه أعظم رجل على وجه الأرض ، و يملك كل أساليب القوة و القهر و السلطان . . يرى نفسه أيضاً أنه هو المنتصر الفاتح ، و يرى أن انتصاره كان سريعاً و ساحقاً . . و هذا مما يزيد في غروره و طغيانه ، و تجبره ، و غطرسته .
و يزيد . . لم يعرف غير النعيم و الرخاء ، و الطاعة العمياء من كل من حوله . .
و يزيد . . في وطنه وفي بلده . . حيث نشأ وعاش وتربى . . ولا يحس بغربة ، ولا بوحشة . .
و يزيد . . يرى الدنيا تضحك له و يرى نفسه قادماً على مستقبل مشرق رغيد ، يجد فيه كل أحلامه و أمانيه و مشتهياته . .
و يزيد . . في أعز مكان يمكن أن يكون فيه : على تخت ملكه ، و في قصره و في مجلسه ، و على بساطه . .
ويزيد . . لم يفقد أحداً من أعزائه وأحبائه في حرب كربلاء ، ليفت فقده في عضده ويجرح كبرياءه ، ويخفف من عنجهيته .
و يزيد . . رجل و شاب . . و الرجل بطبيعته ـ و بالأخص إذا كان شاباً ـ أقوى على تحمل المصاعب ، و مواجهة المشكلات من المرأة ، و أقدر منها على مواجهة الصدمات و لاسيما العاطفية منها .
و يزيد . . الرجل الشاب الفاتك ، ذو البطش ، الذي لم يكن ليقف في وجهه شيء و لا يمنعه شيء حتى الدين من أن يرتكب أي عظيمة ، و يقترف أي جريمة و لا يخاف شيئاً ، و لا يرهب من شيء في سبيل ملكه و كبريائه . . بل هو يقتل حتى أبناء الأنبياء ، و حتى الشيوخ و الأطفال الرضع ، و حتى النساء في سبيل وصوله إلى أهدافه ، و حصوله على مراداته ، مهما كانت رخيصة ، و غير معقولة . .
يزيد هذا . . يقف في وجهه خصم قوي ، و مكافح شديد ، و يهينه و يذله ، و يبدو هو أمامه خانعاً عاجزاً مقهوراً . . و مما يزيد في مرارة الموقف ، و لوعته و ألمه أن خصمه في هذه المرة كان ” امرأة ” . .
نعم . . امرأة . . و المرأة أضعف من الرجل و أرق . . كما يقولون ، و أقل تحملاً في مواجهة الصدمات العاطفية كما يعتقدون . .
و امرأة . . مثكولة ، و مصابة بأولادها ، بأخوتها ، بأبنائهم ، بنجوم الأرض من بني عبد المطلب ، و بخيرة أصحابهم و شيعتهم و محبيهم . .
و امرأة . . ليس فقط مثكولة بمن ذكرنا ، و إنما هي بنفسها رأت مصارعهم و شاهدت بأم عينها حالتهم البشعة ، و التي تقرح القلوب و تدميها . . .
نعم رأت مصارعهم و رافقت كل الأحداث و المصائب التي مرت عليهم . .
و امرأة . . وحيدة ، ليس معها من حماتها حمي ، و لا من رجالها ولي . .
و ليس لها جيش يحامي عنها ، أو يدفع . و لا بيدها سلاح تملكه أو تلجأ إليه .
امرأة . . ليست تملك من المال شيئاً تسد به رمقها و رمق من هي مسؤولة عنه ، بل تحتاج إلى أعدائها ليساعدوها على حفظ رمق الحياة و مواجهة عقارب الجوع و العطش اللاسعة ، و التي لا ترحم أحداً ، و لا ترثي لأحد . .
و امرأة . . تعاني من ذل الغربة ، و وحشة الدار . . و ليس فقط الغربة عن بلدها . . بل هي في بلد عدوها و في يده و تحت سلطته و سلطانه . .
و امرأة . . مهزومة عسكرياً أيضاً .
و امرأة . . تعاني من ذل القهر و الأسر ، بالإضافة إلى ذل الهزيمة العسكرية .
امرأة . . تجد الشماتة القاتلة من أهل الشام بها . . حتى لتزين دمشق استبشاراً بالانتصار عليها و على أحبتها و بقتلهم و إبادة خضرائهم . .
امرأة . . ترافقها رؤوس أبنائها و إخوتها و غيرهم من أحبتها طول الطريق على رؤوس الرماح . بشكل يفتت الأكباد و يدمي القلوب . .
امرأة . . هي بالإضافة إلى كل ذلك تتحمل مسؤولية الحفاظ على طائفة كبيرة من الأرامل و الأيتام و الأسرى و الأطفال . . و قضاء حاجاتهم و الإشراف على كل حركاتهم . .
و امرأة . . قد عانت من مشاق السفر و متاعبه ما فيه الكفاية . .
و امرأة . . لم لكن لها سلطان أو ملك تعتز به ، أو تعتمد عليه . .
