مقالات

المحافظون الجدد و العباسيون الجدد …

تتحرك مجريات العملية السياسية و تدور رحى حروبها في العراق على محور مشترك يضم فئات سياسية عديدة لكل منها نظائر في التاريخ. إن المقولة المشهورة ‘ التاريخ يعيد نفسه ‘ ينبغي ألا يقصد بها أن التاريخ عبارة عن نسخ متطابقة تتكرر على مر العصور، بل هي مجرد إشارة إلى وجود سنن تاريخية و قوانين تحكم سيرة البشر في السياسة والاجتماع والدين وغير ذلك من شؤون الناس مما ينتج أوجهاً عديدة يمكن مقارنتها تشابهاً أو تبايناً. إن ما يجري اليوم على أرضنا و في زماننا قد يرى اللاحقون من بعدنا نظيراً له في زمانهم و إن لم يكن متطابقاً. لو أردنا التعرف على نظائر للأمويين والخوارج و العباسيين والصليبيين و الزنادقة و وعاظ السلاطين و أرباب الفتن  في التاريخ لما عدمنا الأمثلة الحية من واقعنا الذي نراه عياناً كل حين.

المحافظون الجدد

فالمحافظون الجدد أعادوا أمجاد (الحروب الصليبية) بدعاوى عصرية –مع العلم أن حرب جورج بوش ليست حربا صليبية بالفعل و إن استخدامهم لهذا المصطلح هو مجرد سياسة لخلط الأوراق–،  فلم يعد تحرير القدس من أيدي الكفار (المسلمين) كما غلفت به الحروب الصليبية هو الهدف، بل نشر الديمقراطية و الحرية أصبح الغلاف الجديد للحروب الاستعمارية العصرية.

وكما أن الحروب الصليبية لم تكن ذات أهداف دينية محضة بل كانت أهدافها مشتركة و من بينها الاستعمارية و الاقتصادية و تم استغلال الدين المسيحي لتغليفها و بث روح الحماس في الأوربيين المتدينين و استغلها الراغبون في المكاسب المادية و الذين يهدفون إلى التخلص من جور الإقطاعيين في بلادهم، كذلك  في حرب المحافظين الجدد على العراق نرى استدعاءً لمفاهيم دينية من قبيل المهمة الإلهية و التكليف السماوي لجورج بوش بشن  الحرب، و بالتالي يتم تغليف الأهداف الاقتصادية النفطية و السياسية الكبرى كالتقسيم و حماية إسرائيل و إلغاء نظام الإسلاميين في إيران. و يتم تشجيع الجنود المرتزقة بوعود لمنحهم الجنسية الأمريكية لقاء الخدمة العسكرية.

وللتعرف على المحافظين الجدد، يجدر بنا أن نعرف طبيعة فكر المحافظين أولاً. المحافظون يعارضون التغير السريع في الشؤون السياسية و الاجتماعية و الدينية و يفضلون الحفاظ على الموروثات. و قد جاءت هذه النزعة كرد فعل مضاد لعصر التنوير الذي ازدهر في أوربا و المستعمرات الأمريكية إبان القرن الثامن عشر قبل الثورة الفرنسية. المحافظون من أنصار الدين على العقل، و التقاليد على التفكير الحر،الطبقية على المساواة،القيم الجمعية على الفردية، و حكم السماء على العلمانية.

ولا يعني هذا أن المحافظين يلتزمون بهذه المثل مع بعض الإضافات الجديدة، فالأمر أشد تعقيداً وتداخلاً من ذلك. إن حركة المحافظين الجدد جاءت كردة فعل مناهضة لليبرالية الاجتماعية و لليسار الجديد. وهم يعتقدون أن الليبرالية قد أخفقت ولم تعد صالحة الآن. ويؤمنون بالثورة الدائمة أو الديمقراطية العالمية. ولعل هذا ما يفسر إعلانهم الحرب على الإرهاب –العدو الذي لا تعرف له بداية ولا نهاية ولا أطراف ولا شكل–.

