عن الإمام الصادق «عليه السلام» قال: (حبُّ الدّنيا رأسُ كلِّ خطيئة)1.
ورد الذّم للدّنيا في العديد من النّصوص الشريفة، والمذموم في الدّنيا هو التعلّق بها لأجل ذاتها، وجعل الإنسان منها هدفاً له بمغرياتها ورغباتها وشهواتها، مما يؤدّي إلى الابتعاد عن طريق الله القويم وصراطه المستقيم، فحبُّ الدنيا الذي يستعبد الإنسان فيجعله يتّبع هواه في شهواته ورغباته، من طعام، وجنس، ومال، وغيرها، بحيث أنّه إذا حاز على الكثير من هذه الدّنيا وتعلّق قلبه بها، نسي الموت والتّوبة قبل الموت، فطال أمله، ونسي آخرته، وهذا هو ما تخوّفه النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» على أمّته، فقال: (ألا إنّ أخوف ما أخاف عليكم خلتان: اتباع الهوى وطول الأمل، أمّا اتباع الهوى فيصد عن الحق وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة)2.
إنّ البعض عندما يتذكّر الموت أو يسمع به ينزعج ويخاف منه، ويكره الموت ولا يحبّه، وهذا له أسبابه، فهناك من يكره الموت ويخاف منه بسبب ما اقترفه من ذنوب، وارتكبه من مخالفات شرعيّة، فهو لا يخاف من الموت لخصوصه، وإنّما يخاف مما بعد الموت، يخاف من العذاب المترتب على مخالفاته الشرعيّة، فهو قد سوّد صحيفة أعماله بالذّنوب من الفواحش والمنكرات وترك الواجبات وممارسة المنهيّات، وهو يعلم أنّ الله سبحانه وتعالى سيعاقبه على ذلك، فهو يخاف وينزعج من الموت لأنّه يوصله إلى نتائج أعماله، بخلاف المؤمن الذي لم يسّود صحيفته بالذّنوب، وإن كان قد فعل شيئاً منها فإنّه يسارع إلى التوبة من ذلك ويسأل الله العفو والصفح والمغفرة، فإن مثل هذا العبد لا يخاف من الموت، بل يكون الموت عنده أحلى وألذ من الشهد، لعلمه أنّه وبمجرّد أن يموت سيلاقي نتائج أعماله الصالحة، فهذا الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» عندما ضربه ابن ملجم على رأسه الشريف في محراب مسجد الكوفة، قال: (فزت وربِّ الكعبة)3.
وكان «عليه السلام» يقول: (والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه، ومن الرجل بأخيه وعمه)4.
والبعض إنّما ينزعج من الموت، ويتألم عند سماعه، وتنتابه غصة من ذكره، بسبب تعلّقه بالدّنيا، فهو على علاقة وثيقة وقويّة بشهوات الدّنيا وملذّاتها، من مال، وجاه، ومنصب، وولد، وزوجة، وغيرها، فلا يتفاعل مع الموت لأنّه لا يريد أن يفارق ما تعلّق به من هذه الأمور، لا يريد أن يفارق الملذّات والشهوات الدنيوية، لا يريد أن يفارق المال والمنصب والجاه والزوجة والأولاد …
يروى أنّ رجلاً قال للنبي «صلى الله عليه وآله»: (مالي لا أحب الموت؟ فقال له: ألك مال؟ قال: نعم، قال: فقدمته؟ قال: لا، قال: فمن ثم لا تحب الموت)5.
فجعل النبي «صلى الله عليه وآله» سبب عدم حبِّ هذا الرجل للموت هو علاقته بماله، وعدم رغبته بمفارقته.
وقال رجل للإمام الحسن «عليه السلام»: ما بالنا نكره الموت ولا نحبّه؟ فأجابه الإمام: (لأنّكم أخربتم آخرتكم، وعمّرتم دنياكم، وأنتم تكرهون النُّقلة من العمران إلى الخراب)6.
وعن الإمام الصادق «عليه السلام» قال: (جاء رجل إلى أبي ذر، فقال: يا أبا ذر ما لنا نكره الموت؟ فقال: لأنّكم عمّرتم الدّنيا وأخربتم الآخرة، فتكرهون أن تُنقلوا من عمران إلى خراب)7.