و امرأة . . تقدم على مستقبل مجهول و قاتم ، و لا تعرف مصيرها فيه و لا مصير كل أهلها و ذويها . .
و امرأة . . لم تعرف البذخ و الترف و النعيم و الرخاء ، كما كان الحال بالنسبة لبنات الملوك و أبنائهم .
امرأة . . مهما توقعنا منها . . فإننا لا نتوقع إلا أن تنهار ، و تنهزم و تبكي و تنتحب و تعجز . .
نعم . . هذه المرأة بالذات ، و بهذه الخصائص و المميزات تقف في وجه الطاغية يزيد لتذله ، و تسحق شخصيته و وجوده بقدميها ـ تقف في وجهه ، و المواجهة أصعب من الغيبة و على بساطه و في دار ملكه . و يزيد هو من قدمنا ، تقف و بقوة إيمانها ، و صادق عزيمتها لتقول له ، و للعالم أجمع : إنها هي التي انتصرت في المعركة ، و يزيد ـ يزيد فقط هو الخاسر المغبون و لا خاسر غيره . .
تقف أمام يزيد لتؤدي رسالتها ، و لتعطي الصورة الحقيقية للمرأة المسلمة الواعية ، التي لا تتصرف بوحي من عاطفة ، و لا يطغى على مواقفها العجز ، و لا الضعف و الوهن . .
نعم . . هذه المرأة تقف في وجه يزيد ، و في دار ملكه ، و على بساطه و بين جنده ، و رجال ملكه ، و هي تعاني من ذل الأسر ، و القهر ، و العدم و الثكل . . تقف في وجهه لتقول له ـ عندما سمعته يتمثل بأبيات ابن الزبعري :
ليت أشياخي ببدر شهدوا *** جزع الخوارج من وقع الأسل
لأهـلـوا و استهلوا فرحاً *** ثـم قـالـوا : يا يزيد لا تشل
قد قتلنا القرم من ساداتهم *** و عـدلنـاه بـبـدر فـاعتدل
ثم زاد عليها قوله :
لعبت هـاشم بـالملك فـلا *** خبر جـاء و لا وحي نـزل
لست من خندف إن لم انتقم *** من بني احمد مـا كان فعل
تقف لتقول له ـ على ما ذكره طيفور في بلاغات النساء :21 ، و الخوارزمي في مقتل الحسين : 2 / 64 :
” الحمد لله رب العالمين ، و صلى الله على رسوله و آله أجمعين صدق الله سبحانه ، حيث يقول : ﴿ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون ﴾ 1 .
أ ظننت يا يزيد ، حيث أخذت علينا أقطار الأرض و آفاق السماء ، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى : أن بنا هواناً على الله ، و بك عليه كرامة ؟ و أن ذلك لعظم خطرك عنده ، فشمخت بأنفك ، و نظرت في عطفك ، جذلان مسروراً ، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة ، و الأمور متسقة . و حين صفا لك ملكنا و سلطاننا ، فمهلاً مهلاً ، أنسيت قول الله تعالى : ﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ 2 .
أمن العدل يا ابن الطلقاء ، تخديرك حرائرك و إماءك ، وسوقك بنات رسول الله سبايا ؟ قد هتكت ستورهن ، و أبديت وجوههن ، تحدوا بهن الأعداء من بلد إلى بلد ، و يستشرفهن أهل المناهل و المعاقل ، و يتصفح وجوههن القريب و البعيد ، و الدني و الشريف ، ليس معهن من حماتهن حمي ، و لا من رجالهن ولي . .
وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء ، ونبت لحمه من دماء الشهداء ؟ ! .
و كيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف و الشنآن و الإحن ، و الأضغان ؟ ! .
ثم تقول غير متأثم ، و لا مستعظم :
لأهلوا و استهلوا فرحاً *** ثم قالوا : يا يزيد لا تشل
منحنياً على ثنايا أبي عبد الله ، سيد شباب أهل الجنة ، تنكتها بمخصرتك ، و كيف لا تقول ذلك ، و قد نكأت القرحة ، و استأصلت الشأفة ، بإراقتك دماء ذرية محمد صلى الله عليه و آله ، و نجوم الأرض من آل عبد المطلب ؟ ! .
و تهتف بأشياخك ، زعمت أنك تناديهم ، فلتردن وشيكاً موردهم ، و لتودن أنك شللت و بكمت ، و لم تكن قلت ما قلت ، و فعلت ما فعلت .
اللهم ، خذ لنا بحقنا ، و انتقم ممن ظلمنا ، و أحل غضبك بمن سفك دماءنا ، و قتل حماتنا . .
فوالله ، ما فريت إلا جلدك ، و لا حززت إلا لحمك ، و لتردن على رسول الله صلى الله عليه و آله بما تحملت من سفك دماء ذريته ، و انتهكت من حرمته في عترته و لحمته ، حيث يجمع الله شملهم ، و يلم شعثهم ، و يأخذ بحقهم : ﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ 3 .