وقد تأثرت ثلاث حكومات أمريكية في العقود الماضية بسياسة المحافظين الجدد المرتكزة على جعل السياسة الخارجية للحكومة المسؤولية العظمى، ويرون أن تفردهم بالسلطة في العالم من شأنه أن يحافظ على الاستقرار و النظام العالمي. إن تحالفاً بين فكر المحافظين الجدد السياسي و فكر الصهيونية المسيحية أفرز حكومة أمريكية جمهورية معادية للإسلام و المسلمين و العرب بشكل يفوق الحكومات الديمقراطية التي تعالج القضايا الشائكة بأساليب تبدو –ظاهراً– أقل عدائية و شراسة. و  تعد حكومة ريغان و بوش الأب و الابن من وجوه المحافظين الجدد إلا أن أبرزها و أوضحها حكومة جورج بوش الابن التي اشتد سعار رغبتها في الحروب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.

العباسيون الجدد

يتحرك العباسيون الجدد سياسياً مستفيدين من رموز دينية و مقدسات يحترمها أتباع أهل البيت  محققين بذلك عملية تضليل كبرى لا أرى أن مثلها قد حدث في التاريخ. فالدولة العباسية قامت على شعار (الرضا من آل محمد) و إزاحة أعداء أهل البيت ثم انقلب العباسيون على أئمة أهل البيت وعلى شيعتهم بعد استقرار الحكم لهم، وادعوا أنهم آل محمد الذين تجب محبتهم وأن أولاد علي لا حق لهم في الخلافة لأنهم من أولاد فاطمة  و هي امرأة ولا يرث الخلافة أبناء النساء!

وقد وصل العباسيون الجدد إلى الحكم بعد إزاحة الحكم البعثي الغاشم، بمعونة أمريكية و تحت شعار (إعطاء الناس الحرية و الأمان و الخدمات و إقامة الحكم الديمقراطي) ثم ما لبث العباسيون الجدد أن انقلبوا على كل ذلك ممعنين في القتل و سفك الدماء والاعتقال والتهجير، ولكن الهجمة لم تطل أئمة أهل البيت  بل طالت أتباعهم. وادعوا أن لا حق لهم في المشاركة السياسية باعتبارهم مليشيات مسلحة خارجة على القانون. و كأن (بلاك ووتر) و (كاكي) و قوات الصحوة و البيشمركة و فيلق بدر و جيش الاحتلال الأمريكي و البريطاني (المتعددة الجنسيات) لا تشارك في صميم العمل السياسي ولا تستخدم سلاحها إلا في سبيل الله و القيم الإنسانية النبيلة.

إن بني العباس أمعنوا في استئصال بني أمية و الثأر منهم حتى قال قائلهم:

لا تقيلن عبد شمس عثاراً *** و اقطعن كل رقلة و غراس

وقاموا بإنجاز مهمة التصفية ببراعة تصل إلى حد لا يرتضيه الشرع. أما العباسيون الجدد فهموا باجتثاث البعث واجتثوا بعض الرؤوس فعلاً إلا أنهم بفعل الضغوط  الأمريكية تنازلوا و قبلوا بسقف (المساءلة والعدالة)، و هو أمر حسن لو كان مبعثه الالتزام بأحكام الشرع في الدماء و ليس المصالح السياسية التي تجيز للحزب ما لا يجوز لغيره. إذ كيف نفسر وجود بعثيين كبار في أجهزة الدولة الجديدة بل في منصب وزاري خطير.

العباسيون –السفاح و المنصور–  لم يريا أنفسهما أهلا للخلافة فبايعا ذا النفس الزكية بادئ الأمر ثم انقلب عليه المنصور و دعاه إلى بيعته و بدأ النزاع إلى أن قتله عند أحجار الزيت. أما العباسيون الجدد فقد تسلموا الحكم بفضل الأصوات الشريفة التي لولاها لمالت السلطة إلى منافسيهم من أهل الشمال و الغرب. ثم انقلبوا على من أوصلهم إلى الحكم وبدءوا بتصفيتهم في البصرة و الديوانية و العمارة و الناصرية و الكوت و مدينة الصدر وكربلاء و النجف و أينما حطت لهم قدم، لأنهم ‘ خارجين على القانون ‘.

لجأ العباسيون إلى تسقيط معارضيهم باتهامهم بالزندقة،و بالتالي تم تسويغ قتلهم و مطاردتهم، أما العباسيون الجدد فقد اتخذوا من تهمة الخروج على القانون ذريعة يحق بموجبها استخدام الطائرات و الدبابات و القاذفات لاعتقال أو تصفية (المجرمين و مهربي النفط). وأصبح الخروج على القانون تهمة حصرية تنال من فئة آمنت بربها و كتبه ورسله و آثرت رفض الظلم وتحدي الباطل بالقول و الفعل و المال و النفس و الأهل و السمعة العالمية. فتارة ينعتون بالإرهاب و تارة بأنهم أسوء من القاعدة، وليتهم عوملوا كما عومل مجرمو القاعدة حيث التريث و الصبر في تنفيذ الأحكام و عمليات التهريب الأمريكي لعناصرهم من الأبواب الخلفية للسجون.

كان العباسيون يحيطون دعوتهم بدعايات وتنبؤات غيبية و يزعمون وجود كتب تشهد بانتقال الخلافة إلى بني العباس و لكن لا يجوز إخراجها و كشفها إلا للمقربين و النقباء من خواصهم. و كان التكتم باسم الخليفة عاملاً أساسياً في نجاح الدعوة. أما العباسيون الجدد فهم يعلنون انتماءهم لمذهب للتشيع و التزامهم بأوامر المرجعية. ولكنهم يتكتمون على حقيقة المواقف التي تتبناها المرجعية الشريفة ويزعمون أنها تؤيدهم في العملية السياسية و إقرار الدستور و الاتفاقيات الأمنية و خطط فرض القانون و كل خطوة يخطونها. بيد أن كل ذلك من علم الغيب ما لم يُعلن للناس رأي المرجعية الشريفة بوضوح في كل ما تقترفه الحكومة من سلوك سياسي. ولا أقصد من المقارنة هنا إلا إبراز التشابه في تضليل الناس عبر إحالتهم إلى أدلة غامضة خفية تضفي على سلوكهم السياسي شرعية و غطاءاً دينياً.

إذن ما قام به العباسيون هو تغيير المفاهيم و قلب الحقائق و تبديل العقائد بعد أن عزلوا أئمة أهل البيت عن الناس ولم يعتمدوا فقههم و تفسيرهم و عقائدهم و روايتهم، و أفسحوا المجال لغيرهم ممن شرق و غرب عن سنة رسول الله. وما قام به العباسيون الجدد شبيه بذلك، فقد غيروا مفاهيم الثورة و المقاومة، واستبدلوا المنهج البرجماتي (الغاية تبرر الوسيلة) بالمنهج المبدئي (السياسة المحمدية و العلوية)، و أصبح الصديق (الشعب المجاهد) عدواً و العدو (المحتل الغازي) حليفاً،و أصبح القانون الوضعي مسوغاً للقتل و السلب و الاعتقال و التشريد والتهجير، وبقي القرآن و آياته المحذرة من موالاة أعداء الدين تراثاً يتلى في المناسبات.

و بعد أن حصروا المرجعية و صغروا دورها وعزلوها عن الأمة أصبح المجال مفتوحاً لليبرالي و الشيوعي و البعثي و الناصبي و النفعي و الأمريكي و المسيحي و الصهيوني ليتواصل مع الناس عبر قنوات و سبل لا تملكها المرجعية التي يزعمون التحدث باسمها.

إن الجور و الظلم الذي لقيه أئمة أهل البيت و العلويون خصوصاً و الشيعة و الأتباع عموماً من السلطة العباسية يفوق ما جرى في عهد الأمويين. ولكن الشرفاء و المجاهدين الصابرين في عهد العباسيين الجدد لا يقولون ما قاله أبو عطاء السندي:

يا ليت جور بني مروان عاد لنا *** و أن عدل بني العباس في النار

و إذا  تمثلوا بقول القائل:

تالله ما فعلت أمية فيهم *** معشار ما فعلت بنو العباس

فهذا لا يعني أبداً أنهم يرفضون ظلم صدام ليقبلوا ظلم غيره، و لا يشغلون أنفسهم بالمقارنة بين جور البعثيين و انتهاكات المحتلين، إنهم لا يرون الظلم إلا ظلماً و ظلمات يجب مواجهتها بنور اليقين والصبر1.

  • 1. الأستاذ وسيم الرجال * 22/4/2008م – 2:54 ص.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى