من ثوابت سياسة الخلفاء تصفية مخالفيهم!
من ثوابت الخليفة القرشي : أن يعمل للتخلص من خصومه بقتلهم بالسم ، أوبالمكيدة ، ليكون قتلاً ناعماً مسكوتاً عنه عند الناس!
وكان شعار معاوية المعروف : إن لله جنوداً من عسل! قاله عندما نجح في دسَّ السُّمَّ لمالك الأشتر حاكم مصر (رحمه الله). كما في المستطرف / ٣٥٢ ، وغيره .
وقال معاوية : لاجدَّ إلا ما أقْعَصَ عنك من تكره. أي العمل الجدِّي المهم هو : أن تقتل عدوك وتخمده في مكانه ، فتزيحه من طريقك! 1 .
قال في جمهرة الأمثال « ٢ / ٣٧٦ » : « والمثل لمعاوية رضي الله عنه » قاله بعد قتله عبد الرحمن بن خالد ، لأنه كان يعارض توليته لولده يزيد! 2 .
وعلى هذه السياسة مشى خلفاء بني أمية وبني العباس ، وكان المتوكل يعمل لقتل الإمام الهادي (ع) وهويعلم أنه إمام رباني ، وأنه لا يعمل للسلطة! ولاحجة للمتوكل إلا خوفه من إيمان الناس بالإمام (ع) ، فقد رأى أمه تطلب دعاءه ، وتنذر له النذور!
١. سجن المتوكل الإمام (ع) ليقتله فنجاه الله
روى الصدوق في الخصال / ٣٩٥ : « عن الصقر بن أبي دلف الكرخي ، قال : لما حمل المتوكل سيدنا أبا الحسن العسكري (ع) جئتُ أسأل عن خبره قال : فنظر إليَّ الزُّرَافي وكان حاجباً للمتوكل ، فأمر أن أدخل إليه فأدخلت إليه ، فقال : يا صقر ما شأنك؟ فقلت : خيرٌ أيها الأستاذ. فقال : أقعد ، فأخذني ما تقدم وما تأخر وقلت : أخطأت في المجئ! قال : فوحى الناس عنه ، ثم قال لي : ما شأنك وفيم جئت؟ قلت : لخير ما ، فقال : لعلك تسأل عن خبر مولاك؟ فقلت له : ومن مولاي؟ مولاي أمير المؤمنين! فقال : أسكت ، مولاك هو الحق فلا تحتشمني فإني على مذهبك ، فقلت : الحمد لله. قال : أتحب أن تراه؟ قلت : نعم. قال : أجلس حتى يخرج صاحب البريد من عنده. قال : فجلست فلما خرج قال لغلام له : خذ بيد الصقر وأدخله إلى الحجرة التي فيها العلوي المحبوس وَخَلِّ بينه وبينه ، قال : فأدخلني إلى الحجرة ، فأومأ إلى بيت فدخلت فإذا به (ع) جالس على صدر حصير وبحذاه قبر محفور! قال : فسلمت فرد ، ثم أمرني بالجلوس ، ثم قال لي : ” يا صقر ما أتى بك؟ ” قلت : يا سيدي جئت أتعرف خبرك؟ قال : ثم نظرت إلى القبر فبكيت! فنظر إلي فقال : ” يا صقر لا عليك ، لن يصلوا إلينا بسوء الآن ” ، فقلت : الحمد لله.
ثم قلت : يا سيدي حديث يروي عن النبي (ص) لا أعرف معناه ، قال وما هو؟ فقلت قوله : لا تعادوا الأيام فتعاديكم ، ما معناه؟ فقال : ” نعم ، الأيام نحنُ ما قامت السماوات والأرض ، فالسبتُ إسم رسول الله (ص) والأحدُ كنايةٌ عن أمير المؤمنين (ع) ، والإثنين الحسن والحسين ، والثلاثاء علي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد ، والأربعاء موسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وأنا ، والخميس ابني الحسن بن علي ، والجمعة ابن ابني ، وإليه تجتمع عصابة الحق ، وهو الذي يملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
فهذا معنى الأيام ، فلا تعادوهم في الدنيا فيعادوكم في الآخرة. ثم قال (ع) : وَدِّعْ واخرج ، فلا آمن عليك ” .
قال مصنف هذا الكتاب رضي الله عنه : الأيام ليست بأئمة ولكن كنى بها (ع) عن الأئمة لئلا يدرك معناه غير أهل الحق. كما كنى الله عز وجل بالتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين عن النبي (ص) وعلي والحسن والحسين (ع) .. وكما كنى بالسير في الأرض عن النظر في القرآن ، سئل الصادق (ع) عن قول الله عز وجل : ﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ … ﴾ 3 ، قال : ” معناه أو لم ينظروا في القرآن ” .
ملاحظات
١. يظهر أن سجن الإمام (ع) في سامراء كان في إحضاره الأول الى سامراء ، في أوائل خلافة المتوكل ، ولم يسجن في سامراء بعدها.
٢. أما الصقر بن أبي دلف ، فهو من الكرخ وكان فيها شيعة لأهل البيت (ع) من زمن الإمام الصادق (ع) , وكانت بغداد : الكرخ وبراثا ، ثم أسس المنصور بينهما بغداد المدورة ، وقد وثقنا ذلك في سيرة الإمام الكاظم (ع).
