قال الله تعالى في محكم كتابه:﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ ﴾ 1.
تتعرض هذه الآيات لبيان الفارق بين الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة من حيث المنشأ والآثار المترتبة على كل منهما، وقد شبّه الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة المثمرة الضاربة جذورها في الأرض والممتدة أغصانها المليئة بالثمر المفيد النافع، وشبّه الكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة التي ليس لها جذور قوية واضحة في التربة ولا تنبت إلا نباتاً غير طيب وغير مفيد، بل قد ينتج عنها الضرر والفساد للصحة وللجسم.
وقد فسرت الكلمة الطيبة بتفسيرات عديدة، فبعضهم قال بأنها شهادة أن لا إله إلا الله، وآخرون بأنها (الإيمان)، وفسرها بعضهم بأنها (القرآن) وذهب بعض آخر إلى أنها (كل كلمة حسنة)، وقيل غير ذلك.
وقد فسّرت (الكلمة الطيبة) بما يقابل المعنى من الكلمة الخبيثة، كنتيجة لا بد منها وفق سياق النظم والمعنى المراد من كل منهما.
والذي نهدف إليه هو أن الكلمة تلعب دوراً كبيراً وخطيراً في حياة الناس نظراً لقابلية استعمالها في موارد الخير تارة وفي موارد الشر تارة أخرى، لأنها الوسيلة المتعارفة لإيصال الفكر وللتخاطب مع الآخرين، وهي لهذا تكتسب موقعية مميزة تتعلق بمصير الإنسان ذاته وبتوجهاته الفكرية وسلوكياته الاجتماعية والأخلاقية.
فالمؤمن المسلم يستعمل الكلمة لتكون المفتاح الذي يلج به عقول الآخرين وقلوبهم لينفتحوا من خلال الكلمة الطيبة الهادئة الرصينة على الله في كل مجالات الحياة، مستعملين في ذلك طريق الحكمة والجدال بالتي هي أحسن كما طلب الله ذلك، كما في قوله تعالى:﴿ ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ … ﴾ 2، لأن الكلمة الطيبة تجد صدىً لها ومحلاً في القلوب مهما كانت منحرفة وفي النفوس مهما كانت فاسدة، ونجد طريقها إلى العقل مهما كان الشيطان مستقراً فيه ومعشعشاً داخله، لأن الكلمة الطيبة لها فعل عجيب وخاصية متميزة من حيث قوى التأثر والجذب وقدرة الإقناع للآخرين عندما تصاغ بالصياغات الرسالية الهادفة المتضمنة للكشف عن العيوب والمفاسد التي تعترض طريق الإنسان في سيره نحو الله في هذه الحياة الدنيا.
لهذا نرى أن الإسلام لا يريد للكلمة أن تخرج من هذا الإطار الجمالي ومن هذه الصورة المرهفة الإحساس لتصبح آداة لنشر الفتنة ولبثّ الأحقاد وتوزيع التهم الباطلة يميناً وشمالاً بحيث تتضعضع حياة الناس وتتعرض المسيرة الاجتماعية للتزلزل وفقدان الثقة من النفوس، لأنه بهذه الطريقة تصبح الكلمة سلاحاً مدمراً فتاكاً، بل أشد فتكاً من أسلحة القتل والدمار، لأن الكثير من هذه الأسلحة القاتلة إنما تحركها الكلمة الخبيثة المنطلقة من المقاصد والأهداف والغايات الشريرة التي لا تقيم وزناً لحياة الناس أو لأمنهم وسلامتهم.
من هنا، فإن الكلمة عندما تكون منطلقة من المواقع المسؤولة والمدافعة عن الأهداف الرسالية السامية لا يمكن على الإطلاق مقارنتها بتلك الكلمة الخبيثة المشبعة بالسموم والمليئة بالأكاذيب التي تريد أن تنشر اليأس والإحباط، بل إن المساواة في الحكم عليهما هو نوع شديد من الظلم الذي يرتكبه غير القادرين على فهم الفروقات الموضوعية والآثار المترتبة على كل واحد منهما.
إن الكلمة الطيبة هي عبارة عن الحرية المسؤولة العارفة من أين تنطلق وإلى ما تهدف، وليست الكلمة المنفلتة والمتحررة من الضوابط الموضوعية والموازين الأخلاقية، لأن الكلمة الطيبة هي التي تحمل القدرة على كشف الأضاليل من جهة، وعلى التقريب بين المتباعدين من جهة أخرى، وهي المتمكنة عند عرضها بشرطها وشروطها أن تحقق الغايات الإيمانية والأهداف الاجتماعية منها.
إن كل وسائل إيصال الكلمة المعبر عنها بـ (وسائل الإعلام) هي التي ينبغي التوقف عندها للنظر في أمرها ملياً فما كان منها مسخراً لإيصال الكلمة الخبيثة التي لا تخدم إلا أهداف الأعداء لأنها الناطق باسمهم والمروّج لهم ما يريدون به اختراق مجتمعاتنا ينبغي إسكات أبواقها لمنعها من ممارسة هذا الدور التخريبي الهدام، لأنها لا تنطلق من مواقع الحرية المسؤولة والواعية والهادفة، وإنما تنطلق من أهداف شيطانية رخيصة. وأما ما كان منها مسخرا لإيصال الكلمة الطيبة التي تخدم أهداف الأمة وتعزز قوتها وتزيد من صمودها ومنعتها، فمثل هذه الوسائل هي التي ينبغي أن تفتح أمامها كل الأبواب لأنها تنتج كل ما يجعل الأمّة متماسكة وقوية وساعية نحو الأهداف المطلوبة، ومثل هذه الوسائل المخلصة هي التي تستطيع أن تكون خير معين عند هجوم المتسللين في عتمة الليل ليبثّوا أحقادهم ويوزعوا جرائمهم ثم يتهمون المخلصين للوصول إلى مآربهم وأغراضهم البعيدة عن كل الجو الذي ينبغي أن تكون فيه الأمّة.
والحمد لله رب العالمين3
- 1. القران الكريم: سورة ابراهيم (14)، الآيات: 24 – 26، الصفحة: 258.
- 2. القران الكريم: سورة النحل (16)، الآية: 125، الصفحة: 281.
- 3. نقلا عن موقع سبل السلام لسماحة الشيخ محمد التوفيق المقداد (حفظه الله).