مقالات

القضاء والقدر…

قال الله تعالى : ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ 1 .

ركنا السعادة

إن التربية أحد ركني السعادة ، فالسعادة البشرية ترتكز على ركنين مهمين هما : الوراثة و التربية . و فصلنا القول نوعاً ما في البحث عن الوراثة فيما مضى . و لكنا سنبحث عن أهمية العامل الثاني المؤثر في سلوك الفرد ، و هو التربية .
إن أهمية التربية قد تتجاوز أهمية الوراثة إلى درجة أن بامكانها أن توقف قانون الوراثة إلى حد ما . فتتغلب عليه و تضطره إلى الانسحاب من الميدان حسب درجة قوتها و إصالتها إلا في الموارد التي تكون الصفات الوراثية ذات طابع حتمي ( أي لا يمكن أن تتغير في الطفل مهما كانت العوامل الأخرى قوية ) .
ففي هذه الصور ، حيث تعتبر تلك الصفات الوراثية قضاء حتمياً و قدراً لازماً بالنسبة للطفل تقف التربية عن التأثير أيضاً .
و لأجل أن نلفت أذهان المستمعين الكرام إلى هذه الحقيقة بصورة أوضح لابد من البحث بصورة موجزة عن القضاء و القدر و المصير ، ثم ندخل إلى صلب الموضوع . فهناك الكثيرون ممن يؤدي بهم الجحود أو الجهل إلى أن ينكروا تاثير القضاء و القدر إنكاراً تاماً زاعمين أنهما أمران وهميان لا أكثر . كما أن هناك طائفة أخرى في قبال هذه الطائفة تخضع جميع الوقائع و الأحداث ـ جهلاً بحقائق الدين و العلم ـ إلى القضاء و القدر الحتميين ، و يرون أن البشر عاجز عن مقابلتها أو حفظ نفسه عنها . و لكن الواقع أن العالم كله يدور على أساس القضاء و القدر و على أساس مقاييس و قوانين دقيقة .

معنى القدر

يقول الله تعالى في القرآن الحكيم : ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ 2
فأصغر الذرات الأرضية و أكبر الأجرام السماوية قد خلقت كلها على أساس مقياس دقيق و تقدير صحيح ، كل قد انتظم في مكانه الخاص به … و هذا هو معنى القدر . إن عالماً فلكياً يستفيد من هذا التقدير العظيم و الحساب الدقيق فيتوصل بمحاسباته الرياضية إلى التنبؤ عن وقت خسوف القمر ومدة الخسوف و مقداره قبل أشهر عديدة . فإذا لم يكن وضع الشمس و حركة القمر على أساس نظام متين ثابت لا يتغير ، فانه يستحيل على الفلكي أن يصل إلى هذا التنبؤ . و بهذا الصدد يتحدث القران الكريم عن حركة الشمس و القمر فيقول : ﴿ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ﴾ 3 .
و هكذا ، فإذا وجدنا الفضاء الفسيح بأجرامه العظيمة منظماً و ثابتاً ، و إذا كانت قطعة من الحجر تنسحب من الفضاء إلى المركز بفعل جاذبية الأرض ، و إذا خرجت البذرة من تحت سطح الأرض بصورة نبتة ، و إذا وجدنا النطفة تنمو في رحم الحيوان أو الانسان فتتحول إلى موجود كامل … فذلك كله يسير طبق القوانين والسنن الالهية وكلها مظاهر لقضاء الله و قدره . إذن فالعالم يسير بموجب القضاء و القدر و كل يجري إلى مصيره المعين له بحسب التقدير الإلهي .

الجبر و التفويض

و أحد الموجودات في هذا العالم هو الإنسان ، ترتبط كل قواه و أفعاله ، وجميع حركاته و سكناته بالقضاء و القدر الإلهيين . فدقات القلب و دوران الدم ، و الاحساس في العصب ، و الهضم في المعدة ، و التصفية في الكبد ، و الإبصار بواسطة العين ، و السماع بواسطة الأذن … كل أولئك يسير حسب قضاء الله و قدره ، و لكن النقطة المهمة في البحث هي أن القضاء و القدر ينقسم بالنسبة إلى الانسان إلى قسمين :
فقسم منه يتسم بطابع الحتمية و الجبرية حيث يجري من غير إرادة الإنسان و اختياره ، و قسم آخر جعله الله تعالى طوع إرادتنا و خاضعاً لاختيارنا .
و لنأخذ مثلاً على ذلك : اللسان ، فهو عضو من أعضائنا و جزء من بدننا و له مقدرات كثيرة . فأحد تلك المقدرات جريان الدم في عروقه . و منها أيضاً تكلمه . أما جريان الدم في عروق اللسان فهو خارج عن إرادتنا و إختيارنا ، فالدم يجري في الأوعية الدموية الموجودة في اللسان سواء شئنا أم أبينا . و هنا ( في دوران الدم في اللسان ) قضاءان : الأول جريان الدم في عروق اللسان بالتقدير الإلهي . و الثاني جبرية هذا الدوران وحتمية في اللسان بالتقدير الإلهي أيضاً حيث لا مجال لإرادتنا و اختيارنا فيه .
هذا هو أحد المقدرات بالنسبة إلى اللسان ، و قد عرفنا التقدير الإلهي فيه .
و أما المقدر الآخر فهو صدور التكلم منه . و لكن الواضح أن التكلم نفسه خاضع لإرادتنا ، فبإمكاننا أن نتكلم ، و بإمكاننا أن نسكت . كما أننا نستطيع أن نصدق في كلامنا ، و نستطيع أن نكذب . فهنا أيضاً ( في تكلم اللسان ) قضاءان : الأول صدور التكلم من اللسان بالتقدير الإلهي . و الثاني اختيارية التكلم ، و إراديته أيضاً بالتقدير الإلهي .
و من هنا يتضح جلياً أن القضاء و القدر قد يجريان بصورة جبرية .
و أحياناً يقع القضاء الحتمي بواسطة قدر اختياري لنا . فمثلاً نجد أن الموت أمر مسلم و حتمي على جميع البشر بحكم القضاء الإلهي ، و هو صريح قوله تعالى : ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ … ﴾ 4 . و لكن هذا القضاء الحتمي قد يتم بنحو الموت الطبيعي و انقطاع النشاط الحيوي . كما يمكن أن يتم بإرادة و اختيار من قبل شاب يملك من القوة و سلامة البدن ما تجعل باستطاعته أن يعيش سنين طوالاً فيقدم على الانتحار .
و هكذا فالشيخ الذي عمر مائة سنة حتى مات حتف أنفه ، و الشاب الذي لم يعش أكثر من عشرين سنة حتى انتحر بإرادته و اختياره متساويان في أنهما ماتا بقضاء الله و قدره ، مع فارق واحد و هو أنه في الصورة الأولى كان القضاء و القدر حتميين غير اختياريين ، بينما في الصورة الثانية إستغل الشاب حرية الاختيار بالنسبة إلى القضاء و القدر و أنهى بذلك حياته .
و على هذا يجب أن لا نستغرب من قول الراوي عن الرضا ( عليه السلام ) حيث يقول : « سمعت الرضا عليه السلام يقول : كان علي بن الحسين ( عليه السلام ) إذا ناجى ربه قال : أللهم إني قويت على معاصيك بنعمك » 5 . و معنى هذه الرواية أن الذي يقدم على المعصية إنما يستغل نعمة الحرية و الاختيار التي وهبها الله له بالقضاء و القدر استغلالاً سيئاً ، فيصاب بالانحراف .