والحديث يدل على أن الحاجب زرافة كان يعرف الصقر ويحترمه ، وكان يميل الى الشيعة ، وقيل يكتم تشيعه عن المتوكل ، وقد روى مدحه في الهداية الكبرى.
٣. لايبعد أن يكون الصقر من أولاد أبي دلف العجلي القائد المعروف الذي خرج على هارون الرشيد ، ثم اتفق معه وصار والياً على بلاد الجبل من إيران ، وأسس مدينة كرج. وقد كتبنا عنه في القبائل العراقية : قبيلة عِجل بن لُجَيْم.
وكان أبو دلف شيعياً متشدداً ، وسكن قسم من أولاده في بغداد وآخرون في الحلة ، وبقي قسم منهم في الجبل ، ويشمل همدان وأصفهان وغيرهما ، ومنهم ولاة في زمن الواثق والمتوكل.
٤. سؤال الصقر عن معنى الأيام في الحديث النبوي ، يدل على تعمقه في التشيع فقد كان مطروحاً وقتها موقع الأئمة (ع) التكويني ، وتفسير قوله تعالى : ﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ 4 .
وكان في عصره بوادر ظهور مذاهب الغلو في بغداد ، وأشهرها مذهب الحلاج والشلمغاني ، وبشار الشعيري الذي عرف أتباعه بالكرخية المخمسة ، وهو مذهب مأخوذ من مذهب الحلول المجوسي ، قالوا : « إن سلمان الفارسي والمقداد وعماراً وأبا ذر وعمر بن أمية الضمري ، هم الموكلون بمصالح العالم ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً » 5 .
ولعل أول من أشاع ذلك في بغداد أحمد بن هلال الكرخي ، الملعون على لسان الإمام المهدي (ع) ، فسُمِّيَ أتباعه بالكرخية والكرخيين.
قال الطوسي في الغيبة / ٤١٤ : ( وكان الكرخيون مُخمسة ، لايشك في ذلك أحدٌ من الشيعة ، وقد كان أبو دلف يقول ذلك ويعترف به .. وجنون أبي دلف وحكايات فساد مذهبه ، أكثر من أن تحصى ، فلا نطول بذكرها الكتاب ها هنا ).
أقول : أبو دلف المغالي بعد الصقر بن أبي دلف بسنين كثيرة ، وقد يكون من آل أبي دلف أو على اسمه. ولم يكن الصقر من أهل الغلو ، وسؤاله عن معنى الأيام وتفسيرها ليس من الغلو ، لأن الآية تدل على أن مخطط الكون مبني على عدة الشهور الإثني عشر ، وعدة أوصياء الأنبياء (ع) ونقبائهم ، فهو قانون المنظومة العددية في تكوين الكون ، وفي هداية المجتمع. وبحثه خارج عن غرضنا.
٢. واتهم المتوكل الإمام (ع) بجمع السلاح للثورة عليه
وقد أحضره ليلاً فأدخلوه على المتوكل وهو يشرب الخمر وأراد منه أن يشرب معه فأبى ، بل وعظه فبكى المتوكل ، وأمر برفع مائدة الخمر من مجلس الخلافة!
وقد روت ذلك عامة المصادر ، ومنها المسعودي في مروج الذهب « ٤ / ١٠ » بسنده عن محمد بن عرفة النحوي قال : حدثنا محمد بن يزيد المبرد : « وقد كان سُعِيَ بأبي الحسن علي بن محمد إلى المتوكل ، وقيل له : إن في منزله سلاحا وكتباً وغيرها من شيعته ، فوجه إليه ليلًا من الأتراك وغيرهم من هجم عليه في منزله على غفلة ممن في داره فوجده في بيت وحده مغلق عليه ، وعليه مَدْرَعة من شَعَرٍ ، ولا بساط في البيت إلا الرمل والحصى ، وعلى رأسه مَلْحَفة من الصوف متوجهاً إلى ربه ، يترنم بآيات من القرآن في الوعد والوعيد ، فأُخذ على ما وجد عليه ، وحُمل إلى المتوكل في جوف الليل ، فمثل بين يديه والمتوكل يشرب وفي يده كأس ، فلما رآه أعظمَه وأجلسه إلى جنبه ، ولم يكن في منزله شئ مما قيل فيه ، ولا حالة يتعلل عليه بها. فناوله المتوكل الكأس الذي في يده ، فقال : يا أمير المؤمنين ، ما خامر لحمي ودمي قط فأعْفِنِي منه ، فأعفاه ، وقال : أنشدني شعراً أستحسنه ، فقال : إني لقليل الرواية للأشعار ، فقال : لا بد أن تنشدني. فأنشده :
” باتوا على قُلَلِ الأجبال تحرسهمْ ***غُلْبُ الرجالِ فما أغنتهمُ القُللُ
واستُنْزِلُوا بعد عِزٍّ عن مَعَاقِلهمْ *** فأُودعُوا حُفَراً يا بِئسَ ما نَزلوا
ناداهُمُ صارخٌ من بعد ما قُبروا *** أينَ الأسِرَّةُ والتيجانُ والحُلَلُ
أينَ الوجوهُ التي كانت مُنَعَّمَةً *** من دونها تُضرُب الأستارُ والكِللُ
فأفصحَ القبرُ عنهمْ حين ساءلهمْ *** تلكَ الوجوهُ عليها الدُّودُ يَقْتَتِل
قدطالَ ما أكلُوا دهراً وما شربوا *** فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكِلوا
وطالما عَمروا دوراً لتحصنهمْ *** ففارقوا الدورَ والأهلينَ وانتقلوا
وطالما كنزوا الأموالَ وادَّخروا *** فخلَّفُوها على الأعداء وارتحلوا
أضحت مَنازِلُهم قَفْراً مُعَطَّلَةً *** وساكنوهَا إلى الأجْدَاثِ قد رَحَلُوا “
قال : فأشفق كل من حضر على علي ، وظنوا أن بادرة تبدر منه إليه ، قال : والله لقد بكى المتوكل بكاء طويلًا حتى بلت دموعه لحيته ، وبكى من حضره ، ثم أمر برفع الشراب ، ثم قال له : يا أبا الحسن ، أعليك دَينٌ؟ قال : نعم أربعة آلاف دينار ، فأمر بدفعها إليه ، ورده إلى منزله من ساعته مكرماً ».