و حسبك بالله حاكماً ، و بمحمد صلى الله عليه و آله خصيماً ، و بجبرائيل ظهيراً ، و سيعلم من سول لك ، و مكنك من رقاب المسلمين ، بئس للظالمين بدلاً ، و أيكم شر مكاناً ، و أضعف جنداً . .
و لئن جرت علي الدواهي مخاطبتك ، إني لأستصغر قدرك ، و أستعظم تقريعك ، و استكثر توبيخك ، لكن العيون عبرى ، و الصدور حرى . .
ألا فالعجب كل العجب ! . لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء ، فهذه الأيادي تنطف من دمائنا ، و الأفواه تتحلب من لحومنا ، و تلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل ، و تعفرها أمهات الفراعل . . و لئن اتخذتنا مغنماً لتجدنا و شيكاً مغرماً ، حيث لا تجد إلا ما قدمت يداك ، و ما ربك بظلام للعبيد ، و إلى الله المشتكى ، و عليه المعول . .
فكيد كيدك ، و اسع سعيك ، و ناصب جهدك ، فوالله ، لا تمحو ذكرنا ، و لا تميت وحينا ، و لا يرحض عنك عارها . . و هل رأيك إلا فند ، و أيامك إلا عدد ، و جمعك إلا بدد ، يوم ينادي المنادي : ألا لعنة الله على الظالمين . .
و الحمد لله رب العالمين الذي ختم لأولنا بالسعادة و المغفرة ، و لآخرنا بالشهادة و الرحمة . و نسأل الله أن يكمل لهم الثواب ، و يوجب لهم المزيد ، و يحسن علينا الخلافة ، إنه رحيم ودود ، و حسبنا الله و نعم الوكيل . . ” .
فلم يجد يزيد ـ الذي صعق لهول الصدمة ، و ارتبك ، و دهش ـ لم يجد في جوابها إلا أن يقول :
يا صيحة تحمد من صوائح *** ما أهون النوح على النوائح
و من موقفها هنا و موقفها مع الطاغية ابن زياد . . و أيضاً حينما مشت بقدم ثابتة إلى مصرح أخيها الحسين حيث وضعت يديها تحت جثته و استقبلت السماء لتقول : اللهم تقبل من هذا القربان .
من كل ذلك نعرف : أن سر قول الحسين عليه السلام و هو يتوجه إلى كربلاء حينما سئل عن حملة النساء و الأطفال معه و هو يعلم أنه يقتل ، يقول : إن الله شاء أن يراهن سبايا .
هذه هي المرأة المسلمة : التي عاشت الإسلام عقيدة و سلوكاً و هدفاً ، و تفاعلت معه . . و ذاب وجودها فيه . . قوية حازمة في موقع الحزم و القوة ، صابرة محتسبة في موضع الصبر و الاحتساب . . و هي أيضاً تفيض رقة و حناناً ، حينما يكون ثمة حاجة إلى الحنان و الرقة . .
هذه هي المرأة المسلمة : التي تمثل المستوى الأعلى للوعي الرسالي . . سياسياً ، و اجتماعياً ، و أخلاقياً ، و تربوياً . . إنها مثال الإنسان الكامل . . الذي يسخر بكل الرجال المنحرفين و بالطغاة و المتجبرين . . و يسحق وجودهم ، و جبروتهم . . و الذي يتفاعل مع الأحداث ، و يشارك في صنع مستقبل الأمة بإخلاص و وعي و جدية . .
و نحن الآن بأمس الحاجة إلى هذه المرأة المسلمة ، التي تستهدي بهدى الإسلام ، و تتأثر خطى زينب ، و تقف مواقف فاطمة ، و تضحي تضحيات خديجة . .
و نحن في غنى عن هذه المرأة الحاقدة المعقدة التي تمثل الميوعة و السخف بأجلى مظاهرهما ، و لا تعتز إلا بأنوثتها ، و لا تهتم إلا بمظاهر فتنتها . .
نعم . . لا نريد المرأة التي لا تعرف إلا البلاجات و البارات و المسارح و دور الأزياء . . نحن في غنى عن هذه المرأة ، و لسنا بحاجة إليها . . إنها ضرر و دمار على المجتمع و الأمة . . و هي أكبر و أخطر من كل سلاح فتاك يتهدد وجود و مستقبل المجتمعات البشرية جمعاء . .
إننا نريد المرأة التي تعتز بدينها و عقيدتها ، و بوعيها ، و بأخلاقها الرضية و سجاياها الكريمة . . و تضحي بكل ما تملك حتى بوجودها في سبيل أهدافها العليا ، و قيمها النبيلة . . نريد المرأة التي تتأثر خطى زينب بنت علي عليه السلام ، و تسير على منهاجها و تؤمن برسالتها . .
جعفر مرتضى العاملي
- 1. القران الكريم : سورة الروم ( 30 ) ، الآية : 10 ، الصفحة : 405 .
- 2. القران الكريم : سورة آل عمران ( 3 ) ، الآية : 178 ، الصفحة : 73 .
- 3. القران الكريم : سورة آل عمران ( 3 ) ، الآية : 169 ، الصفحة : 72 .