إرادتنا و اختيارنا

النقطة التي تزل عليها الأقدام ـ غالباً ـ هي أن الناس متى سمعوا إسم القضاء و القدر ظنوا أنه حتمي و جبري . في حين أن الحق ليس كذلك ، فقد يتمثل القضاء و القدر الإلهي في اختيار الناس وإرادتهم . و هناك حديث عن الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) يؤيد هذا الموضوع بوضوح :
« عن أمير المؤمنين أنه قال لرجل ـ سأله بعد انصرافه من الشام ـ فقال : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن خروجنا إلى الشام أكان بقضاء و قدر ؟ قال عليه السلام : نعم يا شيخ ، ما علوتم تلعة و لا هبطتم وادياً إلا بقضاء الله و قدره … فقال الشيخ : عند الله احتسب عنائي يا أمير المؤمنين ؟ » أي : فليس لأتعابنا التي تحملناها في سفرنا هذا من أجر عند الله … ؟
فيجيب الامام ( عليه السلام ) :
« مه يا شيخ ، فان الله قد عظم أجركم في مسيركم وأنتم سائرون ، وفي مقامكم وأنتم مقيمون ، وفي انصرافكم وأنتم منصرفون ، ولم تكونوا في شيء من أموركم مكرهين ولا إليه مضطرين ، لعلك ظننت أنه قضاء حتم و قدر لازم ؟! لو كان ذلك لبطل الثواب و العقاب ، و لسقط الوعد و الوعيد » 6 .
فنجد الامام عليه السلام في هذا الحديث ينسب جميع الأفعال الارادية للبشر إلى القضاء والقدر الالهي . و لكنه مع ذلك يقول : إن هذا القضاء لم يكن حتمياً و القدر لم يكن لازماً . و بنفس المضمون ورد حديث آخر عن الامام الرضا عليه السلام يسأل فيه الراوي عن معنى الأمر بين الأمرين فيقول : « فما أمر بين أمرين ؟ فقال : وجود السبيل إلى إتيان ما أمروا و ترك ما نهوا عنه » 7 .
الأمر بين الأمرين 8 :
و هنا يسأل الراوي : « فقلت له : فهل لله عز وجل مشية وإرادة في ذلك ؟ فقال : أما الطاعات فإرادة الله ومشيته فيها : الأمر بها ، و الرضا لها ، و المعاونة عليها ، و إرادته ومشيته في المعاصي النهي عنها ، و السخط لها ، و الخذلان عليها » فهذه الفقرة تبين إرادة الله في أعمال البشر و كيفية التأثير عليها … « قلت : فلله عز و جل فيها القضاء ؟! قال : نعم ، ما من فعل يفعله العبد من خير و شر إلا و لله فيه قضاء . قلت : فما معنى هذا القضاء ؟! قال : الحكم عليهم بما يستحقونه على أفعالهم من الثواب و العقاب في الدنيا و الآخرة » 7 .
فنجد أن الامام الرضا عليه السلام يسند جميع الأفعال الصالحة و الطالحة للبشر إلى القضاء الالهي بكل صراحة فإن قضاء الله في أعمال البشر هو حريتهم … تلك الحرية ، و ذلك الاختيار اللذين يستحق بهما الثواب في الطاعة و العقاب في المعصية .

القضاء الالهي

و لأجل أن يتضح الموضوع للمستمعين الكرام بصورة أحسن نضرب مثالاً على الانتحار . فلو أن شخصاً رمى بنفسه من فوق سطح العمارة إلى الأرض المبلطة بالرخام ، و قال في نفسه : لو كان المقدر لي أن أموت فاني ألاقي حتفي و إن لم أرم بنفسي من فوق السطح ، و إن كان المقدر أن أبقى حياً فاني سأستمر على الحياة و إن رميت نفسي من على السطح … ففي ذلك خطأ فظيع . لأن لله تعالى عدة مقدرات جبرية بهذا الشأن ، و مقدر اختياري واحد . أما المقدرات الجبرية فهي عبارة عن :
1 ـ إن القضاء والقدر الالهيين قد جعلا الرخام الذي يغطي ساحة هذه القاعة صلباً و قوياً .
2 ـ خلقت جمجمة الانسان بموجب القضاء و القدر من عظم دقيق قابل للتهشم .
3 ـ القضاء والقدر أكسب الأرض قوة الجاذبية ، حيث تجذب الأجسام التي في الفضاء ، إليها .
4 ـ إن القضاء و القدر الالهيين يحكمان بأن كل من يرمي بنفسه من مكان شاهق إلى أرض صلبة تتكسر جمجمته و يتلاشي مخه .
5 ـ القضاء و القدر الالهيين يقضيان بموت الانسان عند تلاشي مخه . هذه هي الأقدار الالهية الحتمية و الجبرية بالنسبة إلى حادثة الانتحار .
6 ـ القضاء و القدر الالهيان يحكمان بأن للانسان الارادة و الاختيار الكاملين ، فله أن يرمي بنفسه من السطح ويموت أو يمتنع عن ذلك فينزل من السلم درجة درجة .
إذن ، يجب أن نقول لذلك الشخص الواقف على السطح لغرض إلقاء نفسه إلى الأرض : إن القضاء الالهي بالنسبة إلى موتك و حياتك يتبع إرادتك و اختيارك . فإن اخترت الالقاء بالنفس من السطح فالمقدر أن تموت . و إن اخترت الهبوط على السلم فالمقدر لك أن تبقى حياً . و على كلتا الصورتين تجري القضية بموجب القضاء و القدر .
و من خلال الحديث الثاني ، نتبين حرية الارادة الانسانية ، بالرغم من جريان القضاء و القدر على جميع الأمور ، لأن للانسان تمام الاختيار في سلوك الطريق المؤدي إلى الخير أو الشر . فإن سلك أحدهما وصل إلى النتيجة بلا شك :
« عن ابن نباتة قال : أن أمير المؤمنين عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر . فقيل له يا أمير المؤمنين تفر من قضاء الله ؟ قال : أفر من قضاء الله إلى قدر الله عز وجل » 9 .

حرية البشر

إن أهم ما يمتاز به الانسان على غيره من الموجودات على وجه الأرض هو حريته التي وهبها الله تعالى إياه . فجميع الترقيات و أوجه التكامل التي حصل عليها البشر لحد الآن ترجع إلى هذه الميزة . تمر قرون مديدة على النحلة و لا تزال تبني بيتها على شكل سداسي و ستستمر تبني بيتها على هذا الشكل في القرون المقبلة ، لأنها مجبرة في هذا العمل ولا تملك عقلاً أو تفكيراً . تقودها غريزتها التي أودعها الله تعالى فيها . و لكن الانسان الحر لا يزال يتكيف لبيئته و ظروف حياته ، فقد انتقل من سكنى الكهوف إلى تكوين الأكواخ ، و منها إلى إنشاء القصور الضخمة التي نراها اليوم . و من المؤمل أن نفصل القول حول الحرية البشرية و الاختيار الفطري للانسان في محاضرة خاصة إن شاء الله .

للانسان أن يقرر مصيره

إن جانباً من القضاء و القدر يرجع إلى إرادتنا و اختيارنا . و ان الرسالات السماوية تدور حول أفعالنا الارادية . و لهذا فان الثواب و العقاب من قبل الله نظير الجزاء و العقاب البشري في أنه يرجع إلى إرادة البشر و اختيارهم .
و هكذا فإن لكل منا أن يقرر مصيره بيده . و ما أكثر أولئك الذين يدفعهم الكسل و حب الذات إلى التقصير في إداء الواجبات الاجتماعية اللازمة ، ثم ينسبون الشقاء الذي يلاقونه إلى القضاء و القدر ، في حين أنهم كانوا يملكون الحرية الكاملة ، ولم يستغلوا هذه الحرية استغلالاً حسناً بل أساؤا التصرف إليها و جلبوا الشقاء لأنفسهم !!.
إن الله تعالى يقرر في القرآن الكريم أن الذين يرثون الأرض ولهم الحق في أن يقودوا بزمامها هم الرجال الصالحون فقط :
﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ 10 .
و العباد الصالحون هم الذين وصلوا إلى جميع مدارج الكمال المادي و المعنوي بفضل الايمان و العلم . و في ظل الفضائل الخلقية و الملكات الطاهرة و نتيجة الجهد و الجد … وبذلك صاروا يستحقون إسم الانسان الحقيقي .
إن القضاء الحتمي والذي لا يقبل التخلف في هؤلاء الرجال الصالحين هو أن يرثوا حكومة الأرض و لكن الوصول إلى مقام الصلاح و استحقاق تلك الدرجة ( قدر ) إختياري يتعلق به ذلك القضاء الحتمي … و هؤلاء هم الذين يتمكنون أن يتبعوا النبي ( صلى الله عليه و آله ) بإرادتهم و اختيارهم و يصلوا إلى المقام الذين يستحقون معه وراثة الأرض .
نستنتج مما سبق أن العالم كله يدار بواسطة القضاء و القدر . أي أن السنن الآلهية هي التي تحكم في هذا الكون . و كذلك الأمور التي ترتبط بالإنسان . فانها خاضعة للقضاء و القدر ، غاية ما هناك أن جانباً من القضاء و القدر المتعلق بالبشر يكون مصيراً حتمياً لا أثر لاختيارنا و إرادتنا فيه كدقات القلب و دوران الدم … وجانباً منه تابع لارادتنا و اختيارنا ، و لنا أن نستغله إما استغلالاً حسناً أو سيئاً .