ورواها الذهبي في تاريخ الإسلام « ١٨ / ١٩٩ » ، فقال : « سُعِيَ بأبي الحسن إلى المتوكل وأن في منزله سلاحاً وكتباً من أهل قم ، ومن نيته التوثب ، فكَبَسَ بيته ليلاً فوجده في بيت عليه مدرعة صوف ، متوجهاً إلى ربه يترنم بآيات ، فأُخذ كهيئته إلى المتوكل وهويشرب … » 6 .
٣. وكان يقول : أعياني أمرُ ابن الرضا!
كان المتوكل ذات يوم غاضباً متوتراً ، لأنه عجز أن يجرَّ الإمام الهادي (ع) الى شرب الخمر ، ثم يُظهره للناس سكراناً لتسقط عقيدتهم به!
وهذه لجاجةٌ منه لأنه يعرف أن الإمام (ع) من العترة الذين طهرهم الله تعالى! روى في الكافي « ١ / ٥٠٢ » : « حدثني أبوالطيب المثنى يعقوب بن ياسرقال : كان المتوكل يقول : ويحكم قد أعياني أمر ابن الرضا! أبى أن يشرب معي أوينادمني أوأجد منه فرصة في هذا! فقالوا له : فإن لم تجد منه ، فهذا أخوه موسى قَصَّافٌ عَزَّاف ، يأكل ويشرب ويتعشق. قال : إبعثوا إليه فجيئوا به حتى نُمَوِّهَ به على الناس ونقول ابن الرضا! فكتب إليه وأشخص مكرماً وتلقاه جميع بني هاشم والقواد والناس على أنه إذا وافى أقطعه قطيعة ، وبنى له فيها ، وحول الخمارين والقيان إليه ، ووصله وبره وجعل له منزلاً سرياً ، حتى يزوره هو فيه!
فلما وافى موسى تلقاه أبوالحسن (ع) في قنطرة وصيف ، وهو موضع يتلقى فيه القادمون ، فسلم عليه ووفاه حقه ، ثم قال له : إن هذا الرجل قد أحضرك ليهتكك ويضع منك ، فلا تقر له أنك شربت نبيذاً قط.
فقال له موسى : فإذا كان دعاني لهذا فما حيلتي؟ قال : فلا تضع من قدرك ولا تفعل ، فإنما أراد هتكك ، فأبى عليه ، فكرر عليه. فلما رأى أنه لا يجيب قال : أما إن هذا مجلس لا تجمع أنت وهوعليه أبداً!
فأقام ثلاث سنين ، يبكر كل يوم فيقال له : قد تشاغل اليوم فَرُحْ فَيروح. فيقال : قد سكر فبكِّر ، فيبكر. فيقال : شرب دواءً! فما زال على هذا ثلاث سنين حتى قتل المتوكل ، ولم يجتمع معه عليه ».
أقول : لما رأى الإمام (ع) إصرار أخيه على المنكر ، وعلى إعطاء المتوكل مبرراً للطعن بإمامة العترة النبوية (ع) ، دعاعليه بأن لا يلتقي بالمتوكل أبداً ، وهو يعلم أن الله تعالى لا يردُّ له طلبة ، فأخبره بأنه لن يجتمع مع صاحبه الخليفة الخمَّار أبداً!
هذا ، وقد روي أن موسى المبرقع تاب بعد ذلك وأناب واستقام. وله ذرية كثيرة ، وفيهم أبرار وعلماء أجلاء.
٤. يتفاءل المتوكل بنفسه ويتشاءم بالإمام (ع)
« عن فارس بن حاتم بن ماهويه قال : بعث يوماً المتوكل إلى سيدنا أبي الحسن (ع) أن اركب وأخرج معنا إلى الصيد لنتبرك بك ، فقال للرسول : قل له إني راكب ، فلما خرج الرسول قال لنا : كذب ، ما يريد إلا غير ما قال! قالا : قلنا : يا مولانا فما الذي يريد؟ قال : يظهر هذا القول فإن أصابه خير نسبه إلى ما يريد بنا ما يبعده من الله ، وإن أصابه شرٌّ نسبه إلينا ، وهويركب في هذا اليوم ويخرج إلى الصيد فيرد هو وجيشه على قنطرة على نهر ، فيعبر سائر الجيش ولا تعبر دابته ، فيرجع ويسقط من فرسه فتزل رجله وتتوهن يداه ، ويمرض شهراً.
قال فارس : فركب سيدنا وسرنا في المركب معه والمتوكل يقول : أين ابن عمى المدني؟ فيقول له : سائرٌ يا أمير المؤمنين في الجيش ، فيقول : ألحقوه بنا ، ووردنا النهر والقنطرة ، فعبر سائر الجيش وتشعثت القنطرة وتهدمت ، ونحن نسير في أواخر الناس مع سيدنا ، ورُسل المتوكل تحثُّه ، فلما وردنا النهر والقنطرة امتنعت دابته أن تعبر ، وعبر سائر الجيش ودوابنا ، فاجتهدت رسل المتوكل عبور دابته فلم تعبر ، وعثر المتوكل فلحقوا به ، ورجع سيدنا ، فلم يمض من النهار إلا ساعات حتى جاءنا الخبر أن المتوكل سقط عن دابته وزلت رجله وتوهنت يداه ، وبقي عليلاً شهراً! وعتب على أبي الحسن (ع) قال : أبوالحسن (ع) إنما رجع عنا لئلا تصيبنا هذه السقطة فنشأم به ، فقال أبو الحسن (ع) : صدق الملعون ».
٥. وكانت أم المتوكل تعتقد بالإمام (ع) وتنذر له
روى في الكافي « ١ / ٤٩٩ » : « عن إبراهيم بن محمد الطاهري قال : مرض المتوكل من خَرَّاجٍ خرج به وأشرف منه على الهلاك ، فلم يجسر أحد أن يمسه بحديدة ، فنذرت أمه إن عوفي أن تحمل إلى أبي الحسن علي بن محمد مالاً جليلاً من مالها. وقال له الفتح بن خاقان : لو بعثت إلى هذا الرجل فسألته فإنه لا يخلوأن يكون عنده صفة يفرج بها عنك ، فبعث إليه ووصف له علته ، فرد إليه الرسول بأن يؤخذ كُسْبُ الشاة « بالضم عُصارة الدهن » فيداف بماء ورد ، فيوضع عليه.
فلما رجع الرسول فأخبرهم أقبلوا يهزؤون من قوله ، فقال له الفتح : هو والله أعلم بما قال. وأحضر الكسب وعمل كما قال ووضع عليه فغلبه النوم وسكن ، ثم انفتح وخرج منه ما كان فيه وبشرت أمه بعافيته ، فحملت إليه عشرة آلاف دينار تحت خاتمها. ثم استقل من علته فسعى به البطحائي العلوي ، بأن أموالاً تحمل إليه وسلاحاً ، فقال لسعيد الحاجب : أُهْجُمْ عليه بالليل وخذ ما تجد عنده من الأموال والسلاح ، واحمله إليَّ.
قال إبراهيم بن محمد : فقال لي سعيد الحاجب : صرت إلى داره بالليل ومعي سلم فصعدت السطح ، فلما نزلت على بعض الدرج في الظلمة ، لم أدر كيف أصل إلى الدار ، فناداني : يا سعيد مكانك حتى يأتوك بشمعة ، فلم ألبث أن أتوني بشمعة فنزلت فوجدته : عليه جبة صوف وقلنسوة منها وسجادة ، على حصير بين يديه ، فلم أشك أنه كان يصلي ، فقال لي : دونك البيوت فدخلتها وفتشتها فلم أجد فيها شيئاً ، ووجدت البدرة في بيته مختومة بخاتم أم المتوكل وكيساً مختوماً وقال لي : دونك المصلى ، فرفعته فوجدت سيفاً في جفن غير ملبس.
فأخذت ذلك وصرت إليه ، فلما نظر إلى خاتم أمه على البدرة بعث إليها فخرجت إليه ، فأخبرني بعض خدم الخاصة أنها قالت له : كنت قد نذرت في علتك لما آيست منك إن عوفيت حملت إليه من مالي عشرة آلاف دينار فحملتها إليه ، وهذا خاتمي على الكيس ، وفتح الكيس الآخر فإذا فيه أربعمائة دينار ، فضم إلى البدرة بدرة أخرى وأمرني بحمل ذلك إليه فحملته ، ورددت السيف والكيسين وقلت له : يا سيدي عَزَّ عليَّ! فقال لي : ﴿ … وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ﴾ 7 ».
أقول : البطحائي العلوي ، الذي افترى على الإمام (ع) هو مع الأسف : محمد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي (ع).
٦. بنى المتوكل عاصمة جديدة بالإجبار
من غطرسة المتوكل وبذخه : أنه قرر بناء عاصمة قرب سامراء ، وسماها سامراء وأجبر الناس على أن يبنوا بيوتهم فيها ، وكان يعطيهم نفقاتها ، أو قسماً منها.
