الدهشة بالمعنى الفكري هي حالة التنبه الذهني اليقظ التي يتكثف فيها التأمل ويتركز، ولا تحصل هذه الحالة في كل آن، ولا تظهر بطريقة عادية، وإنما تظهر بطريقة فارقة تتسم بالانتباه الذكي وعندئذ توصف بالدهشة التي تنكسر فيها الرتابة، وتنقشع منها الغفلة، وتحل فيها اليقظة، ويتجلى فيها التبصر.
والدهشة بهذا المعنى هي انتقال الفكر من حالة السكون إلى حالة الحركة، الحالة التي تعرف بتوقد الذهن، ويقظة الفكر، وتنبه الخيال، ومعها يخطو الفكر خطوات نحو البحث والاستكشاف بصور متعددة، من ابتكار السؤال، وليس انتهاء باكتشاف النظريات والأفكار، ومنها الأفكار الموصوفة بالعظيمة التي بإمكانها أن تحرك التاريخ، وتغير المجتمعات، وتصنع الأمم.
وفي تاريخ الفكر الإنساني القديم، ارتبطت الدهشة بالفلسفة واقترنت بها، بل من الدهشة بدأت الفلسفة التي عدت لاحقا أم العلوم، فالدهشة كما يقول الفيلسوف اليوناني أرسطو هي التي دفعت الناس إلى التفلسف، الأمر الذي يعني أن الدهشة لها تاريخ مدهش حين اتصلت بالفلسفة وتلازمت معها، وأصبحت تاليا من كلمات قاموسها الفكري، واكتسبت صفتها، وتلونت بها، وباتت تعرف بالدهشة الفلسفية.
وما من فيلسوف قديما وحديثا وبين الملل والنحل كافة، إلا وله سيرة خاصة ولعلها مميزة مع الدهشة المدهشة، التي لا تكاد تفارق الفيلسوف أبدا، تحضر هذه الدهشة اسما ووصفا وفكرة في خطابه وبيانه ولا تغيب فكريا ولسانيا، حين يسمعها يلتفت إليها بشدة، وحين يتحدث عنها يلفت الانتباه إليها بشدة، لهذا فهو أفضل من يفهمها، وأفضل من يتفطن لها، وأفضل من يتحدث عنها.
وبفضل هذه الدهشة أصبح الفيلسوف يعرف أكثر من غيره بيقظة الفكر، وبات الفكر عنده لا يعرف الخمول والسكون ولا الجمود، وإنما هو في حالة يقظة شديدة ومستمرة، ولهذا نرى أن الفيلسوف لا يمر على الظواهر الكبرى الفكرية والحسية، الفردية والاجتماعية، كما يمر عليها سائر الناس من دون توقف والتفات، لكون هؤلاء في الغالب لا يعرفون بحس الدهشة كما يعرف بها الفيلسوف، فهي حاسته وموهبته التي تجعل من الظواهر الكبرى مقترنة عنده بالمعاني، وتمثل له حقلا لتوليد المعاني.
ومن هذه الجهة تظهر المفارقة، وتبرز المفاضلة بين الفكر الذي يعرف بإثارة الدهشة، والفكر الفاقد لهذه القدرة، وتتجلى هذه المفارقة بين الفكر الذي يحفز الذهن، ويبهج العقل، وينشط التأمل، ويوسع الخيال، وبين الفكر الذي يكرر نفسه، ويراوح مكانه، ولا يتخطى لحظته، ويظل ساكنا جامدا رتيبا لا يبهج بشيء.
والأصل في الفكر أن يعرف بالدهشة وإثارة الدهشة، وتظل هذه الصفة تلازمه وتبقى معه، وتصبح علامة دالة عليه، يعرف بها، وتعرف به، بشكل يصح القول معه أن لا فكر بلا دهشة، ولا دهشة بلا فكر، فكما يقود الفكر إلى الدهشة، تقود الدهشة إلى الفكر، باعتبار أن الدهشة مكانها الفكر، ونعني بها الدهشة الفكرية والفلسفية، فلا قيمة حقيقية لفكر لا يعرف بالدهشة وإثارة الدهشة.
هذا من ناحية الأصل، أما من ناحية الواقع، فهناك صور مغايرة تماما، صور تصل في بعض حالاتها ليس فقط بعدم إثارة الدهشة، وإنما في سلب هذه الدهشة وطمسها بل وتجفيفها. وما أكثر الكتابات على أصنافها الفكرية والأدبية والاجتماعية والدينية وغيرها، التي تصنف على هذا النمط في المجال العربي، كتابات يجري تداولها، وتحظى بالمتابعة والاهتمام، وتكون خاوية وضحلة ولا قيمة لها.
تكشف هذه المفارقة عن صورة لحال الفكر الذي يمر بأزمة شديدة في المجال العربي المعاصر، أزمة يعترف بها الجميع تقريبا، ولا يكاد يختلف عليها أحد من شدة ظهورها، أزمة أصابت الفكر في الصميم، وسلبت منه أو قلصت أعظم سمة له، هي سمة الدهشة وإثارة الدهشة.
وما يدعو لإثارة هذه القضية ما نراه من فائض الكلام المنشور والمتداول عبر الوسائط المختلفة الورقية والإلكترونية، وفي شبكات التواصل الاجتماعي على أنواعها، الكلام الذي يتصف بالرتابة والرتابة المستحكمة، ففي صورة منه يظهر وكأننا مستغرقون في الحدث اليومي واليوميات عموما، كما لو أننا منحبسون في لحظتنا، واضعين على أنفسنا سياجا يحجبنا عن النظر إلى ما هو أبعد من ذلك، أو كأننا واقفون لا نتمكن من السير بخطوات متتابعة ومتسارعة.
وفي صورة أخرى، يظهر وكأننا منشغلون بأنفسنا بخصوماتنا وخلافاتنا ونزاعاتنا على أنماطها وأشكالها الشخصية والجماعية والمناطقية والمذهبية وغيرها، لا نحسن إلا التجريح بذواتنا، ولا نتفنن إلا بأدب السجال والحجاج، الوضع الذي يسد علينا طريق المستقبل، والتفكير بالمستقبل، ويحجب عنا النظر البعيد، والبحث عن أفق جديد.
في ظل هذه الحالات وغيرها، تتأكد من جهة الحاجة إلى ضرورة التخلص من هذا الوضع الرتيب، وتتأكد من جهة أخرى الحاجة إلى الفكر الذي يثير الدهشة حتى نخرج من هذا الأفق الضيق إلى البحث عن أفق بعيد1.
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة الرياض، الخميس 29 يونيو 2017م، العدد 17902.