إذاً فالذّم للدنيا إنّما يقصد منه ذمّ العلاقة القلبيّة بها، الموجبة لأسر الإنسان بيد الدّنيا، وهو يورث الرّياء وسوء الظن والحسد والحرص والطمع والكبر وحب المدح والتفاخر والمداهنة، وغيرها من الخصال السيئة والصفات الرذيلة، فحبّ الدنيا بهذه الطريقة يقود إلى الصدوف عن الحق، ونسيان الآخرة، وفقد القدرة على مواجهة الإغراءات والشهوات حيث تجد محبّها يركض خلفها ويسعى وراءها دون أن يمل أو يكل أو يشبع، فيرتكب المحرّمات ويكسب الآثام.. وإلى هذه الحقيقة يشير قول الإمام الصادق «عليه السلام»: (حب الدّنيا رأس كل خطيئة)1.
وقول النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله»: (أكبر الكبائر حبُّ الدّنيا)8.
وقوله «صلى الله عليه وآله»: (حبُّ الدنيا أصل كلِّ معصية، وأول كلِّ ذنب)9.
وقول الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام»: (حبُّ الدنيا رأس الفتن وأصل المحن)10.
وبيّن الله سبحانه من خلال آيات الكتاب المجيد حقيقة الدّنيا ومتاعها الفاني، فقال: ﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ 11.
ففي هذه الآية دعوة منه عزّ وجل للإنسان لأن يحسم أمر الدّنيا في فكره وعقله وحياته، وأن يتعامل معها على أنّها ممرٌ لعالم آخر، فلا يتعامل معها إلاّ على هذا الأساس، على أنّها ليست بدار قرار وبقاء وخلود، وإنما هي معبرٌ يتزّود منه الإنسان بزاد الآخرة وهو التقوى، الذي يجعله مؤهلاً لأن يعيش السعادة في عوالم ما بعد الدّنيا، وخلاف ذلك فالدّنيا لا تعدو أن تكون إلاّ متاع الغرور.
فالدّنيا – وكما ورد في الرّوايات – وسيلة وهبنا الله إيّاها لأجل الوصول إلى رضوانه، فهي كما قال النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله»: (الدّنيا ملعونة وملعون ما فيها إلاّ ما ابتغي به وجه الله عزّ وجل)12.
وقال الإمام زين العابدين «عليه السلام»: (الدنيا دنياءان: دنيا بلاغ ودنيا ملعونة)13.
ومن مواعظ لقمان لابنه: (وخذ من الدّنيا بلاغاً، ولا ترفضها فتكون عيالاً على النّاس، ولا تدخل فيها دخولاً يضرُّ بآخرتك)14.
فكلُّ شيء فيها يمكن أن يكون وسيلة لبلوغ الكمال والسعادة في الآخرة، فيما لو انطوى على نيّة الخير، وقصد به وجه الله سبحانه، وكلُّ شيء فيها لو انطوى على نيّة الشّر، ولم يقصد به الله سبحانه وتعالى كان سبيلاً للشقاء والخسران المبين، قال تعالى: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ 15.
فالدنيا إذا نظر إليها من زاوية أنّها مكان للامتحان والاختبار فليست بمذمومة، ولا حبّها لأنّها كذلك مذموم، إنّما المذموم هو حبُّ الدنيا لذاتها، الذي ينسي العبد ربّه وآخرته.
فلا قيمة للدنيا بحد ذاتها عند الله16 كما ورد عن النبي «صلى الله عليه وآله»: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء)17.
فالمؤمن والكافر يتساويان في التمتع بنعم الدنيا وطيّباتها بشكل عام، فلا يمكن التمييز بين طيب النّعمة عند المؤمن وطيّبها عند الكافر إلاّ بالكيفيّة التي تستثمر هذه النعم، فبعض هذه النعم يؤدي بصاحبه إلى الجنة، والبعض الآخر يؤدي بهم إلى جنهم والعياذ بالله!
وعندما يبيّن النبي «صلى الله عليه وآله» والأئمة الطاهرين «عليهم السلام» حقارة الدّنيا وبلاءها وعدواتها لمن يستسلم لها، فليس الهدف من ذلك الدعوة إلى ترك الدّنيا والتّصوّف والتّرهب فيها، وإنّما ذلك دعوة إلى الزّهد فيها، على أساس أنّها دار زوال، وإلى عدم الإغترار بزينتها، لأنّ هذه الزّينة سيجعلها الله وبالاً على الإنسان إن لم يحسن التعاطي معها ضمن إطار الالتزام بالأحكام الشرعية المنبثقة عن الوحي الإلهي في القرآن الكريم والسّنة الشريفة.
وللدلالة على حقارة الدّنيا، روي أنّ النبي «صلى الله عليه وآله» مر على مزبلة، فوقف عليها وقال: هلمّوا إلى الدنيا!، وأخذ خرقاً قد بليت على تلك المزبلة وعظاماً نخرت، فقال: هذه الدّنيا18.
وشُبّهت الدّنيا بالحيّة اللين مسها وفي جوفها السم الناقع، فعن الإمام الصادق «عليه السلام» قال: (إنّ في كتاب علي: إنمّا مثل الدنيا كمثل الحية، ما ألين مسها وفي جوفها السم الناقع، يحذرها الرجل العاقل، ويهوى إليها الصبي الجاهل)19.
وقال الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام»: (من ذا الذي يبني على أمواج البحر داراً، تلكم الدنيا، فلا تتخذوها قراراً)20.
هكذا نرى حقيقة الدّنيا من خلال هذه الأحاديث.. وبالرّغم من كلّ ذلك لا يلتفت معظم النّاس إلى قلّة ما بقي من الدّنيا بالإضافة إلى ما سلف منها، وذلك لأنّها دار غرور، تخدع النّاس بنعومة ظاهرها مع خشونة باطنها، وتغشّهم بنضارة أوّلها مع خيانة عاقبتها، إلى أن تملكهم زمام نعمها فيحرصون عليها ويحبّونها حبّاً جمّاً، فيطول بهم الأمل وينسون التوبة.
ولعلّ من البواعث على تسويف التوبة وتأخيرها عند البعض هو ظنّهم بأنّ في العمر متّسعاً ومجالاً للتوبة والإنابة، ولكن هيهات هيهات فقد يأتي الأجل حيث لا ينفع النّدم، وروي في هذا المجال أن جبرائيل «عليه السلام» قال لنوح «عليه السلام»: (يا أطول الأنبياء عمراً كيف وجدت الدنيا؟ قال: كدار لها بابان، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر)21.
فإن كان هذا حال نبي الله نوح «عليه السلام» – بطول عمره – مع الدّنيا فما هو حالنا نحن22؟
- 1. a. b. الخصال، صفحة 25.
- 2. الكافي 8/58.
- 3. بحار الأنوار 41/2.
- 4. بحار الأنوار 28/234.
- 5. الخصال، صفحة 13.
- 6. ميزان الحكمة 8/231، برقم: 19322.
- 7. ميزان الحكمة 8/231 – 232، برقم: 19324.
- 8. ميزان الحكمة 3/254، برقم: 6033.
- 9. ميزان الحكمة 3/254، برقم: 6034.
- 10. ميزان الحكمة 3/254، برقم: 6035.
- 11. القران الكريم: سورة الحديد (57)، الآية: 20، الصفحة: 540.
- 12. ميزان الحكمة 3/248، برقم: 5974.
- 13. ميزان الحكمة 3/249، برقم: 5983.
- 14. ميزان الحكمة 3/249، برقم: 5986.
- 15. القران الكريم: سورة الكهف (18)، الآية: 7، الصفحة: 294.
- 16. يروى أن النبي «صلى الله عليه وآله» مرّ بجدي أسّكَّ ملقى على مزبلة ميتاً، فقال لأصحابه: كم يساوي هذا؟ فقالوا: لعلّه لو كان حيّاً لم يساو درهماً، فقال النبي «صلى الله عليه وآله»: والذي نفسي بيده للدّنيا أهون على الله من هذا الجدي على أهله. (ميزان الحكمة 3/273، برقم: 6178).
- 17. بحار الأنوار 61/32.
- 18. ميزان الحكمة 3/273، برقم: 6179.
- 19. الكافي 2/136.
- 20. جامع السعادات 2/20.
- 21. تنبيه الخواطر «مجموعة ورّام»، صفحة 139.
- 22. المصدر كتاب “بحوث ومقالات من هدي الإسلام” للشيخ حسن عبد الله العجمي حفظه الله.