فقال الإمام الهادي (ع) كما في الهداية / ٣٢٠ : « إن هذا الطاغية يبني مدينة يقال لها سامرا ، يكون حتفه فيها على يد ابنه المسمى بالمنتصر ، وأعوانه عليه الترك …
ثم كان من أمر بناء المتوكل الجعفري وما أمر به بني هاشم وغيرهم من الأبنية هناك ما تحدث به ، ووجه إلى أبي الحسن (ع) بثلاثين ألف درهم ، وأمره أن يستعين بها على بناء دار ، وركب المتوكل يطوف على الأبنية ، فنظر إلى دار أبي الحسن (ع) لم ترتفع إلا قليلاً ، فأنكر ذلك وقال لعبيد الله بن يحيى بن خاقان : عليَّ وعليَّ يميناً وأكدها : لئن ركبت ولم ترتفع دار أبي الحسن (ع) لأضربنَّ عنقه ، فقال له عبيد الله : يا أمير المؤمنين لعله في إضاقة ، فأمر له بعشرين ألف درهم وجه بها إليه مع أحمد ابنه ، وقال له : تحدثه بما جرى ، فصار إليه وأخبره بما جرى فقال : إنْ رَكِب فليفعل ذلك! ورجع أحمد إلى أبيه عبيد الله فعرفه ذلك ، فقال عبيد الله : ليس والله يركب »! أي قال رئيس الوزراء : إن المتوكل لن يركب ، لأنه يعرف أن الإمام (ع) يتكلم بإلهام من الله تعالى!
٧. حاول المتوكل إذلال الإمام (ع) فدعا عليه
« عن زرافة حاجب المتوكل وكان شيعياً أنه قال : كان المتوكل لحظوة الفتح بن خاقان عنده وقربه منه دون الناس جميعاً ، ودون ولده وأهله ، أراد أن يبين موضعه عندهم. فأمر جميع مملكته من الأشراف من أهله وغيرهم ، والوزراء والأمراء والقواد وسائر العساكر ووجوه الناس ، أن يَزَّينوا بأحسن التزيين ، ويظهروا في أفخر عُدَدهم وذخائرهم ، ويَخرجوا مشاة بين يديه ، وأن لا يَركب أحد إلا هو والفتح بن خاقان خاصة بسر من رأى!
ومشى الناس بين أيديهما على مراتبهم رَجَّالَة ، وكان يوماً قائظاً شديد الحر.
وأخرجوا في جملة الأشراف أبا الحسن علي بن محمد (ع) وشقَّ ما لقيه من الحر والزحمة. قال زرافة : فأقبلت إليه وقلت له : يا سيدي يعز والله عليَّ ما تلقى من هذه الطغاة ، وما قد تكلفته من المشقة ، وأخذت بيده فتوكأ عليَّ وقال : يا زرافة ما ناقة صالح عند الله بأكرم مني ، أوقال بأعظم قدراً مني ، ولم أزل أسائله وأستفيد منه ، وأحادثه إلى أن نزل المتوكل من الركوب وأمر الناس بالإنصراف. فقدمت إليهم دوابهم فركبوا إلى منازلهم ، وقدمت بغلة له فركبها وركبت معه إلى داره فنزل وودعته وانصرفت إلى داري ، ولوُلدي مؤدبٌ يتشيع من أهل العلم والفضل ، وكانت لي عادةٌ بإحضاره عند الطعام ، فحضر عند ذلك وتجارينا الحديث ، وما جرى من ركوب المتوكل والفتح ، ومشي الأشراف وذوي الأقدار بين أيديهما ، وذكرت له ما شاهدته من أبي الحسن علي بن محمد وما سمعته من قوله : ما ناقة صالح عند الله بأعظم قدراً مني. وكان المؤدب يأكل معي فرفع يده وقال : بالله إنك سمعت هذا اللفظ منه؟ فقلت له : والله إني سمعته يقوله ، فقال لي : إعلم أن المتوكل لا يبقى في مملكته أكثر من ثلاثة أيام ويهلك! فانظر في أمرك وأحرز ما تريد إحرازه وتأهب لأمرك كي لا يفجؤكم هلاك هذا الرجل فتهلك أموالكم بحادثة تحدث أوسبب يجري.
فقلت له : من أين لك ذلك؟ فقال : أما قرأت القرآن في قصة صالح والناقة وقوله تعالى : تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ. ولا يجوز أن تبطل قول الإمام (ع)! قال زرافة ، فوالله ما جاء اليوم الثالث حتى هجم المنتصر ومعه بغا ووصيف والأتراك على المتوكل فقتلوه وقطعوه ، والفتح بن خاقان جميعاً ، قطعاً حتى لم يعرف أحدهما من الآخر ، وأزال الله نعمته ومملكته!
فلقيت الإمام أبا الحسن (ع) بعد ذلك وعرفته ما جرى مع المؤدب وما قاله ، فقال : صدق إنه لما بلغ مني الجهد رجعت إلى كنوز نتوارثها من آبائنا هي أعز من الحصون والسلاح والجنن ، وهودعاء المظلوم على الظالم ، فدعوت به عليه فأهلكه الله » 8.
وفي الخرائج : ١ / ٤٠٢ : ذكر زرافة حديثه مع مؤدبه وقال : « فغضبت عليه وشتمته وطردته من بين يدي ، فخرج. فلما خلوت بنفسي تفكرت وقلت : ما يضرني أن آخذ بالحزم ، فإن كان من هذا شئ كنت قد أخذت بالحزم ، وإن لم يكن لم يضرني ذلك ، قال : فركبت إلى دار المتوكل فأخرجت كل ما كان لي فيها ، وفرقت كل ما كان في داري إلى عند أقوام أثق بهم ، ولم أترك في داري إلا حصيراً أقعد عليه. فلما كانت الليلة الرابعة قتل المتوكل وسلمت أنا ومالي ، فتشيعت عند ذلك وصرت إليه ، ولزمت خدمته ، وسألته أن يدعولي وتوليته حق الولاية ».
