مفهوم (الحب) من المفاهيم التي حُرِّفت وأصبح لها أكثر من معنى بل ربما معاني مغايرة لمقصدها الأساسي .
والمفاهيم التي باتت تُفهم خطأً بسبب العولمة الإعلامية ، والاستشراق الممنهج ، وغلبة الأعداء … هي كثيرة كمفهوم الشجاعة والجرأة ، والزهد ، والعلم والانفتاح والتمدُّن والحضارة والحرية …
أما الحب في الإسلام ، فهو الحالة النفسية الشعورية التي تتوجه إلى شخص أو مجموعة على أساس إلهي محض تماماً ، كما أنَّ البغض لا يكون إلاَّ بناءً على أوامر إلهية محضة ، تعبّداً للَّه عزَّ وجلَّ و رِقاً .
بتعبير آخر ، إنَّ الحب في اللَّه سبحانه ، والبغض في اللَّه عزَّ وجلّ ، من عناوين الإسلام الأساسية التي لا يستقيم الإيمان إلاَّ بها ، بل لا يكون المؤمن مؤمناً إلاَّ بها .
وغفلة النَّاس عن هذا العنوان الأساسي ، لا يؤثر على موقعه في دين الإسلام ، كما هي الكثير من المفاهيم المُغيَّبة أو المعطَّلة ، والتي سوف تعود يوماً ، عندما تُملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً .
فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال : ” مَنْ أحب للَّه ، و أبغض للَّه ، و أعطى للَّه ، فهو مِمَّن كَمُلَ إيمانُه” .
وفي نص آخر عن مولانا الباقر (عليه السلام) قال :
” إذا أردتَ أن تعلم فيك خيراً ، فانظر إلى قلبك، فإن كان يُحبُّ أهلَ طاعة اللَّه ، ويُبغض أهل معصية اللَّه ففيك خيرٌ واللَّه يُحبُّك ، و إن كان يُبغضُ أهل طاعة اللَّه ويُحبُّ أهل معصيته ، فليس فيك خير واللَّه يبغضك ، والمرء مع مَنْ أحب” 1 .
ولا شك أنَّ هذا الحب ينسحب على الأسرة كلِّها ، خاصة إذا ارتوى بعذب أخلاقيات الإسلام المختلفة ، والتي يُصرُّ الأعداء على سلبنا إياها ، وهي أغلى ما نملك ، والتي منها :
صلة الرحم ، الرأفة ، التراحم ، التزاور ، البر بالوالدين ، إجلال ذي الشيبة المسلم ، إجلال الكبير ، التعاطف 2 .
إنَّ شجرة (الحب) الحقيقي بحسب مفهوم الإسلام ، وما يتفرَّع عنها من أغصان ، هي التي جعلت الأسرة مترابطة متماسكة ، يُجلُّ صغيرُها كبيرَها ، ويرأف كبيرُها على صغيرها .
فتماسكت الأُسرة وتحابَبَتْ وكان العطفُ والحنان والرعاية والتكافل هو الأساس والحاكم ، إلى درجة النهي عن قول ﴿ … أُفٍّ … ﴾ 3 أو النظرة الحادة المؤذية إلى الوالدين .
بل أكثر من ذلك : شاء اللَّه جلَّ جلاله أن يسري الحب الإلهي الذي أمرنا به إلى تمام الأرحام والقربات ، فذكرت الأدعيةُ مراراً جُمل التوفيق والرحمة والغفران (للأهل والولد).
﴿ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ … ﴾ 4 ، ﴿ … رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ 5 ، واجزهما بالإحسان إحساناً، وبالسَّيِّئات عفواً وغفراناً ….
بل لا ينتهي حقُّهما بالموت ، فالمسنون الوارد في حقِّهما ، الدعاء لهما ، وحتى الأجداد والجدات فهم آباء وأمَّهات أيضاً الدعاء لهم ، والترحم ، والصدقة وزيارة قبورهم ، وحب من كانوا يُحبُّون في حياتهم … ومهما كان الفعل في جنبهم عظيماً ، بَقِيَ في مقابل حقِّهم صغيراً .
ويرى المتتبِّع لتفصيل الواجبات والمستحبات التي حثَّ الشرع الإسلامي على تطبيقها على صعيد الأقارب والأرحام ، أنَّ هناك أموراً يتميَّز بها هذا الدين دون الأديان والعقائد (والحضارات) الأخرى .
فالبسمةُ مطلوبةٌ بين أفراد الأسرة ، خاصة تجاه الأب (وإن علا) والأم (وإن علت) ، كذلك المصافحة ، وتقبيل الأيدي ، التي هي عادة أصبحت شبه مهجورة في أيامنا هذه ، وخدمتهم ، وعدم مخاطبتهم بطريقة خشنة أو جافة ، وهو الذي بدأ ينتشر للأسف في مجتمعاتنا تقليداً لمجتمع الكفار ، وكفايتهم بالمال مع القدرة دون أن يطلبوا ذلك .
بل من روائع دين الإسلام عنوان (بر الوالدين) وطاعتهم ، إلى حدِّ أنْ كان العقوق لهما معصية كبيرة ، لا يأمن صاحبها في دنياه فضلاً عن أخراه .
وعندما تحدَّث الإمام الصادق (عليه السلام) عن الإحسان للوالدين ، قال : ” الإحسان ، أن تُحسن صحبتهما ، وأن لا تُكلِّفهما أن يسألاك شيئاً مما يحتاجان إليه وإن كانا مُسْتَغْنيين 6 ” .
حتى ورد أنهما لو ضرباك فقُل لهما ” غفر اللَّه لكما ” 7 .
وفي شتى الحالات ” لا تملأ عينيك من النظر إليهما إلاَّ برحمة و رِقَّة ، ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما” . المصدر نفسه .
أمَّا فيما يتعلَّق بسائر أفراد الأسرة ، فالحب بينهما حقيقي ، وليس لمصلحة آنية أو عابرة ، لأنَّ المنطلق إيمانيٌ ملزمٌ ، له آثار في الدنيا والآخرة .
وورد عن الباقر (عليه السلام) : ” إنَّ الرحم معلَّقةٌ يوم القيامة بالعرش تقول اللهم صِلْ مَنْ وَصَلني واقطعْ مَنْ قطعني ” .
فالأسرة المسلمة علاقتها مع بعضها البعض انصياعٌ لأمر اللَّه جلَّ جلاله ، وخضوعٌ لإرادته ، وتقرُّبٌ لمرضاته جلَّ وعلا ، فالكلُّ يُحب الكل ، حباً في اللَّه ورغبة في الثواب ، فأفراد الأسرة الإسلامية يطمئنُّون أن اللَّه سبحانه مريدٌ لهذا الفعل ، فيفعلون ، أو مُريدٌ لترك هذا الأمر فيتركون .
وقد ورد في الأحاديث الكثيرة جداً ، أنَّ صلة الرحم تُنمِّي الأموال ، وتدفع البلوى ، وتطيل في العمر ، وتُهِّون الحساب وسكرات الموت ، وتزيد في الرزق ، وتُعمرِّ الديار 8 .
- 1. الكافي باب الحب حديث 1.
- 2. راجع الكافي الشريف، الجزء الثاني .
- 3. القران الكريم: سورة الإسراء (17)، الآية: 23، الصفحة: 284.
- 4. القران الكريم: سورة نوح (71)، الآية: 28، الصفحة: 571.
- 5. القران الكريم: سورة الإسراء (17)، الآية: 24، الصفحة: 284.
- 6. الكافي الشريف ، ص157، حديث 1 .
- 7. المصدر نفسه .
- 8. نشرت هذه المقالة في الموقع الرسمي لسماحة السيد سامي الخضرة حفظه الله .