الوراثة و التربية

و بعد أن تطرقنا بصورة موجزة إلى القضاء و القدر و بيان علاقته بالارادة البشرية ، ندخل إلى صلب الموضوع .
إن الطفل يرث في رحم الأم صفات الآباء و الأمهات ، و هذا الأمر خاضع للقضاء و القدر . و الصفات التي تنتقل بالوراثة تكون على نحوين : فقسم منها يكون على نحو القضاء و القدر الحتمي و المصير . القطعي الذي يبقى مدى الحياة ملازماً للطفل ، و في هذه الصورة تكون ظروف الرحم ( علة تامة ) لتلك الصفات . و القسم الثاني ما يكون على نحو العوامل السماعدة في انتقالها إلى الأبناء ، فهي ليست مصيراً حتمياً و في هذه الصورة تكون ظروف الرحم ( عاملاً مساعداً ) لها .
« يتحدد مصير أفراد معينين بشكل قاطع في حين يتوقف مصير آخرين ـ إن كثيراً أو قليلاً ـ على أحوال نموهم » 11 .
« من المعروف أن ضعف العقل و الجنون والاستعداد الوراثي للنزف الدمي و الصمم و البكم نقائص وراثية … كذلك تنتقل أمراض معينة كالسرطان والسل … ألخ من الآباء إلى الأبناء و لكن كاستعداد فقط ، و قد تعوق أحوال النمو ظهور هذه الأمراض أو تساعد على تحققها … » 12 .
وكما أن لون البشرة والعين أو قصر النظر في العين من الأمور الوارثية التي لا تقبل التغيير فإن الجنون الوراثي أيضاً من العيوب التي لا تقبل التغيير . فالطفل الذي يولد من أبوين مجنونين يظل مجنوناً مدى الحياة ، و هذا هو مصيره الحتمي .

المصير الحتمي

هذا المصير الحتمي لا يمكن أن يتبدل بتعاليم الأنبياء الرصينة ، و لا بالوسائل الطبية و التربوية ، فهو مجبر على الجنون ، و هكذا الطفل الذي يولد في رحم الأم أحمقاً بليداً ، ويرث البله والبلادة من أبويه يستمر مدى العمر على ذلك الواضع ، و لن تؤثر الأساليب التربوية فيه .
« إن أحوال النمو لا تستطيع أن تحول الطفل الضعيف البليد الشعور ، المشتت العقل ، الجبان ، الخامل ، إلى رجل نشيط أو زعيم قوي شجاع » 13 .
و بهذا الصدد يقول الامام أمير المؤمنين عليه السلام : « الحمق داء لا يداوى ومرض لا يبرأ » 14 .
و هكذا فالطفل الذي يولد من أم مصابة بالسل يملك تربة مساعدة لنشوء هذا المرض فيه و قد ورث هذه التربة المساعدة من أمه . و مع هذا فإن إصابته بالسل ليست قضاءاً حتمياً و قدراً جبرياً . فإن العوامل الصحية الظروف الحياتية الصالحة يمكن أن تضمن له سلامته من المرض . فإذا انفصل عن أمه بعد الولادة مباشرة وخضع لمراقبة دقيقة في بيئة صحية فبإمكانه أن يعيش سالماً مدى العمر . أما إذا تربى في حجر أمه المصابة بالسل و ارتضع من لبنها الملوث ، فبالامكان أن يصاب بالسل بسهولة .
و كما سبق فإن الحالات النفسية و الملكات الصالحة و الطالحة للآباء و الأمهات تؤثر في الأطفال . و هكذا فالطهارة و الرذالة ، و الشجاعة و الجبن والكرم و البخل ، و غيرها من الصفات المختلفة تكون تربة مساعدة للصلاح أو الفساد في سلوك الطفل … و لكن هذه الصفات ليست قدراً حتمياً بل يمكن إصلاح الفاسد بالطرق التربوية الصالحة … و على العكس تبديل التربة المساعدة للصلاح إلى الفساد بالطرق التربوية الفاسدة .

التربية و البيئة

إن الطفل المتولد من أبوين صالحين يملك تربة مساعدة لنشوء الصفات الخيرة في نفسه و لكن إذا ترك في بيئة فاسدة منذ الصغر ، أو سلم إلى أفراد خبئاء بذيئي الأخلاق فإن النتيجة ستكشف عن فرد فاسد شرير ، لأن الصفات الموروثة و الفضائل العائلية لا تستطيع المقاومة أمام قوة التربية (1)15 و بالرغم من أن نوحاً قال له : ﴿ … قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ … ﴾ 16 لم يلتفت إلى كلامه ، وكانت نتيجته الغرق . .
و على العكس من ذلك فان الاطفال الذين يتولدون من أبوين فاسدين ويملكون التربة المساعدة لنشوء الآثار السيئة في سلوكهم ، لو تركوا في محيط مليء بالصلاح و الخير وسلموا إلى مربين صالحين فمن الممكن أن تختفي تلك الآثار السيئة عنهم و ينشأوا أفراداً يتسمون بالفضيلة و الايمان .
« و تؤثر العوامل السيكولوجية تأثيراً أكبر على الفرد ، فهي التي تكسب حياتنا شكلها العقلي و الأدبي . إذ أنها تولد النظام أو التفرق . و هي التي تدفعنا إلى إهمال أنفسنا أو السيطرة عليها ، كما أنها تغير شكل تكوين الجسم و وجوه نشاطه بوساطة الدورة الدموية و التغييرات الغددية ، فإن لنظام العقل و الاستعداد الفسيولوجي تأثيراً قاطعاً ليس على حالة الفرد السيكولوجية فقط بل أيضاً على تكوينه العضوي و الاخلاطي و مع أننا لا نعلم إلى أي مدى تستطيع التأثيرات العقلية التي تنشأ من البيئة أن تحسن أو تقضي على الميول المستمدة من الأسلاف ، فانه لا شك في أنها تلعب دوراً رئيسياً في مصير الفرد ، فهي أحياناً تبدد أسمى الصفات العقيلة ، و تجعل أفراداً معينين ينمون بدرجة لم تكن متوقعة على الاطلاق … و هي تساعد الضعيف و تجعل القوي أكثر قوة » .
« إنه مهما يكن من أمر ميول الأسلاف ، فإن كل فرد يدفع بتأثير أحوال النمو في طريق يقوده إما إلى العزلة في الجبال أو إلى جمال التلال أو إلى أوحال المستنقعات حيث يطيب للسواد الأعظم من الرجال المتحضرين أن يعيشوا » 17 .

الصفات القابلة للتغيير

إن الامام محمد بن علي الباقر ( عليه السلام ) يعبر عن قابلية تغيير بعض الصفات الوراثية للطفل في رحم الأم بكلمة ( البداء ) ، في ضمن حديث طويل بهذا الصدد فيقول :
« ثم يوحي الله تعالى إلى الملكين : إكتبا عليه قضائي وقدري ، و نافذ أمري و اشترطا لي البداء فيما تكتبان … » فهذا يدل على أن القضاء و القدر في حق الطفل ليس أمراً قطعياً ، بل قابل للتغيير والتبديل حسب بداء الله تعالى …
« … فيقولان : يا رب ، ما نكتب ؟ فيوحي الله عز وجل إليهما أن إرفعا رؤوسكما إلى رأس أمه ، فيرفعان … فإذا اللوح يقرع جبهة أمه . فينظران فيجدان في اللوح : صورته ، و رؤيته ، و أجله و ميثاقه ، شقياً أو سعيداً ، و جميع شأنه . فيكتبان جميع ما في اللوح و يشترطان البداء فيما يكتبان » 18راجع تعليقة العلامة الفيلسوف البارع السيد محمد حسين الطباطبائي على الكافي : 1 / 146 .