وفي الثاقب / ٥٣٩ : « سمعت من سعيد الصغير الحاجب قال : دخلت على سعيد بن صالح الحاجب فقلت : يا أبا عثمان قد صرت من أصحابك ، وكان سعيد يتشيع. فقال : هيهات! قلت : بلى والله. فقال : وكيف ذلك؟ قلت : بعثني المتوكل وأمرني أن أكبس على علي بن محمد بن الرضا فأنظر ما فعل ، ففعلت ذلك فوجدته يصلي فبقيت قائماً حتى فرغ ، فلما انفتل من صلاته أقبل عليَّ وقال : يا سعيد ، لا يكف عني جعفر أي المتوكل حتى يقطع إرباً إرباً! إذهب واعزب ، وأشار بيده الشريفة فخرجت مرعوباً ودخلني من هيبته ما لا أحسن أن أصفه! فلما رجعت إلى المتوكل سمعت الصيحة والواعية ، فسألت عنه فقيل : قتل المتوكل ، فرجعنا وقلتُ بها ».
أقول : كذب سعيد ، فقد كان جلوازاً سيَّافاً عند بني العباس ، ثم ادعى التشيع!
وفي الخرائج : ١ / ٤١٢ : « حدثنا ابن أرومة قال : خرجت أيام المتوكل إلى سر من رأى فدخلت على سعيد الحاجب ودفع المتوكل أبا الحسن إليه ليقتله ، فلما دخلت عليه ، قال : تحب أن تنظر إلى إلهك؟ قلت : سبحان الله إلهي لا تدركه الأبصار. قال : هذا الذي تزعمون أنه إمامكم! قلت : ما أكره ذلك. قال : قد أمرت بقتله وأنا فاعله غداً وعنده صاحب البريد فإذا خرج فادخل إليه.
فلم ألبث أن خرج قال : أدخل ، فدخلت الدار التي كان فيها محبوساً فإذا هو ذا بحياله قبر يحفر ، فدخلت وسلمت وبكيت بكاءً شديداً ، قال : ما يبكيك؟ قلت : لما أرى. قال : لا تبك لذلك فإنه لا يتم لهم ذلك. فسكن ما كان بي فقال : إنه لا يلبث أكثر من يومين حتى يسفك الله دمه ودم صاحبه الذي رأيته. قال : فوالله ما مضى غير يومين حتى قتل وقتل صاحبه ».
٨. أظهر الله قدرة وليه (ع) فخاف الطاغية
روى الخصيبي في الهداية الكبرى / ٣٢٢ : « عن الحسن بن مسعود وعلي وعبيد الله الحسني ، قال : دخلنا على سيدنا أبي الحسن (ع) بسامرا وبين يديه أحمد بن الخصيب ومحمد وإبراهيم الخياط ، وعيونهم تفيض من الدمع ، فأشار الينا (ع) بالجلوس فجلسنا وقال : هل علمتم ما علمه إخوانكم؟ فقلنا : حدثنا منه يا سيدنا ذكراً. قال : نعم ، هذا الطاغي قال مسمعاً لحفدته وأهل مملكته : تقول شيعتك الرافضة إن لك قدرة ، والقدرة لا تكون إلا لله ، فهل تستطيع إن أردت بك سوءً أن تدفعه؟ فقلت له : وإن يمسك الله بسوء فلا كاشف له إلا هو.
فأطرق ثم قال : إنك لتروي لكم قدرة دوننا ، ونحن أحق به منكم ، لأننا خلفاء وأنتم رعيتنا. فأمسكت عن جوابه ، لأنه أراد أن يبين جبره بي ، فنهضت فقال : لتقعدن وهو مغضب ، فخالفت أمره وخرجت ، فأشار إلى من حوله : الآن خذوه ، فلم تصل أيديهم إليَّ وأمسكها الله عني! فصاح : الآن قد أريتنا قدرتك والآن نريك قدرتنا ، فلم يستتم كلامه حتى زلزلت الأرض ورجفت!
فسقط لوجهه ، وخرجتُ فقلت : في غدٍ الذي يكون له هنا قدرة يكون عليه الحكم لا له. فبكينا على إمهال الله له وتجبره علينا وطغيانه.
فلما كان من غد ذلك اليوم ، فأذن لنا فدخلنا فقال : هذا ولينا زرافة يقول إنه قد أخرج سيفاً مسموماً من الشفرتين ، وأمره أن يرسل إليَّ فإذا حضرت مجلسه أخلى زرافة لأمته مني ودخل إلي بالسيف ليقتلني به ، ولن يقدر على ذلك.
فقلنا : يا مولانا إجعل لنا من الغم فرجاً. فقال : أنا راكب إليه فإذا رجعت فاسألوا زرافة عما يرى. قال : وجاءته الرسل من دار المتوكل ، فركب وهويقول : إن كيد الشيطان كان ضعيفاً. ولم نزل نرقب رجوعه إلى أن رجع ومضينا إلى زرافة فدخلنا عليه في حجرة خلوته فوجدناه منفرداً بها واضعاً خده على الأرض يبكي ويشكر الله مولاه ويستقيله ، فما جلس حتى أتينا إليه فقال لنا : أجلسوا يا إخواني حتى أحدثكم بما كان من هذا الطاغي ، ومن مولاي أبي الحسن (ع) ، فقلنا له : سُرَّنَا سَرَّك الله ، فقال : إنه أخرج إلي سيفاً مسموم الشفرتين وأمرني ليرسلني إلى مولاي أبي الحسن إذا خلا مجلسه فلا يكون فيه ثالث غيري وأعلومولاي بالسيف فأقتله. فانتهيت إلى ما خرج به أمره إليَّ فلما ورد مولاي للدار وقفت مشارفاً فاعلم ما يأمر به ، وقد أخليت المجلس وأبطأت ، فبعث إلي هذا الطاغي خادماً يقول إمض ويلك ما آمرك به. فأخذت السيف بيدي ودخلت ، فلما صرت في صحن الدار ورآني مولاي فركل برجله وسط المجلس فانفجرت الأرض ، وظهر منها ثعبان عظيم فاتحٌ فاه ، لوابتلع سامرا ومن فيها لكان في فيه سعة ، لا ترى مثله! فسقط المتوكل لوجهه ، وسقط السيف من يده ، وأنا أسمعه يقول : يا مولاي ويا ابن عمي ، أقلني أقالك الله ، وأنا أشهد أنك على كل شئ قدير! فأشار مولاي بيده إلى الثعبان فغاب ، ونهض وقال : ويلك ذلك الله رب العالمين. فحمدنا الله وشكرناه ».
٩. لقد فاخرتنا من قريش عصابة
« دخل (ع) يوماً على المتوكل فقال : يا أبا الحسن من أشعر الناس ، وكان قد سأل قبله ابن الجهم فذكر شعراء الجاهلية وشعراء الإسلام ، فلما سأل الإمام (ع) قال : فلان بن فلان العلوي. قال ابن الفحام : وأحسبه الحماني قال : حيث يقول :
لقد فَاخَرَتْنَا من قريشٍ عُصَابَةٌ *** بِمَطِّ خُدُودٍ وامتدادِ أصابعِ
فلما تنازعنا القضاءَ قضى لنا *** عليهم بما نهوى نداءُ الصوامع
قال : وما نداء الصوامع ، يا أبا الحسن؟ قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، جدي أم جدك؟فضحك المتوكل ثم قال : هوجدك لاندفعك عنه » 9.
قال السيد الأمين في أعيان الشيعة « ١ / ١٨٥ » : « وَالحِمَّاني : علي بن محمد بن جعفر بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين (ع) الذي كان يقول : أنا شاعر وأبي شاعر وجدي شاعر إلى أبي طالب. والذي شهد له الهادي (ع) أمام المتوكل بأنه أشعر الناس لقوله من أبيات .. فلما تنازعنا الحديث قضى لنا …
وقال في أعيان الشيعة « ٨ / ٣١٦ » : « علي بن محمد بن جعفر بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين (ع) المعروف بالحِمَّاني ، نسبة إلى حِمَّان بكسر الحاء وتشديد الميم قبيلة بالكوفة نزلها. توفي سنة ٢٦٠ ، كما قال ابن الأثير ، كان فاضلاً أديباً شاعراً وشهد له الإمام أبوالحسن (ع) الثالث في التفضيل في الشعر. وذكر تتمة البيتين :
وإنا سكوتٌ والشهيدُ بفضلنا *** عليهم جهيرُ الصوت في كل جامع
فإنَّ رسولَ الله أحمدُ جدُّنا *** ونحنُ بنوهُ كالنجوم الطوالع
وقال : قوله وأنشد له المرتضى في الفصول المختارة من كتاب المجالس ، وكتاب العيون والمحاسن للمفيد :
يا آلَ حم الذين بحبهمْ *** حَكَمَ الكتابُ مُنزلاً تنزيلا
كان المديحُ حُلَى الملوك وكنتمُ *** حُلَلَ المدائح عِزَّةً وجُمولا
بيتٌ إذا عَدَّ المآثرَ أهلُها *** عَدُّوا النبيَّ وثانياً جبريلا
قومٌ إذا اعتدلوا الحمايلَ أصبحوا *** متقسمين خَلَيفةً ورسولا
نشأوا بآيات الكتاب فما انثنوا *** حتى صدرنَ كُهولةً وكُهولا
ثقلانِ لن يتفرقا أو يُطْفِيَا *** بالحوض من ظمإِ الصدورِ غليلا
وخليفتان على الأنام بقوله *** بالحق أصدقُ من تكلم قيلا
فاقوا أكفَّ الآيسين فأصبحوا *** لايعدلون سوى الكتاب عديلا ».
ورواها في مناقب آل أبي طالب « ٢ / ٣٣٩ » وأنشد له ابن عنبة في عمدة الطالب / ٣٠١ :
« لنا من هاشمٍ هَضَبَاتُ عِزٍّ*** مُطَنَّبَةٌ بأبراجِ السماءِ
تُطيفُ بنا الملائكُ كلَّ يَوْمٍ *** ونُكفَلُ في حُجُورِ الأنبياء
ويَهتزُّ المقامُ لنا ارتياحاً *** ويلقانا صَفَاهُ بالصَّفاء ».
١٠. هيأ له المعتز علوجاً ليقتلوه فهابوه وسجدوا له
روى في الثاقب في المناقب / ٥٥٦ : « عن أبي العباس فضل بن أحمد بن إسرائيل الكاتب قال : كنا مع المعتز ، وكان أبي كاتبه ، فدخلنا الدار والمتوكل على سريره قاعد ، فسلم المعتز ووقف ووقف خلفه ، وكان عهدي به إذا دخل عليه رحب به وأمره بالقعود ، ونظرت إلى وجهه يتغير ساعة بعد ساعة ، ويقبل على الفتح بن خاقان ويقول : هذا الذي يقول فيه ما يقول ، ويرد عليه القول ، والفتح مقبل عليه يسكنه ويقول : مكذوب عليه يا أمير المؤمنين. وهو يتلظى ويقول : والله لأقتلن هذا المرائي الزنديق ، وهوالذي يدعي الكذب ، ويطعن في دولتي.
ثم قال : جئني بأربعة من الخزر وأجلاف لا يفقهون ، فجئ بهم ودفع إليهم أربعة أسياف ، وأمرهم أن يرطنوا بألسنتهم إذا دخل أبوالحسن ، وأن يقبلوا عليه بأسيافهم فيخبطوه ويقتلوه ، وهويقول : والله لأحرقنه بعد القتل ، وأنا منتصب قائمٌ خلفه من وراء الستر ، فما علمت إلا بأبي الحسن (ع) قد دخل ، وقد بادر الناس قدامه فقالوا : جاء! والتفتُّ ورائي وهوغير مكترث ولا جازع ، فلما بصر به المتوكل رمى بنفسه من السرير إليه وهو بسيفه فانكب عليه يقبل بين عينيه ، واحتمل يده بيده وهويقول : يا سيدي ، يا ابن رسول الله ، ويا خير خلق الله يا ابن عمي يا مولاي ، يا أبا الحسن ، وأبوالحسن يقول : أعيذك بالله يا أمير المؤمنين من هذا! فقال : ما جاء بك يا سيدي في هذا الوقت؟ قال : جاءني رسولك ، فقال المتوكل : كذب ابن الفاعلة ، إرجع يا سيدي من حيث جئت.
يا فتح ، يا عبد الله ، يا معتز ، شيعوا سيدي وسيدكم. فلما بصر به الخزر خروا سجداً مذعنين ، فلما خرج دعاهم المتوكل ، ثم أمر الترجمان أن يخبره بما يقولون ، ثم قال لهم : لم لا تفعلوا ما أمرتكم به؟ قالوا : لشدة هيبته ، ورأينا حوله أكثر من مائة سيف لم نقدر أن ننالهم ، فمنعنا ذلك عما أمرنا به ، وامتلأت قلوبنا رعباً من ذلك. فقال المتوكل : هذا صاحبكم ، وضحك في وجه الفتح ، وضحك الفتح في وجهه وقال : الحمد لله الذي بيض وجهه ، وأنار حجته ».
رووا أن الإمام (ع) مدح العباس
قال الذهبي في سيره « ١٢ / ٣٨ » : « قال المبرد : قال المتوكل لعلي بن محمد بن الرضا : ما يقول ولد أبيك في العباس؟ قال : ما تقول يا أمير المؤمنين في رجل فرض الله طاعته على نبيه (ص) وذكر حكاية طويلة ، وبكى المتوكل ، وقال له : يا أبا الحسن لينت منا قلوباً قاسية ، أعليك دين؟ قال : نعم ، أربعة آلاف دينار ، فأمر له بها ».
أقول : إذا صح ذلك فهو تقية جائزة للتخلص من قرار المتوكل بقتله (ع) ، ويكون معنى : فرض طاعته على نبيه (ص) ، أي طاعة الله تعالى لا طاعة العباس 10 .
- 1. محاضرات الراغب : ١ / ٥٣١ .
- 2. ورواه في الأمثال للميداني : ١ / ٦٣٠ ، والمستقصى للزمخشري / ٣٣٤ ، وطبقات الأطباء : ١ / ١٥٤ : والمنمق في أخبار قريش لابن حبيب : ١ / ١٧٢ ، والتذكرة الحمدونية / ١٤٩٧ ، وتاريخ دمشق : ١٩ / ١٨٩ .
- 3. القران الكريم: سورة غافر (40)، الآية: 21، الصفحة: 469.
- 4. القران الكريم: سورة التوبة (9)، الآية: 36، الصفحة: 192.
- 5. خلاصة الأقوال للعلامة / ٣٦٤ .
- 6. واليافعي في مرآة الجنان : ٢ / ١١٩ ، والقلقشندي في معالم الخلافة : ١ / ٢٣٢ ، والأبشيهي في المستطرف : ٢ / ٨٧٤ ، وغيرهم ، وغيرهم.
- 7. القران الكريم: سورة الشعراء (26)، الآية: 227، الصفحة: 376.
- 8. مهج الدعوات / ٢٦٧ .
- 9. أمالي الطوسي / ٢٨٧ ، ومناقب آل أبي طالب : ٣ / ٥١٠ ، والمحاسن والمساوئ للبيهقي : ١ / ٤٦ ، وفي طبعة / ٧٨ ، والمحاسن والأضداد للجاحظ : ١ / ١٤٧ ، ومصادر أخرى .
- 10. الامام الهادي (عليه السلام) عمر حافل بالجهاد و المعجزات، الشيخ علي الكوراني العاملي، سنة 1434 الهجرية، الفصل الثالث .