المصير اللامحتوم

نجد في هذا الحديث نكتتين لطيفتين : الأولى : أن اللوح ليس في ساعد الأم و لا في صدرها بل في جبينها . إن الجبهة بالرغم من أنها من الناحية الجسمية لا تزيد على أنها أحد أعضاء البدن ، إلا أن بالامكان أن تكون كناية عن الجهاز المعنوي و عن أفكار الدماغ عند الأم ، و على هذا فإن مجموعة المقررات التكوينية لجسم الأم و فكرها تكون ممهدة لبناء الطفل .
و النكتة الثانية : ورود كلمة ( البداء ) بالنسبة إلى الأمر الالهي ، و الملائكة أيضاً يثبتون اللوح بشرط البداء ، و في هذا دلالة صريحة على أن جميع الصفات الوراثية في رحم الأم ليست مصيراً حتمياً ، فان هناك عوامل ( قد تكون البيئة و التربية منها ) تغير تلك الصفات .
إذا كانت جميع الصفات الوراثية حتمية غير قابلة للتغيير ، و إذا كانت جميع الصفات الرذيلة في الأبوين تنتقل إلى الأولاد تماماً شأنها شأن لون العيون أو الجنون والحماقة … لم يكن معنى لارسال الأنبياء من قبل الله تعالى ، وكانت الشرايع والتعاليم السماوية لغواً لا فائدة فيها ، كما أنه من العبث قيام المحاولات الاصلاحية و المذاهب التربوية في المجتمعات البشرية ، لأنها لاتستطيع أن تؤثر في السلوك الموروث.
« ويميل نمو الجسم في اتجاهات مختلفة استجابة للوسط فتصبح صفاته الفطرية حقيقية أو تظل خاملة . فمن المحقق أن ميولاً وراثية معينة تتعدل تعديلاً كبيراً بظروف تكويننا »19 .

تغلب التربية على الوراثة

تبلغ العادات التربوية والتمارين الاصلاحية المتواصلة درجة من القوة في التأثير بحيث تتغلب على الصفات الوراثية و تحدث وضعاً جديداً في الأفراد ، يقول الامام علي ( عليه السلام ) بهذا الصدد : « العادة طبع ثانٍ » 20 .
إن الرئتين في الانسان خلقتا لاستنشاق الهواء ، و الذي يدخن السيجارة لأول مرة ، و يرسل دخانها إلى أعماق رئتيه يحس باضطراب عجيب ، إذ يحس بدوار في رأسه ، يبدأ بالسعال ، تنتابه حالة التقيؤ تملآ الدموع عينيه و هكذا ينقلب حاله أثر الدخان . و هذا بديهي لأن الرئة لم تصنع للدخان بل للهواء النقي .
و لكن بتكرار التدخين تعتاد الرئة على الدخان وتتخلى عن طبعها الأولي الذي كان ينفر من الدخان . و هكذا ينقلب ما كان يبعث على النفور و الاضطراب إلى أداة للتسلية و الترويح عن النفس و هنا نقول بأن الرئة قد تربت على استنشاق الدخان ، و على أثر التكرار حصلت على طبع ثانوي و تركت طبعها الاول . و لهذا السبب فانها ترتاح لعملها غير الطبيعي و تستمر عليه .
إن الأنبياء لم يأتوا لأن يحولوا المجانين الوراثيين إلى عقلاء ، أو يجعلوا من البلداء الفطريين نوابغ ، لأن هذا ما لا يمكن أن يحدث … لأن الأنبياء يريدون أن يخضعوا البشر إلى مراقبة إيمانية و عملية في خصوص الصفات القابلة للتغير على ضوء التربية الصحيحة ، لا يصالهم إلى السعادة و الكمال الانساني .
أما بالنسبة إلى الذين ينتمون إلى أصول عائلية فينمون فيهم قابلياتهم ومواهبهم و يخرجون الفضائل الكامنة من مرحلة الاستعداد إلى مرحلة الفعلية لكيلا ينحرفوا عن الصراط المستقيم مسير حياتهم . و يحفظوا ثروتهم الوراثية العظيمة من الملكات و الفضائل ، لكيلا يقعوا في هوة الفساد والجهل الطيش على أثر مصاحبة الفساد و الجهل و الطائثين .
و أما بالنسبة إلى الذين ورثوا الصفات البذيئة من أبويهم فيعمل الأنبياء على إطفاء الاستعدادات الكامنة نحو الفساد فيهم بالتربية الصحيحة التدريجية و اتخاذ الأساليب الأخلاقية الدقيقة . و بذلك يخرجونهم من طبائعهم الأولى إلى طبائع جديدة حاصلة من إحياء قوى الخير و الصلاح في نفوسهم وتكون النتيجة أن يحوز هؤلاء على درجة لا بأس بها من الكمال … هذا العمل أمر ممكن في نظر العلم و الدين . فما أكثر أولئك الذين كانوا متصفين بصفات رذيلة ثم زرع الاسلام في نفوسهم بذور الخير و الصلاح و اقتلع جذور الشر و الفساد ، فوصوا بفضل التربية الاسلامية الرصينة إلى أوج السعادة .
« لوحدانية الانسان أصل مزدوج . فهي تأتي في وقت واحد من تركيب البويضة التي ينشأ منها وكذلك من تطوره و نموه و من تاريخه … إن الخصائص الوراثية في البويضة ليست إلا ميول أو إمكانيات وهذه الميول تصبح حقيقة أو تظل تقديرية تبعاً للظروف التي تواجهها النطفة ، فالطفل ، ثم المراهق ، إبان نموهم … و هكذا يتوقف أصل الانسان على الوراثة أكثر أهمية من النمو، أو العكس بالعكس ؟ … إن الملاحظات و التجارب تعلمنا أن الدور الذي تلعبه الوراثة و النمو يختلف في كل فرد ، و إن قيمتها النسبية لا يمكن تحديدها عادة » 21

ظهور الاستعدادات الكامنة

يرى العلماء أن التربية عامل قوي جداً حيث تقدر أحياناً على أن توقف عمل الخواص الوراثية السيئة وتعود بالأفراد إلى طريق السعادة والكمال وقد لاتعطي التربية نتيجة حتمية كاملة … وهذا يتبع الخصوصيات الفطرية للأفراد حيث أنها متفاوتة.
ولكن الثابت أننا يجب أن ننظر إلى جميع الأفراد بعين القبلية ونحتمل أن تؤثر فيهم الأساليب التربوية الصالحة ، فإن كانت هناك استعدادت كامنة للخير والكمال فانها تظهر بفضل التربية الصالحة وتخرج من مرحلة القوة إلى مرحلة الفعل ( كما يقول المنطقيون ) .
« ولما كنا لا نعلم طبيعة هذا الاستعداد بالدقة ، فيجب علينا أن نفترض أنه مناسب وأن نتصرف تبعاً لذلك . فمن المحتم أن يتلقى كل فرد تعليماً يؤدي إلى نمو صفاته المحتملة إلى أن يتبين بصفة قاطعة أن هذه الصفات غير موجودة »22 .

التربية للجميع

إن الاسلام الذي لم تفته صغيرة و لا كبيرة من الوسائل المؤدية بالبشر إلى السعادة والكمال ، لم تفته هذه الناحية فركز تعاليمه الرصينة على أسس التربية الصالحة . إن الإسلام يدعو جميع الناس من أي طبقة كانوا إلى الإيمان و الطهارة ، ولذلك فهو يرى كل فرد ـ مهما كانت خصائصه العائلية الوراثية و استعداداته الفطرية ـ قابلاً لتلقي الإيمان و الخلق و الفاضل … و هو لا يخيب أمل أي فرد ، بل يحاول البحث في أعماق فطرته للوصول إلى القيم الحية التي يمكن أن تنمي و تستخرج من بين زوايا النفس و تجلى فتبعث على الحياة من جديد .
و من النماذج الحية لاعتناء الإسلام بتربية الأفراد الذين يرثون الصفات الرذيلة عن أبويهم سلوكه المفضل مع الأطفال اللاشرعيين . إن مما لا شك فيه أن ولد الزنا يحمل في فطرته صفات شريرة ـ كما سنثبت ذلك إن شاء الله ـ و لكن الاسلام يعتبره قابلاً للتربية بدليل أنه يدعوه لتلقي التعاليم الايمانية والخلقية والسلوك الخير المؤدي إلى السعادة .
و من الواضح أنه لو كان منقذ البشرية و رسول الإسلام العظيم يرى في الانحراف و الشقاء مصيراً حتمياً لأولاد الزنا ويعاملهم معاملة المجانين الفطريين الذين لا يقبلون العلاج … لما كان يدعوهم إلى دين الله 23 .
لقد وضع الاسلام وجميع الأديان السماوية قواعد وقوانين خاصة للزواج . و لذلك فقد اعتبرت الشرايع السماوية الخروج عن تلك القوانين أمراً غير مشروع ، فالزنا يعتبر جريمة شنيعة . وكثير من الملل التي لا تملك شريعة سماوية قد وضعت قوانين خاصة لمنع الاختلاط غير المشروع ، و بصورة موجزة فان العلقة الزوجية الصحيحة في نظر العالم مقيدة بشروط و حدود خاصة .
و الطفل الذي يولدن طريق مشروع يكون ولداً قانونياً أما أولاد الزنا فهم يعرفون بالأطفال اللاشرعيين . و في الاحصاءات الدولية للسكان يصرح بعدد الأطفال اللاشرعيين بعد انتهاء تعداد السكان ، و في هذا دلالة على اختلاف أولاد الزنا والأولاد القانونيين في نظر العالم .
« في قرار صدر أخيراً عن دائرة التحقيقات الاجتماعية في الولايات المتحدة الامريكية يحكي أن عدد الاطفال اللاشرعيين في العالم الماضي كان 208700 شخصاً . و هذا الرقم يرينا نسبة عالية في الارتفاع عن السنوات العشر الماضية إذ يبلغ 47% من الزيادة . إن القرار الآنف الذكر يضيف بأن قسماً كبيراً من هؤلاء الأطفال اللاشرعيين نشأوا من الشبان الذين لم يتقدموا في السن كما أن 40% من هؤلاء قد أولدتهم فتيات لا تزيد أعمارهن على العشرين سنة » 24 .
« لندن ـ رويتر ـ وكالة الأنباء الفرنسية … ذكر الدكتور : ج . أ . أسكوت مدير صحة لندن في تقرير رفعه أنه كان من بين كل عشرة أطفال طفل واحج ناشئ من العلاقات اللامشروعة في لندن في العام الماضي ».
« لقد أكد الدكتور أسكوت أن نسبة الأطفال اللاشرعيين آخذة في الأزدياد . حيث كان عددهم في عام 1957 لا يتجاوز 33838 بينما ارتفع إلى 53433 في السنة التالية » 25 .

الأطفال المنحرفون

يرى أئمة الاسلام أن أولاد الزنا مصابون بالانحراف الروحي ، الأمر الذي يؤدي بهم إلى سوء الأخلاق و مخالفة القوانين و الاستهانة بها . يقول الامام الصادق ( عليه السلام ) :
« إنه يحن إلى الحرام ، والاستخفاف بالدين ، وسوء المحضر » 26 .
و هنا يمكن أن يخطر السؤال الآتي على أذهان البعض فيقولون : إن الأطفال يوجدون من نطفة الأبوين ، و إن الجهاز التناسلي في الرجل و المرأة يعمل عمله حسب نظام دقيق . و هذا العمل الطبيعي لا يختلف في العلاقة القانونية وغير القانونية . فأي أثر لإجراء صيغة الزواج أو صدور ورقة العقد في واقعية النطفة ؟ و لماذا يجب أن يكون ولد الزنا مصاباً بالانحراف ؟.
و بالرغم من أن الجواب على هذا السؤال قد اتضح من البحوث السابقة حيث ذكرنا فيها تأثير الحالات النفسية على البدن ، و تأثر الروح بالأعمال الجسمانية … بالرغم من ذلك كله فاننا سنفصل القول في خصوص الاختلاط اللامشروع ذاكرين أسباب الانحراف في سلوك أولاد الزنا …

الاختلاط اللامشروع

سئل الامام الصادق عليه السلام : « لم حرم الله الزنا ؟!
قال : ـ لما فيه من الفساد ، و ذهاب المواريث ، و انقطاع الأنساب … لا تعلم المرأة في الزنا : من أحبلها ؟ و لا المولود يعلم : من أبوه ؟ . و لا أرحام موصولة ، و لا قرابة معروفة … » 27 .
هناك عشرات المسائل الأخلاقية و النفسية و الاجتماعية و التربوية و العائلية و الاقتصادية و العاطفية سببت تحريم المشرعين الالهيين ( أي الأنبياء ) للزنا و اعتباره أمراً مخالفاً للقانون .

الأطفال اللاشرعيون

و هناك نكتة لطيفة هي أن العالم المتمدن يعتبر الزنا مشكلة وظهور الأطفال اللاشرعيين مشكلة أخرى ، كما أن الاسلام يعتبر الاختلاط اللامشروع بين الرجل والمرأة معصية ، وحمل المرأة عن طريق الزنا معصية أخرى أفظع من الأولى . وإليك النصوص الآتية التي تثبت ذلك :
1 ـ قال رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) : « ما من ذنب أعظم عند الله تبارك و تعالى بعد الشرك من نطفة حرام وضعها امرء في رحم لا تحل له » 28 .
2 ـ فقال الرضا ( عليه السلام ) : « إن الدفق في الرحم إثم و العزل أهون له » 29 .
3 ـ عن الامام الصادق ( عليه السلام ) : « إن أشد الناس عذاباً يوم القيادمة رجل أقر نطفته في رحم يحرم عليه » 30 .
إن الزاني و الزانية إذا لم يولد منهما طفل ، فإن جريمتهما أنهما تجاوزا حريم القانون الجنسي ، أما إذا حملت المرأة من الزنا ، فإن الجريمة تتضاعف لأنه سيظهر في المجتمع ولد جبل على مخالفة القانون و ارتكاب الجرائم . و من الواضح أن خطر هذا أشد من الجريمة الأولى .
و لتوضيح وضع الأطفال اللاشرعيين ، و بيان الفرق بينهم و بين الأطفال القانونيين علينا أن نبحث عن الحالات النفسية للمرأة التي حملت بصورة غير مشروعة لنقيسها بالحالات النفسية للنساء الشرعيات ، و نحلل الفروق بينهما تماماً … و لأجل أن يلتفت المستمع الكريم إلى الموضوع بجد نقصر بحثنا على الحالات النفسية للنساء المسلمات فقط .
هناك ملايين النساء و الفتيات المسلمات يعشن في الدول الاسلامية ، و هن يختلفن بحسب درجات إيمانهن … فالبعض منهم معتقدات بالاسلام حقيقة و يعتبرن مخالفة التعاليم الاسلامية ذنباً يستحقن العقاب عليه … فإذا صادف و إن زلت امرأة من هذا النوع في سلوكها و ارتكبت الزنا فهي تواجه حالتين من الاضطراب النفسي و الضغط الروحي :
إحداهما : الاحساس بالخوف الشديد من الله لارتكابها ذنباً .
والثانية : الاضطراب و الخوف من انفضاح أمرها أمام أهلها ، و الناس بصورة عامة …
أما النساء اللاتي لا يملكن من الايمان و التدين ما كانت تملكه الطائفة الأولى ، فهؤلاء يمكن أن يرتكبن الزنا و يحسسن لذلك بخوف تجاه الله تعالى و لكنه ضعيف . و لكن إهتمامهن إلى الرأي العام أكبر . فهن يخشين تمام الخشية من نبذ الرأي العام و نفوره تجاههن و لا يرضين أبداً بأن يسميهن المجتمع ( زانيات ) أو ( فاحشات ) . و حتى الرجال الذين لا يتورعون من الزنا لا يرضون بالاختلاط مع النساء المعروفات بالزنا ، و المشهورات بهذا العمل الشنيع .
و هناك طائفة ثالثة من النساء ابتليت بترك العفة و ارتكاب الزنا ، إما إتباعاً للهوى أو للفقر و البؤس . هؤلاء النساء و إن كن يبدين الرضا بهذا العمل ، و لكن في ضمائرهن عقدة لا تقبل الانكار . و متى ما وجدن من يحفظ سرهن إنطلق لسان الضمير فيهن يتحدث له عن الشقاء و البؤس الذي يلاقينه ، و أظهران عدم رضاهن بهذا العمل الشنيع . و لهذا فإذا صادفن من لا يعرف عنهن الفحشاء و الفساد ، ظهرن بمظهر العفيفة الطاهرة .
و الخلاصة : إن التعاليم الدينية ، و العادات الاجتماعية ، و التقاليد العائلية قد أوجدت في نفوس جميع النساء و الرجال المسلمين ، سواء كانوا عدولاً أو فساقاً ، متقين أو فاقدين للتقوى … أوجدت في ضمائرهم وجداناً لا يقبل الانكار من أن الزنا عمل قبيح ، و أن الفاحشة تكون منفورة دائمة بين الناس .

الزواج القانوني

بعد أن تحدثنا عن بعض الحالات النفسية للمرأة التي تقوم باتصال غير مشروع لنتحدث عن العلاقات المشروعة التي تقوم على أساس إطاعة القانون .
فعندما يقيم الشاب و الشابة زواجاً قانونياً ، يراعيان فيه جميع القوانين والمقررات ، لا نجد إضطراباً بسيطاً في ضمير الرجل و المرأة و لا يشعران في باطنهما بوحشة أو خوف من الله أو الناس . يمارسان إتصالهما بفكر هادئ و روح مطمئنة . و في مثل هذه الظروف تنعقد النطفة بصورة طبيعية مائة في المائة . هذا مضافاً إلى أن المرأة في أيام الحمل ليست غير مضطربة فحسب ، بل إنها فرحة في ضميرها و مستبشرة بالحمل . لأنها تعلم أن ذلك القران الخير قد أنتج ثماره ، و ما هي إلا أيام قلائل حتى يزين حجرها مولود سعيد ، و عشرات أو مئات النساء و الرجال سيأتون للتهنئة بولادته مستصحبين معهم باقات الزهور والهدايا الكثيرة !!

إرتياح البال

قد جلب ارتياح بال الأبوين وحالتهما الطبيعية من جهة التأثير في البناء البدني والروحي للطفل إنتباه العلماء في العصر الحديث . ولم يفت الأئمة عليهم السلام هذا الأمر . بل أكدوا على أثر الأطمينان النفسي و ارتياح الضمير عند الأبوين في إيجاد الطفل . يقول الامام الحسن العسكري ( عليه السلام ) في موضوع الشبه بين الطفل و أبويه أو عدمه : « فإن الرجل إذا أتى أهله بقلب ساكن و عروق هادئة ، و بدن غير مضطرب ، استكنت تلك النطفة في الرحم ، فخرج الرجل يشبه أباه و أمه » 31 .

النطفة الطبيعية

إذا كان قلب الأبوين حين انعقاد النطفة منتظماً ، وجريان الدم طبيعياً ، والبدن خالياً من الاضطراب ، فالطفل يكون شبيهاً لأبويه حسب القاعدة . إن أصح الحالات الطبيعية للطفل هو أن يشبه أبويه . و أصح الحالات الطبيعية للأبوين هو الكفيل بظهور ذلك الشبه الطبيعي .
و النتيجة التي نستنتجها من هذا البحث ، هي : أن الرجل و المرأة اللذين يقيمان علاقة زوجية طاهرة مع مراعاة القوانين الدينية لا يحسان باضطراب و هلع حين الاتصال الجنسي ، فالنطفة التي توجد منهما في تلك الحالة ، و فقدان الاضطراب إلى حين الولادة يضمن نشوء إنسان طبيعي خال من الانحراف الفطري و الخلقي .
أما الشاب و الشابة اللذان يتصلان بغير زواج قانوني ، فمها لا شك فيه أن حالتهما ليست هادئة و طبيعية مائة في المائة ، و إذا كانا يهتمان بالتعاليم الدينية ويخافان من إنفضاح الأمر أمام أبويهما فان الاضطراب سيتضاعف أما إذا لم يكونا مرتبطين بالتعاليم الدينية فإن الخوف من الفضيحة أمام المجتمع كاف في إيجاد حالة من الهلع و الاضطراب في الطرفين .
و إذا لم تنعقد نطفة من هذا الاتصال اللامشروع ، ولم يستقر جنين في رحم المرأة ، فإن الطرفين قد ارتكبا بذلك ذنباً في السر . أما إذا حملت المرأة من ذلك الاتصال فإن إفشاء السر بين الناس و انفضاح أمرهما سيعمل على ازدياد إضطرابها .

الاضطراب أيام الحمل

إن الفتاة التي تقدم على الزنا خفية عن أبويها ، بمجرد شعورها بالحمل تضطرب أشد الاضطراب ، و تنتابها رعشة تسري إلى فرائصها . ذلك لأن انتفاخ بطنها في أقرب وقت سيفضح سرها ، و لذلك فانها تقضي لياليها بالأرق و تعيش أيامها غارقة في التفكير ، و الدموع السائلة و الندم المتواصل … و ما أكثر أولئك اللاتي أدى بهن الأمر إلى الانتحار و التخلص من هذه الحياة أو تحمل المشاق العظيمة في سبيل إجهاض الجنين اللاقانوني … الأمر الذي يجر معه الأمراض و الآلام الشديدة .
أما إذا لم تقدم هذه المرأة على الانتحار ، ولم تقم بإجهاض الجنين ، و بعد نقضاء أيام الحمل تولد الطفل ، هل تتصورون بأن هذا الطفل يمكن أن يكون سالماً و طبيعياً ؟ فمضافاً إلى أن الاضطراب كان مستولياً على الأبوين حين انعقاد النطفة ، ولم تنشأ النطفة الأولى لهذا الطفل بصورة طبيعية ، فإن كابوس الاضطراب و القلق كان مسيطراً على المرأة طيلة تسعة أشهر ( أيام الحمل ) فهناك الغصص و الآلام و الهموم التي حولت تلك المرأة إلى مخلوقة ضعيفة عليلة … و لا يخفى أن الطفل كان شريكاً مع أمه في تلك الآلام و المحن .
لقد ذكرنا في المحاضرة السابقة أن التجارب العلمية الدقيقة أثبتت نقطتين مهمتين :
الأولى : أن المرأة إذا أصيبت في أيام الحمل بخوف شديد و انتابتها رعدة من جراء خوفها تظهر بقع على جسم الطفل .
و الثانية : أن الاضطرابات العصبية للأم في أيام الحمل تؤدي إلى تولد الطفل عصبياً … فإذا كانت حادثة مخيفة بسيطة أو حالة عصبية في وقت قصير تخلف أثراً سيئاً في الطفل ، فالقلق الذي يستمر تسعة أشهر لا بد و أن يكون أثره أعظم !!.

النقل القانوني و التهريب

إن الفرق بين الاتصال المشروع و اللامشروع بين الرجل و المرأة مثل الفرق بين النقل القانوني و التهريب ، و بين السفر إلى الخارج مع الجواز و بدونه … فالمسافر عن كل من الطريقين يحتمل أن يعبر الحدود و يدخل الدولة الأخرى ، و لكن مع فارق مهم هو أن حامل الجواز الذي يدخل الدولة الأجنبية بواسطة سمة الدخول يمتاز باطمئنان و ارتياح بال ، يتنقل كيف يشاء و يتصل بمن يشاء ، من دون أن يحس في باطنه قلقاً أو اضطراباً . و لكن المسافر الذي لا يحمل جوازاً يرى نفسه معرضاً للخطر في كل لحظة ، فهو قلق مضطرب ، حركاته غير متزنة يصحبها إرتباك و تلفت إلى اليمين و الشمال ، و حذر من مراقبة الأفراد له . إذا قابل فرداً ظن أنه يراقبه و سيرفع تقريراً عنه إلى الحكومة وما أسرع أن يلقى القبض عليه … وهكذا فهو يمتقع لونه مقابل سؤال بسيط ، و ترتعد فرائصه و يفقد توازنه .
كل هذه الاضطرابات و الحالات غير الاعتيادية التي تنتابه ، لأجل أن هذا المسافر قد دخل دولة أجنبية بدون جواز أو سمة دخول . إن العقد و إجراء الصيغة في الزواج بمثابة الجواز و السمة للسفر إلى الخارج .

الخروج على القانون

و توجد بين النساء الملوثات بالانحرافات الجنسية ، طائفة لا تملك الايمان كي يراقبن الخوف من الله و لا تملك مسعة حسنة في المجتمع كي يخفن من انفضاح الأمر ، و لذلك فيرتكبن الزنا من دون اكتراث و لا يرين فرقاً بين الاتصال القانوني و غير القانوني . فإذا حملت هذه المرأة من الزنا ، فبالرغم من أنها لم تصب بالاضطراب و القلق طلية أيام الحمل ، و لكن في ضميرها نقص مهم ، و في فكرها إنحراف أهم ، و هو الخروج على القانون … و هذه الصفة نفسها كسائر الصفات الرذيلة تخلق تربة مساعدة في الطفل للخروج على القانون . و في كل مرة تحمل هذه المرأة من الزنا تؤثر حالتها النفسية في نفسية الطفل و تجر على المجتمع آثاراً سيئة .
يقول الامام الصادق ( عليه السلام ) : « لا تزوجوا المرأة المستعلنة بالزنا ، و لا تزوجوا الرجل المستعلن بالزنا ، إلا أن تعرفوا منهما التوبة » 32 .
إن بعض النساء يتزوجن و لكن نفوسهن القذرة الدنيئة تميل إلى الرجال الأجانب ، و من الممكن أن ترتكب الزنا بالرغم من أنها ذات زوج و تستفيد من ذلك لأنها يجعل الزوج حصناً منيعاً أمام التهم الاجتماعية . إن ما لا شك فيه أن هذه المرأة مصابة بالانحراف النفسي . و حتى إذا حملت من زوجها القانوني ، فإن الطفل بالرغم من كونه قانونياً حسب المقررات الشرعية و لكنه من جهة الانحراف الروحي و الفساد النفسي لا يقل عن ولد الزنا ، إذ أن الطفل يرث الصفات الرذيلة من أمه فهو ينزع إلى الإجرام و الخروج على القانون دائماً ، يقول النبي ( صلى الله عليه و آله ) :
« و اشتد غصب الله على إمرأة ذات بعل ملأت عينها من غير زوجها ، أو ذي محرم منها . و أنها إن فعلت ذلك أحبط الله كل عمل لها فإن أوطأت فراشها غيره ، كان حقاً على الله أن يحرقها بالنار بعد أن يعذبها في قبرها » 33 .
كان الحجاج بن يوسف الثقفي فرداً غير طبيعي ، و خطراً في نفس الوقت ، و التاريخ أحصى له جرائم و جنايات عظيمة سودت وجه البشرية . إن مما لا شك فيه أن عوامل عديدة تدخلت في إنحراف سلوك هذا الإنسان مما جعلته خطراً و شريراً إلى هذه الدرجة ، و من الممكن أن قسطاً وافراً من ذلك يرجع إلى روح أمه المنحرفة .
إن أم الحجاج ( فارغة ) كانت زوجة ( المغيرة بن شعبة ) قبل أن تتزوج يوسف الثقفي و كان عمر بن الخطاب يسير في أزقة المدينة في بعض الليالي … فسمع امرأة تغني في أحد البيوت و تنشد البيت الآتي :
هل من سبيل إلى خمر فاشربها * أم من سبيل إلى نصر بن حجاج ؟
فتأثر عمر من هذا البيت ، و ساءه أن تكون في عاصمة حكومته امرأة تترنم بغرام شاب أجنبي بالرغم من أنها متزوجة ، فأحضر النصر إبن الحجاج ـ و كان شاباً جميلاً ـ فحلق رأسه و سفره إلى البصرة » 34 .
إن المرأة المحصنة التي تفكر في رجل أجنبي و تتمنى معاقرة الخمر و الوصول بالنصر بن حجاج إذا حملت من زوجها القانوني نطفة ، فإن انحرافها سيؤثر في نفس طفلها . إن المرأة التي لا تفهم لاحترام القوانين الالهية التعاليم الدينية معنى ، لا يستغرب منها أن تلد طفلاً مثل الحجاج في فساده و انتهاكه حريم الناس و أرواحهم و أموالهم .

الأمهات العفيفات

إن من سعادة الرجل وحسن حظه أن تكون أمه عفيفة ، متصفة بالأخلاق الفاضلة . يقول الامام الصادق عليه السلام : « طوبى لمن كانت أمه عفيفة » 35 .
نستنتج من البحوث السابقة : أن أولاد الزنا ليسوا طبيعيين مائة في المائة . و مما لا شك فيه أن الأشخاص المجرمين قد ورثوا العوامل المساعدة على الانحراف من آبائهم . و لكن من الجهة العلمية ليست تلك الانحرافات حتمية في نفوسهم ، ولم تسلبهم الارادة و الاختيار ، و بعبارة أخرى فإن كون الطفل ابن زنا ليس علة تامة لشقائه و انحرافه ، فإن ظروف المحيط و العوامل التربوية يمكن أن تعطل العوامل الوراثية و تبدلها بالصفات الحسنة و تهدي صاحبها إلى طريق الخير و الصلاح .

المراقبة التربوية

والإسلام ينظر إلى أولاد الزنا من جهة القابلية التربوية بنفس هذه النظرة ويخضعهم للمراقبة التربوية والإيمانية شأنهم في ذلك شأن الأولاد القانونيين ولذلك فهو يدعوهم كغيرهم إلى التعاليم الخلقية والملكات الطاهرة والإيمان وعبادة الله ، ويقيدهم بالتكاليف الشرعية فيجازي ولد الزنا على أعماله كما يجازي غيره ويعاقب كما يعاقب ، سواء بسواء . يقول الامام الصادق عليه السلام : « إن ولد الزنا يستعمل ، إن عمل خيراً جزي به و إن عمل شراً جزي به »36 .
يرى البعض أن أولاد الزنا محرومون عن الفيض الالهي و الرحمة الربانية بسبب كونهم ناشئين من زنا ، و أن عليهم أن يحيوا بشقاء و مصيرهم إلى جهنم بلا ريب … لكن هذا ينافي العدل الالهي ، فالله تعالى لا يعذب شخصاً بما هو خارج عن اختياره . فإذا أسلم من ولد من الزنا بإخلاص و عمل بوظائفه الشرعية فانه يمارس الحقوق التي يحق لكل مسلم أن يتمتع بها في الدنيا ، و يشمله الفيض الالهي العظيم في الآخرة .

مراقبة أشد

إن ولد الزنا يمكن أن يصل إلى درجات الكمال كغيره من أفراد المسلمين مع فارق واحد : هو أنه عليه أن يخضع لمراقبة أشد ، كي يتمكن بذلك من مواجهة آثار الانحراف الوراثي و يؤمن نفسه من أخطاره الجسيمة .
و نظراً لأن الأساليب التربوية و الظروف البيئية تختلف ، و أن القوى الوراثية متفاوتة في الأفراد كما يقول الدكتور الكسيس في النص الذي نقلناه أنه يعامله معاملة غيره مع إضافة تشديد المراقبة عليه في تلقيه الدروس الإيمانية و الأخلاقية … فانه يبقى في حيطة من أمره و من مزاجه القائم على الانحراف . و لذلك فلا يرضى بأن يسلم زمام الحكم و مقدرات الأمة بيده .
إن ولد الزنا لو كان أعلم علماء عصره فانه لا يحق له أن يتقلد منصب مرجعية التقليد العام للمسلمين ، و قيادة الأمة الاسلامية ، و مهما كان صاحب ذوق رفيع و نبوغ كامل في العلم ، فالاسلام لا يرضى له أن يتقلد منصب القضاء بين المسلمين ، لأن من الممكن أن تظهر صفته الوراثية الرذيلة فجأة ، و تلتهب نار الفساد الكامنة تحت الرماد ، و تقطع بذلك القيود الدينية و التربوية ، و تجر بذلك الويل و الثبور للذين يتقلد زمامهم .
* * *
و ملخص ما مر أن بعض الصفات الوراثية تتصف بصفة الحتمية و هي من مصاديق القضاء و القدر الذي لا يقبل التغيير . و البعض منها يسلك كعامل مساعد فقط في سلوك الطفل فهو ليس قضاء حتمياً و قدراً لازماً …
و إن الأساليب التربوية و عوامل المحيط إن اتفقت مع تلك الصفات الوراثية ظهرت بسرعة . و إن خالفتها فإن التربية تتغلب على الوراثة ، و المحيط يكون أقوى من الصفات الموروثة .
و لهذا فإن الاسلام يهتم بتربية الأفراد الذين يملكون تربة مساعدة للفساد والانحراف ويأمل وطيداً باحتمال إصلاحهم وسلوكهم سبل السعادة .
و حجر الأم هو المحيط الأول لتربية الطفل . فطوبى للأطفال الذين يولدون من آباء و أمهات طاهرين إهتموا بتربيتهم و تنشئتهم نشأه دينية صالحة …
و الاسلام يحترم هذا النوع من الآباء و الأمهات … و يوصي الأطفال بأن يخضعوا لهم يقوموا بواجب الاطاعة و الاحترام تجاههم ، جزاء على جهودهم ، و يأمرهم بن يدعوا لهم بدعاء الخير . ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ 1 37 .

  • 1. a. b. القران الكريم : سورة الإسراء ( 17 ) ، الآية : 24 ، الصفحة : 284 .
  • 2. القران الكريم : سورة القمر ( 54 ) ، الآية : 49 ، الصفحة : 530 .
  • 3. القران الكريم : سورة الرحمن ( 55 ) ، الآية : 5 ، الصفحة : 531 .
  • 4. القران الكريم : سورة آل عمران ( 3 ) ، الآية : 185 ، الصفحة : 74 .
  • 5. بحار الأنوار للمجلسي : 3 / 3 .
  • 6. تحف العقول : 468 .
  • 7. a. b. بحار الأنوار : 3 / 5 .
  • 8. تنقسم المذاهب الاسلامية بالنسبة إلى موضوع ( حرية الارادة عند الانسان ) إلى ثلاث فرق : فطائفة ترى أن للانسان الحرية الكاملة في إتيان ما يريد وترك ما يشاء ، و هؤلاء هم ( المفوضة ) حيث يقولون بأن الله فوض إليهم الأمور . و طائفة ثانية ترى أن الانسان لا يملك أي حرية في أفعاله بل أفعاله في الحقيقة هي أفعال الله التي خلقها فيه ، و هؤلاء هم ( المجبرة ) حيث يقولون بأن الله أجبرهم على أفعالهم . و الطائفة الثالثة تقف موقفاً وسطاً بين الافراط في حق الارادة الانسانية و التفريط فيها و هي التي ترى أن ( لا جبر و لا تفويض بل أمر بين الأمرين ) و هؤلاء هم ( الامامية ) . و أول من عبر عن هذا الاصطلاح عندهم إمامهم السادس جعفر بن محمد الصادق ( رئيس المذهب الجعفري ) . و لقد كثر البحث والنقاش في الاستدلال على صحة أحد هذه المذاهب الثلاثة ، ولكن المثال الآتي يؤيد صحة استناد أفعالنا إلى إرادتنا و حريتنا ، في حين كونها مسيرة بإرادة الله أيضاً و يثبت حقانية مذهب الأمامية في الموضوع . لنفرض إنساناً كانت يده شلاء لا يستطيع تحريكها بنفسه . و قد استطاع الطبيب بأن يوجد فيها حركة إرادية وقتية بواسطة قوة الكهرباء بحيث أصبح الرجل يستطيع تحريك يده بنفسه متى وصلها الطبيب بسلك الكهرباء و إذا انفصلت عن مصدر القوة لم يمكنه تحريكها أصلاً . فتحريك المريض يده والطبيب يمده بالقوة في كل آن يوضح الأمر بين الأمرين ، حيث لا تستند الحركة إلى الرجل مستقلاً لأنها موقوفة على إيصال القوة إلى يده ، وقد فرضنا أنها بفعل الطبيب . ولا تستند إلى الطبيب مستقلاً ، لأن التحريك قد أصدره الرجل بإرادته ، فالفاعل لم يجبر على فعله لأنه مريد ولم يفوض إليه الفعل لأن المدد من غيره ، و هكذا فالأفعال الصادرة منا بمشيئتنا ، و لكننا لا نشاء شيئاً إلا بمشيئة الله . ولتفصيل الموضوع يراجع كتب العقائد و الكلام المفصلة . و كذلك تجد رد شبهة الجبر بالتفصيل في كتاب ( دفاع عن العقيدة ) : 135 ـ 151 : للمترجم .
  • 9. بحار الأنوار : 3 / 33 .
  • 10. القران الكريم : سورة الأنبياء ( 21 ) ، الآية : 105 ، الصفحة : 331 .
  • 11. الانسان ذلك المجهول : 197.
  • 12. المصدر السابق : 196.
  • 13. المصدر السابق : 197 .
  • 14. غرر الحكم و درر الكلم : 72 طبعة إيران .
  • 15. و أصدق شاهد على ذلك قصة ( إبن نوح ) حيث جالس الملحدين وخالط الفساد ، فاختفت معالم الفضائل التي ورثها عن أبيه في سلوكه و هكذا اتصف بصفات قرنائه ، و صار ملحداً مثلهم ، وحينما دعاه أبوه إلى أن يركب السفينة لينجو من السيل و لا يصيبه عذاب الله ، أجابه بما يحكي القرآن عنه ﴿ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء … ﴾ القران الكريم : سورة هود ( 11 ) ، الآية : 43 ، الصفحة : 226 .
  • 16. القران الكريم : سورة هود ( 11 ) ، الآية : 43 ، الصفحة : 226 .
  • 17. الانسان ذلك المجهول : 198 .
  • 18. الكافي : 6 / 14 .. و للتحقيق في معنى البداء و كيفية نسبته إلى الله تعالى نقول : « البداء من الأوصاف التي ربما تتصف بها أفعالنا الاختيارية من حيث صدورها عنا بالعلم و الاختيار ، فإنا لا نريد شيئاً من أفعالنا الاختيارية إلا بمصلحة داعية إلى ذلك ، تعلق بها علمنا ، و ربما تعلق العلم بمصلحة فقصدنا الفعل ثم تعلق العلم بمصلحة أخرى توجب خلاف المصلحة الأولى ، فحينئذ نريد خلاف ما كنا نريده قبلاً ، و هو الذي نقول : بدا لنا أن نفعل كذا ( أي ظهر لنا بعدما كان خفياً عنا كذا ) و البداء : الظهور ، فالبداء ظهور ما كان خفياً من الفعل ( بظهور ما كان خفياً من العلم بالمصلحة ) ثم توسع في الاستعمال فأطلقنا البداء على ظهور كل فعل كان الظاهر خلافه . فقال : بدا له أن يفعل كذا ( أي ظهر من فعله ما كان الظاهر منه خلافه ) .
    ثم إن وجود كل موجود من الموجودات الخارجية له نسبة إلى مجموع ( علته التامة ) التي يستحيل معها عدم الشيء و عند ذلك يجب وجوده بالضرورة و له نسبة إلى ( مقتضيه ) الذي يحتاج الشيء في صدوره منه إلى ( شرط وعدم مانع ) ، فإذا وجدت الشرائط و عدمت الموانع تمت ( العلة التامة ) و وجب وجود الشيء وإذا لم يوجد الشرط أو وجد مانع لم يؤثر ( المقتضي ) أثره ، وكان التأثير للمانع … و حينئذ يصدق البداء فإن هذا الحادث إذ نسب وجوده إلى مقتضيه الذي كان يظهر بوجوده خلاف هذا الحادث كان موجوداً ظهر من علته خلاف ما كان يظهر منها .
    و من المعلوم أن علم الله تعالى بالموجودات والحوادث مطابق لما هو في الواقع من وجودها ، فله تعالى علم بالأشياء من جهة مقتضياتها و هذه خاضعة لوجود الشرائط و فقد الموانع . و في هذا النوع يمكن أن يفقد شرط أو يوجد مانع في الأثناء فيظهر خلاف ما كان ظاهراً منه . و يحصل فيه ( البداء ) . فلا يكون حينئذ قضاءاً حتمياً لا يتبدل ، بل هو قابل للتغيير ، و لهذا قال الله تعالى في القرآن الكريم : ﴿ يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ القران الكريم : سورة الرعد ( 13 ) ، الآية : 39 ، الصفحة : 254 .
  • 19. الانسان ذلك المجهول : 197.
  • 20. غرر الحكم و درر الكلم : 19 . طبعة دار الثقافة ـ النجف الأشرف ـ .
  • 21. الانسان ذلك المجهول : 194.
  • 22. الانسان ذلك المجهول : 198 .
  • 23. لقد رفع الإسلام التكليف عن قسم من الناس . منهم المجانين . و هذا دليل على أنه لا يراهم قابلين لتقبل الدعوة الى الله حال كونهم مجانين . و لكنه لم يرفع التكليف عن ولد الزنا حين يبلغ . و لو كان الشقاء الحاصل في نفوس أولاد الزنا متأصلا كالجنون لم يكن معنى لتكليفهم بالتكاليف الشرعية ، فتكلفهم يدل على إمكان اصلاحهم و تغيير سلوكهم .
  • 24. يونايتدبرس ـ جريدة إطلاعات الايرانية العدد / 10523.
  • 25. جريدة إطلاعات الإيرانية العدد / 10523.
  • 26. سفينة البحار مادة ( زنى ) : 560 .
  • 27. سفينة البحار للشيخ عباس القمي . مادة ( زنى ) : 560 .
  • 28. مستدرك الوسائل للنوري : 2 / 567 .
  • 29. المصدر السابق : 2 / 567 و يظهر من الحديث أن الزنا مع العزل ( قذف النطفة خارج الرحم ) أهون للزاني من الزنا مع قذف النطفة داخل الرحم لأنه يمنع اختلاط الأنساب على الأقل .
  • 30. وسائل الشيعة للحر العاملي : 5/ 37.
  • 31. بحار الأنوار : 14 / 379 .
  • 32. مكارم الأخلاق للطبرسي : 104 .
  • 33. لئالئ الأخبار : 496 .
  • 34. يراجع عن تفاصيل القصة : الكامل لابن الأثير : 1 / 344 ، و شرح إبن أبي الحديد : 2 / 100 طبعة دار الكتب ، و عيون الأخبار : 4 / 24 .
  • 35. بحار الانوار : 23 / 79 .
  • 36. سفينة البحار مادة ( زنى ) : 560 .
  • 37. المصدر : كتاب الطفل بين الوراثة و التربية للشيخ محمد تقي الفلسفي
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى